مصير غامض صار ينتظر “النصر لصناعة الكوك والكيماويات”. وهي إحدى الشركات التابعة للشركة القابضة للصناعات المعدنية. إحدى قلاع الصناعة المصرية، تأسست مطلع الستينيات. إذ على ما يبدو أنها على مقربة من اللحاق بشقيقتها “الحديد والصلب”، التي قررت الحكومة تصفيتها في النصف الأول من العام الحالي 2021.

تحديدًا، ازدادت مخاوف عمال شركة “الكوك”، من تكرار سيناريو الحديد والصلب مع شركتهم، عقب التصريحات الأخيرة لوزير قطاع  الأعمال، هشام توفيق. قال خلال مداخلة تيلفونية  ببرنامج “صالة التحرير” على فضائية “صدى البلد”، إن “هناك شركة أخرى ستلقى نفس مصير الحديد والصلب، لأن لها ظروفها الخاصة”.

اعتبر العمال تصريحات الوزير إشارة إلى شركتهم، التي يحاولون إيقاف نزيف خسائرها، بإعادة تشغيل إنتاج آخر بطارتين صالحتين للعمل، بعدما توقفتا تمامًا عن الإنتاج منذ يونيو الماضي. وكان بفعل وقف استيراد الفحم الخام تنفيذًا لقرارات وزارة البيئة.

متى تأسست “النصر للكوك”؟

تأسست “شركة النصر لصناعة الكوك”  في عام 1960، بطاقة عمل بطارية واحدة وعدد 50 فرنًا. لتبدأ ضخ إنتاجها في العام 1964، بمعدل 328 ألف طن من الكوك سنويًا. وقد استخدم الجزء الأكبر من الإنتاج حينها لسد احتياجات مصنع حلوان للحديد والصلب من الوقود.

بعد عشرة أعوام أُنشأت البطارية الثانية بنفس عدد أفران، وبإنتاجية مماثلة للبطارية الأولى. وفي عام 1979 أنشأت البطارية الثالثة بعدد 65 فرنًا، وبطاقة إنتاجية بلغت 560 ألف طن كوك سنويًا. ثم أنشأت البطارية الرابعة عام 1993 بعدد 65 فرنًا، وبطاقة إنتاجية 560 ألف طن سنويًا. لتصبح الطاقة الإنتاجية للبطاريات الأربع  1.6 مليون طن كوك سنويًا.

تأسست "شركة النصر لصناعة الكوك"  في عام 1960
تأسست “شركة النصر لصناعة الكوك”  في عام 1960

منتجات الشركة

تضم الشركة أربعة مصانع، هي الكوك والأقسام الكيماوية، وتقطير القطران، والنترات، والوحدة متعددة الأغراض. وتنتج المصانع الأربعة: فحم الكوك والبنزول وكبريتات الأمونبوم والنتروجين ونترات الأمونيوم المسامية النقية. بالإضافة إلى قار الأقطاب والنفتالين، والأسمدة الآزوتية. فضلاً عن العديد من المنتجات التي تدخل في المجالات الزراعية والصناعية.

أيضًا، تمتلك الشركة ثلاثة أرصفة لاستقبال الفحم الخام الذي يتم استيراده من عدد من الدول. وفي مقدمة تلك الدول روسيا والولايات المتحدة الأميركية وأستراليا. كما تستخدم هذه الأرصفة أيضًا لتصدير منتجات الشركة من الكوك إلى الخارج. وهذه الأرصفة هي: رصيف بميناء الإسكندرية، وآخر بميناء الدخيلة بالاسكندرية. بالإضافة إلى رصيف ثالث على النيل لاستقبال الصنادل، سواء التي تنقل صادرات الشركة من الكوك أو لاستقبال واردات الفحم الحجري.

بداية أزمة “النصر للكوك”

يروي هشام العطار القيادي العمالي بالشركة، لـ”مصر 360″، عن بداية الأزمة. يقول: “في عام 2011 طلبت وزارة البيئة بناء بطارية متوافقة بيئيًا، بديلة للبطارية الثالثة، فعدنا إلى الشركة القابضة، التي قالت إن الميزانية لا تسمح بتوفير تكلفة البطارية”. كان رد الشركة يخالف أرباح “الكوك” الكبيرة، التي كان يذهب نحو نصفها إلى الشركة القابضة للصناعات المعدنية، على حد قول العطار.

حينها، كانت الشركة تعمل بـ 3 بطاريات. وكانت حوائط البطاريات قد بدأت في الانهيار، وتحتاج كل فترة إلى إعادة ترميم، تقوم بها شركات أجنبية. ما كان يكلف الشركة مبالغ كبيرة، وفق تصريحات العطار. فطرح العمال -آنذاك- أن تشيد بطارية جديدة بدلاً من الترميم، لكن لم يسمع أحد لهم. رغم أن عمليات الترميم كانت تتكلف كل ثلاثة سنوات ما يعادل نصف سعر بناء بطارية جديدة. ومع ذلك استمرت الشركة في تحقيق الأرباح.

تنفيذ الاشتراطات البيئية

يشير العطار إلى أنه بعد انهيار البطارية الثالثة، طلبت البيئة إنشاء ستائر مبللة، ورشاشات خلف البطاريات الثلاث المتبقية. كما طلبت رشاشات وخط مطافئ في ميناء الدخيلة للحد من الانبعاثات، التي تخرج من خام الفحم المستورد أثناء التفريغ والتحميل. وهو ما تم تنفيذه وفقًا لجميع الاشتراطات المطلوبة.

صيانة بيد العمال توفر ملايين الجنيهات

يقول عامل آخر -رفض ذكر اسمه- إنه في 2013 بدأت البطارية الثانية (الخط الأول) في الانهيار، فبادر عمال الشركة بترميمها وصيانتها، بتكلفة لم تتخط 20% من تكلفة الشركة الأجنبية المسؤولة عن الترميم. استمرت هذه البطارية في العمل لمدة تقترب من 3 أعوام، قبل أن تنهار حوائطها.

وفق العامل، كانت الإدارة حينها مصرة على الاستمرار في تشغيل البطارية. وهو أمر رفضه العمال حفاظًا على الأرواح. وانتهت الأزمة إلى خروج البطارية عن الخدمة في عام 2015. لتعمل الشركة منذ ذلك الحين ببطارتين فقط. هما الأولى والرابعة. ما أدى إلى انخفاض الإنتاج بشكل كبير، وبدأ نزيف الخسائر، على حد قوله.

“النصر للكوك”.. محاولات إنقاذ لم تكتمل

في أكتوبر من العام 2018، وقع المهندس عبد الجليل توفيق رئيس مجلس إدارة شركة “النصر للكوك” عقد اتفاق مع شركة “فاش ماش” الأوكرانية قائدة التحالف الفائز، بمناقصة لإنشاء البطارية الثالثة، وتأهيل أقسام الكيماويات الملحقة بها.

شمل العقد -حينها- توريد المعدات والبناء الحراري والمستلزماته والتركيبات والإشراف الفني، بتكلفة استثمارية قدرها 99.6 مليون دولار أمريكي. على أن يمول المشروع بقرض مقدم من مجموعة بنوك. ويستغرق إنشاء البطارية حوالي عامين ونصف العام، حتى بدء التشغيل، بطاقة إنتاجية 560 ألف طن من فحم الكوك سنويًا.

هذا الاتفاق لم ينفذ، ونسي تمامًا دون أسباب واضحة، و”في ظروف مريبة”، بحسب تعبير أحد العمال.

