في مراحله الجنينية، يمر التقارب المصري التركي المحتمل ببطء لا يخلو من خلط للأوراق، وانتظار نتائج ملفات عالقة بين البلدين. في المقابل تتسارع عملية تطبيع العلاقات بين أنقرة ودول خليجية في لافتة مهمة ومؤثرة على بقية ملفات المنطقة. كما تزيد التوقعات بشأن حالة مماثلة مع القاهرة.

ويستند التعطل الذي أصاب المفاوضات المصرية- التركية، إلى أمرين، الأول تمسك مصر بمطالبها كاملة قبل تطبيع العلاقات، وهو ما برز من تتابع التصريحات الإيجابية من الجانب التركي يقابله رد مقتضب من مصر مفاداه “ننتظر المزيد”، والثاني عدم حسم عدد من الملفات المشتركة في مناطق أخرى، أهمها الداخل الليبي الذي تتمسك تركيا ببقاء قواتها هناك، بينما تشترط القاهرة الانسحاب الكامل، بالإضافة إلى ملف غاز المتوسط الذي تتحسب القاهرة في خطواتها تجاه إشراك أنقرة فيه، فيما لم تقدم الأخيرة إشارات واضحة على تغيير سياستها إزاء مصر، باستثناء خفض غير مؤثر للغة الإعلام والتلاسن.

مسارات ملف غاز المتوسط والتطورات في ليبيا

واقعيًا يبدو الملف الأكثر أهمية والأبرز ضمن ملفات الخلاف هو “غاز المتوسط” وهو بدوره الملف الذي جرّ وراءها عدة ملفات أخرى جعلت الواقع مأزومًا. فعندما ذهبت أنقرة إلى ليبيا كان الهدف الأبرز هو مزاحمة المتنازعين في البحر المتوسط. ذلك في محاولة من أنقرة لوضع نفسها في موقع متقدم بين أطراف التنازع. لكن محاولتها فشلت، وزاد التضييق عليها مع التحالف المصري المتوسطي الذي جرى تدشينه.

وباعتبار أن هذا الملف هو الأكثر أهمية وحساسية، فإنّ حسمه يتوقف على تطورات الوضع في ليبيا. وهو ما لن يحدث قبل اتضاح أمر الانتخابات المرتقبة. ومن ثمّ انسحاب القوات التركية من الأراضي الليبية، ومعها سينكشف جزء من الأزمة على إمكانية التحرك الفعلي نحو التقارب.

جانب من القمة الثلاثية بين مصر وقبرص واليونان
جانب من القمة الثلاثية بين مصر وقبرص واليونان

لذلك، فإن مسار العلاقات بين مصر وتركيا في إطار الخلاف حول غاز المتوسط يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتطورات الجارية في ليبيا. وهو ما يشير إلى احتمالين رئيسيين:

الاحتمال الأول: أن تجرى الانتخابات وفق الجدول الزمني المقرر لها، ومعها يتجه الواقع الليبي إلى الاستقرار، ويتوازى معه انسحاب متزامن وكلي للمقاتلين الأجانب، وفي هذا السيناريو يمكن القول إن المفاوضات حول ملف الغاز يمكن أن تشهد تقدمًا بين البلدين.

الاحتمال الثاني: يتمثل في عدم الوفاء بموعد الانتخابات ومعها تختلط الأوراق الدولية في ليبيا، وهو ما يعني بقاء المرتزقة والمقاتلين الأجانب، وفي هذا السيناريو لا يمكن توقع الوصول إلى تفاهمات في ملف الغاز.

تطورات الحدث الليبي

على الصعيد الليبي، ثمة تطورين مهمين في مسار التسوية الجارية، وإن كان الحكم على نتائجهما لا يحتاج تسرعًا.

التطور الأول: انتقال اللجنة العسكرية الليبية المشتركة (5+5) إلى تركيا وروسيا للتفاوض على سحب المرتزقة والمقاتلين الأجانب. فمنذ الجمعة عقدت اللجنة اجتماعات في أنقرة مع مسؤولين في وزارة الدفاع التركية، بحضور ممثلين عن بعثة الأمم في ليبيا. دارت اللقاءات حول خطة عمل لإخراج جميع المرتزقة والمقاتلين الأجانب والقوات الأجنبية من الأراضي الليبية. على أن يكون ذلك بشكل تدريجي ومتوازن ومتزامن، وفق بيان لوزارة الدفاع التركية. ثم انتقلت اللجنة إلى موسكو، حيث من المقرر أن تجتمع اليوم الأربعاء، مع مسؤولين روس.

التطور الثاني: تعيين الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس الأمريكية ستيفاني وليامز مستشارة خاصة له بشأن ليبيا. وهي الدبلوماسية التي كانت تقود بعثة الأمم المتحدة بالإنابة خلفًا لغسان سلامة الذي استقال العام الماضي. وهي الشخصية التي تمتلك خبرة كبيرة في الملف الليبي وتجد تجاوبًا مع الأطراف الليبية.

ستيفاني وليامز بدأت مهمتها بالاتصال باللجنة العسكرية
ستيفاني وليامز بدأت مهمتها بالاتصال باللجنة العسكرية

النتيجة

كنتيجة مباشرة لهذه التطورات، أجرت وليامز اتصالا هاتفيا باللجنة العسكرية فور وصولها روسيا، للحديث عن خطوات الانسحاب. ثم أعلن آمر التوجيه المعنوي بالقيادة العامة للقوات المسلحة الليبية، اللواء خالد المحجوب، عن نتائج أولية من اجتماعات اللجنة العسكرية مع الأتراك -جاءت في سياق متفائل- بانتظار نتائج أعمالها في روسيا.

لذلك، فإن تسارع الأحداث في ليبيا ومستوى قربها أو بعدها عن دائرة الحل السياسي يترك تأثيرًا مباشرًا على علاقات مصر وتركيا المرتقبة. هذا لا يعني أن الدولتين تتأثران بالملف الليبي بقدر ما يعني أنهما يؤثران فيه أيضًا.

ملف الإخوان.. ورقة غير صالحة للاستعمال

من الواضح أن ملف الإخوان، هو أحد أسرع الملفات التي تستطيع تركيا معالجتها بشكل كامل، استنادًا إلى مراكمة أفعال أنقرة تجاه الجماعات الإسلامية عمومًا، إذ تظهر أنقرة قدرًا من البراغماتية باعتبارهم ورقة ضغط في سياساتها الخارجية، لذلك جاءت الخطوة التركية الأولى والسريعة عن طريق وقف برامج وقنوات وخطاب العناصر المحسوبة على جماعة الإخوان من أراضيها.

الخطوة الأسهل.. لكنها غير مقنعة

يمكن اعتبار أن الحديث الدائر الآن في الغرف التركية ليس عن تصفير ملف الإخوان بما يتناسب مع الموقف المصري أم لا، بقدر ما هي نقاشات حول كيفية القيام بذلك بما تستطيع معه تركيا تحقيق مكاسب في المفاوضات الجارية، ذلك أن المرحلة الحالية تخطت الحديث عن إعادة صياغة علاقة تركيا بالجماعة إلى خطوات تنفيذية.

لذلك نستطيع القول إن تركيا بدأت بالملف الأسهل بالنسبة لها، من خلال خطوات بدت أمام المفاوض المصري غير مقنعة أو مؤثرة، فغلق قنوات أو منع الهجوم على السلطات المصرية انطلاقا من أراضيها ليست الخطوات التي تغيِّر مسار علاقات بلدين غير متفاهمين في العديد من الملفات.

السلطات المصرية أبدت، من خلال التصريحات المتواترة، أنها غير مقتنعة بالتحرك التركي في مسار التفاوض. خاصة أن وزارة الخارجية والوزير سامح شكري كرر في عدة مناسبات أن ثمة ملفات تنتظر مصر كيف تتعامل تركيا معها، وهي صيغة تشير إلى مطالب وشروط مصرية لم تتجاوب أنقرة معها.

لذلك قال سامح شكري إن “هناك المزيد من العمل الذي يتعين القيام به، وأنه عندما تشعر مصر بالرضا عن حل القضايا العالقة، فإن الباب سيفتح أمام مزيد من التقدم”، وهي اللغة الدبلوماسية التي تشير إلى أن تركيا هي المطالبة بالذهاب إلى مصر، ليس العكس.

أتراك يلوحون بعلامة داعمة لجماعة الإخوان في مصر
أتراك يلوحون بعلامة داعمة لجماعة الإخوان في مصر

خدعة تركية

واحدة من الأسباب التي قادت إلى عرقلة مسار المفاوضات، أو بالأحرى أبطأت حركتها، تلك الخدعة التي لجأت إليها تركيا للإبقاء على ورقة الإخوان في يديها. فعندما أصرت مصر على ترحيل مطلوبين محسوبين على الجماعة، ثار خلاف بالأوساط التركية، باعتبار أن خطوة كهذه يمكن أن تجد معارضة لدى حزب العدالة والتنمية الحاكم.

