في كل مجتمع هناك تفاعلات تجري داخل نسيجه وبنيته، كثير منها يخرج على السطح، وبعضها يظل مخفيًا في العمق. وتحرص مختلف النظم السياسية أن تخرج ما في عمق مجتمعاتها من تفاعلات، تساعدها على اتخاذ القرارات المناسبة، لصالح شعوبها، أو لتلافي أخطار محتملة.

والحقيقة أن هناك تفاعلات حتى لو حجبت في العلن، فهي موجودة في العمق. وهي تتبلور في البلاد الديمقراطية في رأي عام وأحزاب وجمعيات أهلية. أما في بلادنا فكثير من هذه التفاعلات التي يفترض أن تظهر على السطح تظل غير مرئية أو مخفية، مهما كانت قدرات أي نظام سياسي في امتلاك أدوات لمعرفة توجهات الناس والرأي العام. إلا أن حركة الشعوب وتفاعلات الباطن لا يمكن الوصول لها بدقة.

وعادة ما تحرص النظم السياسية المختلفة لنقل جانب رئيسي من هذه التفاعلات إلى النور، فحتى في ظل تجربة نظام الحزب الواحد الذي عرفته مصر في ستينيات القرن الماضي، فسنجد وفق ما أشار له الراحل الكبير عبد الغفار شكر عن منظمة الشباب الاشتراكي (تجربة مصرية في إعداد القيادات 1963 إلى 1976) الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، إن إدارة البلد والمنظمة لم يكن عشوائيًا ولا أمنيًا (رغم وجود الاثنين)، إنما كان في جانب رئيسي منه سياسيًا، وكان هناك حرص في داخل عدد من تنظيمات الدولة السياسية على خلق قنوات اتصال مع الجماهير حتى لو كان فيها كثير من نقاط الضعف.

أما في دولة القانون والنظم الديمقراطية، فإنها تحرص على أن يكون هناك مسار سياسي قادر على دمج الغالبية العظمي من التيارات السياسية والمنظمات الوسيطة من نقابات ومؤسسات أهلية داخل القنوات الشرعية من برلمان ومحليات تمثل همزة وصل بين النظام القائم والشعب، وتحول مطالب الثاني وطموحاته إلى رؤى سياسية تتنافس في النور وفي العلن.

وكما سبق وأشرنا أن في كل نظام العالم ديمقراطية أو غير ديمقراطية، هناك دائمًا نقاش عام «Public Debate» يعالج مختلف القضايا من تعليم وصحة واقتصاد وسياسة، وهناك قواعد تنظيم هذا النقاش محكومة بالدستور القانون، أما في نظم الحزب الواحد أو نظم التعددية المقيدة فهناك خطوط حمراء توضع عادة على القضايا الكبرى، وتترك باقي التفاصيل للنقاش والجدل المحكوم، حتى تمتص جانب من غضب الناس وتحقق طموحاتهم وتعرف أيضًا توجهاتهم.

ولم يحدث في تاريخ النظم السياسية أن غاب الوسيط السياسي أي كان شكله، أو الوسيط الأهلي من نقابات وروابط شعبية ومجتمع مدني، وفي حال إضعاف هذه الوسائط يصبح هناك خطر كبير أن تقفز في وجوه الجميع «التفاعلات غير المرئية» التي تجري في بطن المجتمع سواء أخذت طابع اجتماعي أو سياسي أو احتجاجي أو عنفي.

والحقيقة، أن هذه التفاعلات غير المرئية قد تأخذ شكل سلبي بانسحاب قطاع واسع من الناس عن المشاركة في الأحداث التي تجري حولهم، بدءًا من الانتخابات البرلمانية التي شهدنا ضعف نسب المشاركة وتزايد ظواهر «المقاطعة السلبية»، أو الابتعاد عما يقدم من رسائل إعلامية، أو عدم الاكتراث بحديث كثير من المؤيدين الصادقين عن إنجازات تجري في الواقع خاصة في مجال الإنشاءات والمدن الجديدة.

فيصبح الانكفاء على الذات أو الانسحاب من أي تفاعل مع المنظومة السياسية السائدة أمر غالب لدي كثيرين، أما «الإيجابيين» الذين يتفاعلون مع الأحداث فنجد بعضهم يصرخون معلقين على أزياء الممثلات في مهرجان الجونة، أو شاركوا بهمه في خناقات رئيس نادي الزمالك، أو أدلوا برأيهم بحماس منقطع النظير في قضية «كبري» مثل عدم حب محمد صلاح للخمر دون أن يشير بشكل صريح إنها حرام.

إن أحد الأزمات الكبيرة هي غياب «التفاعلات المرئية» والمعلنة حول القضايا التي تمس حياة المواطنين وتصنع تقدم البلاد والعباد، مثل تقييم المشاريع الاقتصادية والمطالبة بوضع تصورات للتنمية السياسية بجانب قضايا الصحة والتعليم والموصلات، كما غاب أيضًا الوسيط السياسي والنقابي والأهلي الذي يضمن وجود قنوات تواصل بين السلطة والشعب، وهو ما جعل كثير من تفاعلات المجتمع تجري في عمقه وليس على سطحه.

إن الحفاظ على استقرار البلد يكون بتحويل التفاعلات غير المرئية إلى تفاعلات مرئية للنقاش الحر في إطار الدستور والقانون، فلا يوجد مبرر واحد لأن يغيب نقاش عام حقيقي حول القضايا الحقيقية التي تصنع تقدم أي بلد وهي التعليم والصحة والتصنيع وتطوير الزراعة والعدالة الاجتماعية وأولويات التنمية وخطط تطوير الأحياء وغيرها.

إن التفاعلات التي جرت في مصر طوال السنوات السابقة كانت معظمها مخفية وفي دائرة غير المرئي وغير المتوقع، وإن كانت هذه الصراعات المكتومة قفزت في وجوهنا حتى اللحظة بصورة حميدة، سواء بالتفاعل مع بعض الغث الذي يقدم أو مع بعض اشتغالات الرأي العام في قضايا جزئية، وهي مخاطرة كبري لأنها تبدو وكأنها نجحت في شغل الناس في قضايا هامشية على سبيل الإلهاء، في حين أن تجارب الشعوب تقول إنها ستظل تناقش وتتفاعل مع قضاياها الحقيقية ولو بشكل غير مرئي وقد تنفجر في وجوهنا من حيث لا ندري عندها لن تفيد اشتغالات الرأي العام في «تظبيط» المرئي والمعلن لأنها لن تستطيع أن تصل لغير المرئي لأنها تعبر عن تفاعلات مجتمع وحركة شعوب وليس تنظيمات يمكن حصارها.

تحتاج مصر لقوة من يعملون ويفكرون ويختلفون في النور لتهزم من هم في الظلام.

للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا