الصفحات الأربع الأولى من رواية محمد خير “إفلات الأصابع“، بحسب هذه القراءة، هي صفحات تأسيسية هامة للغاية في بنية الرواية، ويمكن إجمالها بالتالي: لا نعرف شخصية راوي هذا الجزء. نحن في عزبة (قرية) قريبة من المركز، في فصل صيف يتزامن مع حلول شهر رمضان في الفترة ما بين (2007- 2016)، ونتوقع أن يتم تحديد أدق للمكان والزمان في صفحات الرواية الباقية. تُنبئ الأم (سيدة) ابنها (أحمد) أن أباه المتوفى قبل أقل من أربعة أشهر جاءها في المنام، ثم يتكرر قولها، وفي كل مرة تذكر أمرًا جاءها صراحة أو تلميحًا، الواقع أن الأب عاد لحكم البيت من قبره، عبر رؤيا الأم، وبحسب التفسيرات الدينية الشائعة، فإن هذه الرؤيا وما يتضمنها “أمر من الله”.

السمات الاجتماعية للابن، هي: يعمل عملين، يبحث عن خطيبة، مضطرب المشاعر تجاه استئناف أباه حكم البيت، وقد كان في حياته “متألما” منه، أما اسم “أحمد” فيرد، هكذا مبتورًا عن اسم الأب والجد، مرات في قصص، وقصائد لمحمد خير، في بعض تلك القصص (آثار جانبية لمطر خفيف، الدبيب) تشابهات ضعيفة مع أحمد “إفلات الأصابع”.

السمة الظاهرية للأب في المنام: يرتدي جلابية العيد، ويجلس أمام التلفاز.

هذه الشخصيات والأحداث يمكن للقارئ أن يأخذها على معانيها الظاهرة المباشرة، باعتبارها متواترة الحدوث في البيوت المصرية، بمختلف تلوناتها الاجتماعية (الطبقية، الدينية، الثقافية)، ثم هناك روابط تنشأ عنها، فهناك روابط لغوية مباشرة، وأخرى سياسية، ودينية، وهناك رابطان فكريان، يتصلان بفرويد وهشام شرابي، وكل هذه التأويلات- الروابط، منفتحة، وسوف نتتبعها، فيما بقى من النص الذي تركنا قراءته عند: أتاه أبوه في المنام للمرة الأولى، وقف عند مدخل الغرفة حزينًا، وأشار برأسه إلى اتجاه غرفة نومه، وقال له: قُم، أيقظ أمك.

*******************

التوقع الأولي يفشل. فالصفحات التالية (أقل من أربع)، المعنونة “المارة لم يهتموا بما نفعل”، لا علاقة لها بما مضى، ولا أثر لتلك “القفلة” المثيرة/ المشوقة. هناك رابط ضعيف للغاية، لكننا تدربنا على تتبع كل رابط مهما ظهر للوهلة الأولى ضعيفًا، فراوي هذه الصفحات، يخبرنا أن خطوات “بحر” سريعة رغم قصر ساقيه، ثم يخبرنا أن هامة “بحر” قصيرة، وهنا يرد خاطر من “البط” (قصير العُنُق والرِّجلين وعريض المنقار).

نحن في محرم بك (الإسكندرية) في بدايات الشتاء، ولا إشارة مطلقًا للسنة. وهناك حضور للموت، يخبرنا الراوي أن “بحر” بـ”شعره الأشيب الأنيق ونظارته الحمراء الغريبة (يعاود خاطر البط، فبط الخشب منقاره أحمر) وحيويته التي فسرتها بحياته الطويلة في الخارج، لم يك يبدو إطلاقًا كشخص سوف يموت بعد أقل من شهر واحد”.

ماذا يفعل الراوي و”بحر” هناك؟

يقفان في بقعة شبه دائرية بالغة الصغر، حيث يأتي ترامان متوازيان متعاكسان، الأيمن مقدمته عجوز متهالكة، والأيسر دون وصف، و”صوت العجلات هائل ونَفَسُ الموت حاضر والضوء اختفى خلف الترامين العابرين”. في تلك اللحظة رأها الراوي “كانت تجلس إلى ماكينة الخياطة في ثياب النوم، وتنظر إليّ (الرواي) متفحصة، قبل أن تقول بشيء من الدهشة: كبرت يا سيف”.

الراوي، إذن، اسمه سيف. فهل هو راوي ما سبق من صفحات؟ لا نعرف بعد.

يسأل، بحر، سيف “من رأيت؟” حين وازاهما الترامان، فيخبره أنه رأى أمه.

كنا قد عرفنا اسم الشخص الذي ناداه اللحم من أمه، وعرفنا أن اسم أحمد قد ورد من قبل في قصص محمد خير، وها نحن نعرف اسم سيف أيضًا عبر أمه. الأم ترى في المنام زوجها المتوفى، وسيف يرى أمه- لا نعرف ما إذا كانت حية أم متوفية- في اليقظة، في لحظة خطر كبير (لو تحركنا ملليمترا لدهستنا إحدى عربات الترام)، وفي وسط شعور بالرعب من أن يجد نفسه على “القضيب” الخطأ.

ما الترامان، وما تلك البقعة؟

يخبرنا سيف (الراوي) أن الترامين المتوازيين المتعاكسي الاتجاه بديا له كأنهما “لن ينتهيا أبدا”، وأن “بحر” يسمى البقعة شبه الدائرية بالغة الصغر “نقطة النجاة”، ويتسأل (سيف): هل أنشأتها الصدفة أم صممها مهندس عمدا، كلعبة سرية، ومن اكتشفها هنا؟.

هنا يبرز رابط “تأويلي” فخلال الفترة من يوم 28 يناير وحتى يوم 11 فبراير 2011 ، كان ميدان التحرير، بالنسبة لعدد كبير من المصريين أكثر بقعة آمنة على وجه الأرض، وعلى مر التاريخ، تاريخهم الشخصي بالطبع.

ميدان التحرير، القاهرة 28 يناير- 11 فبراير 2011
ميدان التحرير، القاهرة 28 يناير- 11 فبراير 2011

أما اسم سيف فقد صادفناه من قبل في قصص محمد خير، ضمن مجموعة “رمش العين” (2014)، التي يهديها إلى هاني درويش، ففي قصة “يا عيسى”، أولى قصص المجموعة، تموت سلمى زوجة سيف إثر حادث سيارة، وكانت وهي تنازع الموت في المستشفى تنادي على “عيسى”، وقد ظنت الطبيبة وهي تخبر سيف بخبر الوفاة أنه هو عيسى؛ الذي ظلت المريضة تردد اسمه مع أنفاسها الأخيرة. فهل سيف “إفلات الأصابع” هو سيف “يا عيسى”، الذي بقي “بين خيوط الخوف والتردد والخجل” منتظرًا أن تنظر إليه سلمى حال دخوله البيت، أم سيف آخر.

هاني درويش 1974- 2013
هاني درويش 1974- 2013

************

عدد صفحات الجزء التالي أكثر بنحو واحدة من كل سابقيه، وهو بدوره لا علاقة له مباشرة بهما. لا رؤيا في المنام، ولا في اليقظة؛ هنا، البداية مع كوابيس، يستيقظ الشخص الذي يتناوله الجزء المعنون “كنت فين يا علي” من نوبات شلل النوم، في مكان لا يعرفه، ولا يعرف ماذا جرى له، ولا يتذكر كيف جاء إلى هذه البقعة، إنه تائه، في مكان لا يعرفه.

ويبدأ التذكر تدريجيا: كان يتجهز لحفل عرسه على نهى، هذا كل ما يتذكره. سيعرف فيما بعد أنه غاب لثلاثة أيام (من الخميس إلى الأحد)، لا يوم واحد، ويتسأل: ماذا يجرى وماذا جرى له وللدنيا ولنهي. ويعرف فيما بعد أن نهي رحلت وأسرتها من مسكنهم، فلم يتحملوا “العار”. يعود الغائب “سليم” لم يمس، ولكن ليس لديه ما يشفي الغليل.

هنا علاقة أخرى مبتورة، زيجة وعرس يتهدم قبل أن يتم بلحظات، وهناك أحمد تمنعه منامات أمه وحكم أبيه للبيت من قبره من خطبة إثر أُخرى.

لم نعرف ما جرى لعلي، وقد لا نعرف، نعرف أنه سمع صوتا أنثويا، ثم استيقظ في بقعة تتوسط المسافة بين القاهرة والإسكندرية أو هي أقرب إلى الأخيرة، يستيقظ في قرية غريبة بعض الشيء، ويرى لافتة مطمورة في الترب مكتوب عليها اسم مكان لا يعرفه.

ويلوح رابط، فالمطمور، في غالب الأحوال، يوحي بمعاني ودلالات متباينة، فقد يكون: هاما، ثمينا، مقدسا، مدنسا. ويبدو كذلك أن القرية لها صلة بالمكان الأول الذي تعرفنا عليه، أو هي ذاتها “العزبة”.

*************

الجزء التالي يحمل ذات عنوان الفصل الأول “مشينا على الماء وقابلنا غريبا”. يصف سيف (الراوي) ما رأه هو وبحر: “رأينا بذهول، أو كنت أنا على الأقل مذهولا، رجلا يأتي من قلب النهر ماشيا على الماء”. ثم “اقترب الرجل وبدا يرتدي جلبابا”، وحين وصل (إلى الشط) حياهما وابتعد. ثم نزل بحر عن السلم الحجري ببطء، ولامس الماء، فغاصت قدماه إلى ما فوق الكعبين، كما كان الرجل ذو الجلباب، وقال (بحر) لسيف: هيا بنا.

الرجل ذو الجلباب، هل هو العائد لحكم البيت من قبره؟، هل الحدث الذي يجري لبحر وسيف، ويرويه سيف، هنا، حدث بالفعل، إنهما يقظانان، والرجل حياهما، ولو تذكرنا تتابع الكلمات الأولى من الرواية لكان معقولا أن نتصور أن الغريب هو “أبو أحمد”، وأن ذلك حدث قبل وفاته، فهو احتمال راجح حتى الآن، و”العزبة”، التي من المحتمل أن تكون هي ذاتها التي استيقظ فيها “علي”، أقرب إلى الإسكندرية منها للقاهرة، أي إحدى قرى وسط الدلتا، وأننا في يوم يقع بين الأيام الفاصلة بين 2007 و2016.

لا يتركنا (الراوي) سيف حيرى أمام موضوع “المشي على الماء” هذا، فيخبرنا أنه لم يك يعرف السر حين خطا خلف بحر في نيله الغريب، لكنه عرف فيما بعد “أنه قبل الفجر تنغلق بوابات السد القريب، وقد اكتشف الناس أن جزءا مرتفعا من القاع يصير قريبا جدا من وجه الماء لدقائق قليلة، فصاروا يعبرون تلك الطريق المختصرة في تلك الدقائق المعدودة قبل أن تنفتح البوابة. يمشون من البر إلى البر، فيبدون للغرباء كأنبياء أو أولياء يتبخترون فوق الماء بتواضع وجلال”.

يحاول، سيف (الراوي) تمييز صوت الموجات النيلية الهادئة، ثم يتذكر علياء.

كان ذلك في زمن قبل بحر. يصحو سيف في بيت صاحبه، ولم يشعر بالصدمة المصاحبة للاستيقاظ في مكان غريب، يصحو على صوت أنثوي عريض، ثم يراها (متوسطة الطول عريضة الجسد واسعة العينين حمراء الشعر) ترتدي جلبابا رجاليا أبيض… ونسيت العالم بالخارج.

فيما بعد يعرف أن علياء تعرف أسماء كل الأصوات “أصوات لم أكن أعرف أن لها أسماء، وأسماء لم أكن أعرف أن لها أصواتا، وكانت علياء تعرفها جميعا”.

صدى اسم علياء يأتي واضحًا من “رمش العين“، فقصة “وقت مستقطع” تبدأ بهذه الكلمات: “يمكنني أن أؤكد، بلا أدنى شك أنني أحببت علياء، بدءا من الحادية عشرة و55 دقيقة بالضبط، في ليلة الأول من أبريل”، ثم تنتهي القصة بهذه الكلمات: “كما بدأنا فجاة دون مقدمات، انتهينا فجاة دون نذير أو سبب”.

غلاف رواية (رمش العين) لمحمد خير
غلاف رواية (رمش العين) لمحمد خير

هكذا ينضاف السؤال حول اسم وشخص علياء إلى مثيليهما بالنسبة لأحمد وسيف.

لكن شخصية علياء، هنا، كثيفة للغاية، الكلمات القليلة التي يقدمها بها الراوي (سيف) تنشأ روابط واعدة: الجلباب الرجالي علامة قد تنمو دلالالتها، وقد ترتبط بصورة ما بنقد تلاميذ فرويد لإطروحاته حول أوديب وعقدته وأولوية النظام الأبوي، أما موضوع “معرفة الأسماء كلها” فمثير ومحفز للذهاب بالتأويل إلى مداه الأقصى.