لدى تلك المرحلة، لجأت أنقرة إلى حيلة كشفها الجانب المصري، من خلال منح أعداد كبيرة من الجماعة الجنسية التركية. وهي الخطوة التي يمكن أن تمثل معيارًا تفاوضيًا في حال تسليم المطلوبين باعتبارهم يحملون جنسيتها الإضافية. وهذا المخرج يبدو في ظاهره شعبويًا، ولكن ثمة أهداف قانونية تفطن القاهرة جيدًا لنتائجها. لذلك كان الرد المصري تجاه هذا الملف “صفري” تسليم دون شروط ودون عراقيل قانونية.

كما أن النقطة الأخرى في هذا الملف أن للنظام الحاكم في تركيا وجهين، الأول براغماتي والثاني أيديولوجي. لذلك فإن ورقة جماعة الإخوان حتى وإن كانت غير صالحة للاستخدام في المستقبل، لكن من الصعب على النظام التركي تمزيقها نهائيًا. وهو ما يرشح الإبقاء على جزء من الورقة مفعّلة، وهنا يبقى السؤال: هل تقبل القاهرة بهكذا سيناريو؟

واحدة من أسباب التململ الأخرى التي ربما أغضبت الجانب المصري، أن تركيا غضّت الطرف عن حالات خروج عديدة لقيادات إخوانية من تركيا إلى دول آسيوية سرًا، خاصة ماليزيا وأندونيسيا، وذلك تحسبًا للحظة اتفاق تركي- مصري يقضي بتسليم المطلوبين.

لماذا تحتاج تركيا إلى مصر؟

المحددات السابقة تشير إلى أن تركيا هي من تخطو نحو مصر، بينما الأخيرة تنتظر تنفيذ المطالب. يتضح ذلك من التصريحات المصرية، بالإضافة إلى التركية أيضًا؛ فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان يقول: “مصر ليست دولة عادية بالنسبة لتركيا”. وهو يريد تعزيز التعاون معها إلى أقصى حد، على أساس نهج يحقق الفائدة للجميع. تلك تصريحات منْ كان يرى النظام انقلابًا ويجاهر بالعداء طوال الوقت، الذي حوّله إلى هذه المنطقة الأسباب التالية:

الدور المصري في ليبيا

كان لخطٍ رسمه الرئيس المصري أمام القوات التركية التي كانت تقود المجموعات المسلحة غرب ليبيا، أن غيّر المعادلة تمامًا ومنع حربًا إقليمية كانت تطل برأسها. وبعدها جرى التوقيع على “إعلان القاهرة”. ثم ذهبت الأطراف الليبية إلى جنيف وعادت باتفاق سياسي وعسكري، بوقف إطلاق النار وتشكيل حكومة انتقالية.

منذ ذلك الحين أظهرت مصر حجم ثقلها في الملف الليبي، ليس لأنها منعت تركيا من تجاوز خط وسط ليبيا، أو حجَّم دورها، لكن لحضورها الطاغي لاحقًا، سياسيًا واقتصاديًا، لاسيما في ملف إعادة الإعمار، وهو ما شجّع تركيا للإسراع تجاه مصر لتطبيع العلاقات وحل الخلافات.

حقول الغاز والعزلة الشرق أوسطية

من الواضح أن ملف غاز شرق المتوسط هو المحرّك الأساسي وراء التصريحات التركية الوردية، ومحاولات التقارب مع مصر، بهدف الخروج من العزلة التي تعيشها في الشرق الأوسط وأوروبا، لاسيما بعد أن قادت القاهرة هذا الملف منفردة، ووقعت مع اليونان اتفاقية لترسيم حدودهما البحرية. بالإضافة لتأسيس “منتدى غاز شرق المتوسط”، الذي يضم مصر وقبرص واليونان وإسرائيل والأردن وإيطاليا.

ومنطقة شرق المتوسط واحدة من أغنى المناطق بالغاز الطبيعي. ويقدر تقرير لهيئة المسح الجيولوجية الأمريكية عام 2010 وجود 3455 مليار متر مكعب من الغاز. وكذلك 1.7 مليار برميل من النفط في المنطقة.

لذلك، تحاول تركيا كسر حالة العزلة التي تعيشها حاليًا، بعدما باتت محاطة بالأعداء من الجهات الأربع، لذلك سارعت إلى تطبيع العلاقات مع دول خليجية بغرض تخفيف الضغط الذي تواجهه في مناطق النزاعات بالمنطقة، لاسيما أن الطرفين يقفان على طرفي النقيض، وهو ما يتوافر أيضًا مع الحالة المصرية.