أوقفت البيئة تمامًا السماح للشركة باستيراد الفحم. رغم تنفيذ الشركة للاشتراطات المؤقتة التي طلبتها
أوقفت البيئة تمامًا السماح للشركة باستيراد الفحم. رغم تنفيذ الشركة للاشتراطات المؤقتة التي طلبتها

توقف تام للإنتاج.. تكلفة إضافية

أوقفت البيئة تمامًا السماح للشركة باستيراد الفحم. رغم تنفيذ الشركة للاشتراطات المؤقتة التي طلبتها من رشاشات المياه والستائر المبللة سواء بالشركة أو بميناء الدخيلة. ما نتج عنه توقف الإنتاج تمامًا منذ خمسة أشهر، مع نفاذ محزون الخام بالشركة.

كان لابد من استمرار تسخين البطاريتين تجنبًا لتلفهما، ما يكلف الشركة 15 مليون جنيه شهريًا، وهو سعر الغاز المستخدم في التسخين. إذ أنه أثناء الإنتاج لا يستخدم للتشغيل وقود من الخارج، فتتم عملية تشغيل البطاريات ذاتيًا، ويستخلص الغاز من عملية التكويك نفسها، فيمر فرق التكويك عبر ماسورة إلى “االتوربينة” التي ترده مرة أخرى، بعد تنقيته ليستخدم في التشغيل، بحسب أحد عمال الشركة.

من الربح إلى الخسارة.. رحلة الانهيار

تُظهر بيانات الشركة في العام المالي (2019-2020) تحقيق خسائر بلغت 238 مليون جنيه، مقابل أرباح بلغت 120 مليون جنيه في العام الذي سبقه (2018-2019).

أيضًا، تشير البيانات إلى تراجع المبيعات بنسبة 50%. حيث انخفضت من 1.7 مليون جنيه في العام (2018-2019) إلى 873 مليون جنيه في عام (2019-2020). على الرغم من أن الشركة كانت تستهدف في ذلك العام مبيعات بـنحو 2.9 مليار جنيه. كما تراجعت الصادرات بنسبة كبيرة جدًا.

يُرجع العمال هذا التراجع الكبير إلى نقص واردات الفحم الخام تدريجًا حتى توقفها تمامًا تنفيذًا لقرارات وزارة البيئة.

المفارقة الكبيرة هنا أن الخسائر تقلصت بشكل كبير هذا العام 2021 مقارنة بالعام الماضي. فقد سجلت 30 مليون جنيه فقط، رغم توقف الشركة عن الإنتاج منذ 5 أشهر. وهو ما يبرره العمال بارتفاع أسعار فحم الكوك بعد أزمة الطاقة، وارتفاع أسعار النفط، والإقبال العالمي الكبير على الفحم. حيث باعت الشركة مخزونها من فحم الكوك بالأسعار الجديدة، إضافة لبيع منتجات الشركة الآخرى.

دراسة جدوى استمرار “النصر للكوك”

بعد توقف الشركة عن إنتاج الكوك، نتيجة لعدم وجود الفحم الخام، ومع مطالبات العمال بتشغيل الشركة، قرر وزير قطاع الأعمال هشام توفيق، رفع ملف الشركة كاملاً لرئيس الوزراء لاتخاذ القرار المناسب بشأنها.

كلفت رئاسة الوزراء شركة (DMT)، وهي شركة استشارات ألمانية، بدراسة جدوى استمرار “شركة النصر للكوك” من عدمه، في ظل تصفية شركة الحديد والصلب، واستيراد الخامات اللازمة للإنتاج، وعدم وجود احتياطي مصري من الفحم الخام.

وبحسب مصدر داخل “شركة الكوك” تحدث إلينا، فإن الحكومة ضمنت التكليف المرسل لشركة (DMT) بعدة افتراضات أخرى، منها: “أن شركات الحديد والصلب التابعة للقطاع الخاص تستخدم كوك معدني برتبة متوسطة يحتوي على كربون أعلى من المنتج الحالي لشركة الكوك، ويتم توفير كمية الاستهلاك، التي تتراوح ما بين 200 إلى 300 ألف طن سنويًا عن طريق الاستيراد. كما تستهلك المسابك نفس نوعية الكوك المستورد”. ما يعد إيحاءً للشركة الاستشارية بأن الصناعة المصرية لم تعد تحتاج لإنتاج شركة النصر للكوك.