**********

أجواء كفاكاوية يقدمها الرواي في الجزء المعنون “طبيبه” من خلال الملاحظات الأولى التي يرصدها أشرف، الطبيب الشاب، للمستشفى الذي يعمل به: “لا مرايا في هذا المكان..لم يلمح مريضا واحدا، أسرة معدودة وفارغة”، قد تقرأ على أنها تعبير عن محنة الطب الأخلاقية، وعن الطاقات المهدرة، وتبذير وسفه أصحاب الثروة والجاه، فالمستشفى “كلها مخصصة لمريض واحد، وهو ليس حتى رجلا مريضا”.

أما مسألة المرايا فقد تُنشأ رابط، وإن كان ضعيفا، مع دراسة جيزا روهايم عن “سحر المرآة” (1919)، فقد حلل أعرافا ومعتقدات فلكلورية متنوعة اشتملت على المرايا، مثل الخرافة المألوفة بأن كسر مرآة سوف يجلب سبع سنوات من الحظ العاثر. كما درس تابوهات عديدة ضد النظر إلى المرايا كمحاولات لقمع أمنيات طفولية ونرجسية غير اجتماعية.

جيزا روهايم 1891- 1953
جيزا روهايم 1891- 1953

لكن ذات مالك المستشفى تتجاوز كل هذا، فهو “قرر ألا يموت”، ويعرف كيف ينتقم، ثم أن وقع وجرس الاسم: السيد إبراهيم العلايلي، موحي، العلايلي يوازن “الجبلاوي” (أولاد حارتنا، نجيب محفوظ) كخاطر، دون تدقيق فيما سيفضي إليه هذا الخاطر.

والطلة الأولى لابنة العلايلي بدورها، كما أبناء “الجبلاوي” تتقبل تأويلات مختلفة، فقد بدت “غريبة، تنتمي للمكان ولا تنتمي في الوقت نفسه”. وأخيرا في عالم “العلايلي” هذا، هناك سلام “شاب نحيل” نهض حين اقتربت ابنة العلايلي من الباب وتبعها في صمت؛ وبدا كأنه لا ينتمي إلى عالمها.

وللعنوان “طبيبه” رابط ضعيف في الظاهر، لكنه قد يتقوى بما سيرد من صفحات الرواية. وهذا الرابط ينشأ من النظر إلى معجم “العين”، وهو أول معجم منسق للغة العربية، قام بكتابته الخليل بن أحمد الفراهيدي (100 هـ “718 ميلادي” – 170 هـ “778 ميلادي”)، ويعتمد في ترتيبه على مخارج الحروف من أعمق نقطة في الحلق مرورا بحركات اللسان وحتى أطراف الشفتين، وبذلك يكون أول حروفه هو العين وأخرها هو الميم، وفي مقدمة المعجم يشرح الفراهيدي طريقته: “أردت أن أبتدأ التأليف بعد حجة واستقصاء النظر، فدبرت ونظرت إلى الحروف كلها وذقتها فصيرت أولاها بالإبتداء أدخل حرف منها في الحلق”، والفراهيدي بذلك اتبع نظاما مخصوصا ابتدعه فلم يتبع النظام الأبجدي ولم يتبع الألفباء الهجائي. وفي هذا الترتيب يأتي حرف الطاء قبل الباء، ولذلك نقرأ في باب الطاء والباء، معاني الكلمات التي تتكون من ضم الحرفين بترتيبين: ط ب، ب ط، وهكذا يورد الفراهيدي المعاني المتولدة من كلمتي: طب، بط، فأما   ط ب فتكون كلمة: الطِّبُ (وهو): السِّحْرُ، والْمَطْبُوبُ: المَسْحُورُ. والطِّبُ: من تَطَبَّبَ الطَّبِيبُ. والطَّبُ: العالِمُ بالأمور. و(يقال): هُوَ بِهِ طَبٌ، أي: عالِمٌ. في حين يكون ترتيب ب ط كلمة: بط، ومعانيها هي: بط: بَطَّ الجُرْحَ بَطّاً، والْمِبَطُّ: المبضع. والبَطَّةُ: الدُّبَّةُ بلغة مكة. والْبَطُّ: معروف ، الواحدة : بَطَّةٌ. (يقال): بَطَّةٌ أُنْثَى، وبَطَّةٌ ذَكَر.. والْبَطْبَطَةُ: صوت الْبَطُّ. والْبَطِيطُ: العجيب من الأمر.

بهذه اللفتة إلى الفراهيدي يتعزز الحدس أن “إفلات الأصابع” تكتنز روابط هائلة، وما على القارئ إلا أن يضرب في معارفه ويستفز الكامن منها كي يقيم نصه الخاص من تفاعله مع الرواية.