إسعاف الاقتصاد

هذه العزلة بالإضافة إلى إقحام بلاده في الصراعات الجارية بالمنطقة، جعلت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان غير قادر على التحكم في السفينة أمام الأمواج العاصفة. فالاقتصاد يشهد واحدة من أكثر حالات التدهور في تاريخه، والعملة المحلية في مستوى تاريخي بالقاع، أضف إلى ذلك فشل المغامرات العسكرية في ليبيا وسوريا، رغم التكلفة الاقتصادية الهائلة.

لم يجد أردوغان طريقًا غير تصفير الأزمات، لضخ الدماء في وريد الاقتصاد التركي، لذلك غلّف تطوير علاقات بلاده مع الإمارات باتفاقيات اقتصادية بمليارات الدولارت، باعتبار أن استمرار الخلافات سيقود حتما إلى السقوط المدوي وهو على بعد خطوات من انتخابات تهدد استمراره.

الاقتصاد التركي يئن
الاقتصاد التركي يئن

تقارب مصر والعراق

منذ نوفمبر 2020، وتشهد العلاقات المصرية العراقية تقاربًا سريعا وعميقا على عدة مستويات، سياسية وأمنية واقتصادية. فبعدما عقدت اللجنة اللجنة العليا المشتركة بين مصر والعراق، والتي أدارها رئيسا وزراء البلدين، المصري مصطفى مدبولي، ونظيره مصطفى الكاظمي، جرى الحديث عن اتفاقيات اقتصادية ومشروع “الشام الجديد”، ثم انتقل التفاعل إلى مستوى أمني على غرار انخراط مصر في حوار إقليمي يُدار من بغداد.

التواجد المصري على الحدود المتاخمة لتركيا، يسبب إزعاجا لأنقرة التي قرأت الأهداف المصرية وراء تصريح لرئيس الوزراء مصطفى مدبولي عندما قال إن القاهرة وبغداد اتفاقا على قضية الأمن المائي للدولتين، باعتبارهما دولتي مصب، والتأكيد على أنها إحدى قضايا الأمن القومي المشتركة، بينما تختلف العراق مع تركيا لضمان استمرار تدفق المياه من نهري دجلة والفرات بعد إقامة أنقرة لسد “إليسو”، وهي القضية المشابهة لأزمة سد النهضة بالنسبة لمصر.

الحوار الإقليمي

الحوار الإقليمي الجاري حاليًا، والذي بدت ملامحه بتقارب تركي إماراتي وآخر سعودي، ثم محادثات إماراتية إيرانية وأخرى سعودية، تجعل أنقرة مندفعة إلى إعادة صياغة سياساتها الخارجية بما يتوافق مع هذه المتغيرات، والتي تعني أن ثمة رغبة في تصفير الأزمات بالمنطقة.

الملاحظ أن التباطؤ في المحادثات التركية المصرية، يقابلها تسارع في التطبيع مع دول الخليج العربية. وهو في كل الأحوال يساعد أو يؤشر على أن حل الخلافات بين أنقرة والقاهرة باتت مسألة وقت، باعتبار أن مصر الحليفة لدول الخليج تتشارك في العديد من الملفات التي من المقرر أن تحسمها تركيا والخليج.

.. وماذا بعد؟

في سياق ما سبق، يبدو أن الوصول إلى حلول توافقية بات مسألة وقت، وذلك اتساقًا مع المتغيرات الإقليمية. ولكن التباطؤ الحادث في المباحثات بين مصر وتركيا يرتبط بشكل كبير بمصير ملفات أخرى بالمنطقة، فعندما تجد الأزمة الليبية مستوى من الاستقرار، يمكن القول إن العلاقات في منتصف طريق التقارب والتطبيع. كما أن الأحداث المتسارعة في المنطقة لدرجة أن يومًا واحدًا خلال الأسبوع الجاري شهد تواجد أردوغان في قطر وأكبر مسؤول أمني إماراتي في إيران، بعد الزيارة التاريخية لمحمد بن زايد إلى تركيا، ثم انتقل ولي العهد السعودي إلى عمان، كلها سباق مع الزمن لإعادة رسم ملامح المنطقة.

اقرأ أيضًا| صراع شرق المتوسط: تركيا تهدد اليونان.. وقبرص تحذر من «عدوانية تركيا»

اقرأ أيضًا| تقارب الإمارات وتركيا.. ماذا وراء عودة الضحكة الصفراء؟