في مؤتمر القاهرة للإعلام الذي نظمته الجامعة الأمريكية منذ عدة أيام كان الحوار -والخلاف- في إحدى الندوات بين زميلين عزيزين ساخنًا وثريًا. ففيما تمسك الزميل علاء الغطريفي بأن هناك جرائم ترتكب باسم الصحافة هذه الأيام، وشن هجومًا حادًا على ظاهرة “البث المباشر” التي اعتبرها في بعض الأحوال تهين المهنة والعاملين فيها وتروج لظواهر شاذة وغريبة، اعتبر الزميل محمود المملوك أن أي قراءة لوضع مهنة الصحافة في اللحظة الحالية يتجاهل “السياق العام” للمجتمع يظلم المهنة، مشددًا على أن الطبيعي أن تجمع المهنة بين الجاد و”اللايت” وبين العميق والترفيهي.
في غمرة الحماس الذي كان يدافع به كل زميل عن وجهة نظره، كانت تشغل عقلي قضية ثالثة، فبينما كان الحوار المحترم بين الزميلين يدور حول التفاصيل، كان يشغل عقلي “البداية” لا التفاصيل، كنت أبحث عن إجابة للسؤال الأصعب: هل لدينا صحافة أصلا؟!
بعد انتهاء المؤتمر جمعنا لقاءً ضم عددًا من الزملاء واصلنا فيه الحديث عن تحديات مهنة الصحافة والواقع الذي تعيشه في هذه اللحظة. قلت وجهة نظري بوضوح وهي أننا استغرقنا في الحديث عن المهنة وقواعدها وآدابها، بينما جميعنا يعلم أن الصحافة في هذه اللحظة تعيش أصعب أوقاتها على الإطلاق، لا حريات ولا تداول معلومات ولا تأثير.
باختصار مصر لا زالت تصنف ضمن الدول التي تقيد حرية الصحافة، وتحاصر النشر والآراء، وكل المنظمات المهتمة بالصحافة وحريتها تنظر إلى صحافتنا اليوم باعتبارها أقرب إلى “العلاقات العامة”، حصار يخنق المهنة ويصادر الخيال، وقيود تغلق كل الأبواب والنوافذ، التي يدخل منها الهواء ليضمن للصحافة تقديم الحقيقة للناس، فراغ ندور فيه جميعًا دون أن نصل لنهاية لنفق مظلم دخلت فيه المهنة منذ عدة سنوات، فلا هي استمرت في دورها كما يرسمه الدستور والقانون، ولا نحن تركنا الأقلام واعترفنا بهزيمتنا وبعدم قدرتنا على أن نمارس دورنا المهني والوطني.
في بدايات عملنا الصحفي كنا نتعلم القاعدة الأولى، وهي أن مهنة الصحافة تدور وجودًا وعدمًا مع الحرية، فبدون حرية تموت الصحافة، وبدون قلم حر لا كلمة تُكتب ولا فكرة تؤثر، وبدون خيال مختلف لا تأثير ولا قدرة على الوصول للقاريء، فحرية الصحافة ليست ترفاً، ولا هي قضية تخص الصحفيين وحدهم، بل هي ضمانة أكيدة لحق المجتمع في المعرفة، ولحق الصحفي في كشف كل صور الفساد والانحراف، حرية الصحافة هي إحدى ضمانات التقدم وسيادة القانون، وبدونها يظل حوارنا، على أهميته، نظرياً ونخبوياً ولا يضيف للمهنة وتقدمها إلا القليل!
منظمة “مراسلون بلا حدود” كانت قد وضعت مصر في الترتيب رقم 166 من 180 دولة في مؤشر حرية الصحافة في العالم لعام 2021. وهو ترتيب كاشف لحالة الصحافة المصرية، بل هو ترتيب يرسم لنا خريطة طريق إنقاذ هذه المهنة، فأي معارك يخوضها العاملون بالمهنة لا تبدأ بحرية الصحافة هي معارك، مهما كانت أهميتها، شكلية وبعيدة كل البعد عن الطريق الصحيح، وأي حوارات بين المعنيين بالمهنة لا تنطلق من رفض القيود المفروضة على الصحافة هي حوارات تضع العربة أمام الحصان وترحل بنا بعيداً عن أصل الداء.
أظن أن الوقت قد آن لفتح الملف المسكوت عنه، وأقصد ملف الصحافة وحريتها، بل أظن أن أي جهد نقدمه وننشد من ورائه تقدم هذه المهنة لا يبدأ وينتهي بالملف الأصعب هو جهد ضائع لن يفضي إلى جديد يذكر.
الصحافة في أزمة حقيقية، والعلاج يبدأ برفع القيود وترك الأقلام تكتب بحرية وبدون قيود، ليصبح الضمير والقانون فقط هما الرقيب على الصحفيين وهم يمارسون مهنتهم!