ورغم أن الحكومة لم تكشف بعد عن الرأي الاستشاري لشركة (DMT)، إلا أن المصدر أكد أن تقرير الشركة الاستشارية في صالح استمرار “النصر للكوك”.

تصريف الإنتاج ليس مرهونًا بالحديد والصلب

“ليس صحيحًا أن كل إنتاج المصنع من الكوك كان يذهب إلى تشغيل مصنع حلوان للحديد والصلب. وإنما كانت النسبة تتراوح بين 40 إلى 60%، والباقي كان يباع إلى مصانع المسابك ومصانع السكر، التي كنا نمدها بالكوك لتشغيل الغلايات، بالإضافة إلى تصدير جزء من الإنتاج لعدد من الدول الآسيوية والأوروبية”. هذا ما يقوله القيادي النقابي صبحي بدير. وقد أكد أن الشركة إذا عادت للإنتاج بنصف طاقتها فقط، يمكنها تحقيق مكاسب كبيرة سواء عن طريق بيع إنتاجها في السوق المحلي أو التصدير.

يحمل بدير الإدارات المتعاقبة على الشركة مسؤولية تدهور حال البطاريات، وعدم بناء بطاريات جديدة، وإهمالها تنفيذ الاشتراطات البيئية.

عقود وطلبات تصدير

يتداول العمال صورًا ومستندات حصلت “مصر 360” على نسخة منها، قالوا إنها عقود من شركات أجنبية تطلب شراء كميات كبيرة من إنتاج “فحم الكوك” من شركة النصر. أحد هذه الصور تطلب فيها إحدى الشركات 250 ألف طن من الكوك سنويًا مع مراعاة الاتفاق النهائي والسعر. بينما تطلب شركة أخرى 6 شحنات في السنة تمثل حوالي 180 ألف طن متري من فحم الكوك. وشركة ثالثة تطلب شراء كمية كبيرة من فحم الكوك على 5 سنوات من 2022 إلى 2027.

عقود وطلبات تصدير
عقود وطلبات تصدير

تضامن حزبي وتحرك برلماني

استقبلت أمانة العمال بالحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، الأسبوع الماضي، عددًا من عمال شركة النصر لصناعة الكوك لمناقشة أزمة الشركة. في اجتماع كشف تفاصيله خليل رزق، عضو أمانة العمال بالحزب، والذي قال لـ”مصر 360″: “عقدنا اجتماعًا بمقر الحزب مع عدد من عمال الشركة بحضور النائب إيهاب منصور وكيل لجنة القوى العاملة بمجلس النواب ورئيس الهيئة البرلمانية للحزب المصري الديمقراطي، وبعد مناقشة الأزمة، وعد النائب إيهاب منصور، العمال بتقديم طلب إحاطة لوزير قطاع الأعمال لسؤاله عن مصير الشركة وعن ما إذا كانت هناك نية لتصفيتها”.

يؤكد رزق أن النائب المهندس إيهاب منصور شرع بالفعل في كتابة طلب الإحاطة بما يتوافر لديه من مستندات مده بها العمال، خاصة بطلبات شراء إنتاج الشركة لسنوات مقبلة، وحلول للاشتراطات البيئية.

ويخوض نحو ألفي عامل هم إجمالي عدد عمال شركة النصر لصناعة الكوك معركة كبيرة ضد خطر التصفية الزاحف في اتجاه ما تبقى من شركات قطاع الأعمال، والتي كانت آخر ضحاياه شركة الحديد والصلب بحلوان، وتقرر تصفيتها في النصف الأول من العام الحالي. وأُعلن منذ أيام عن تحويل أراضيها من النشاط الصناعي إلى السكني، تمهيدًا لطرحها بالمزاد. فهل ينجح عمال الكوك في الاحتفاظ بشركتهم أم ستلاقي مصير شقيقتها.