في عام 1957 قدم المخرج حسن الإمام والمؤلف محمد مصطفى سامي للسينما المصرية، فيلمها “لن أبكي أبدًا”، وكان يحكي ضمنيًا عن سيطرة الرأسمالية المفرطة حتى على مشاعر البشر. فيلم لم يحظ بالكثير من النقد والعرض بعد ذلك، وربما لن ينال الفرصة.
لن أتحدث عن هذا الفيلم، لكنها التسمية ذاتها التي حملها فيلم آخر هو موضوع هذا المقال، جعلني استغل الفرصة لأبدأ من خلال هذه المقاربة في المسمى والفكرة التي ترفض الرأسمالية.
أتحدث عن فيلم “لن أبكي أبدًا”، البولندي الذي يحمل الاسم ذاته، ويقدم القصة ذاتها جوهريًا. لكن بشكل أكثر معاصرة وتفاعلاً. وهو عمل مرشح للحصول على نصيبه من مهرجان “كان” السينمائي في صيف هذا العام.
على غير العادة بشكلٍ عام، وفي أول أدوارها بالسينما، تتحمّل الفتاة الصغيرة Zofia Stafiej مسؤولية “لن أبكي أبدًا” كبطلة مطلقة، تؤدي دور مراهقة مثيرة للإعجاب، مغرية في المشاهد الشخصية التي تقترب فيها الكاميرا من انفعلات وجهها، وكذلك في المشاهد التي يتعين عليها فيها أن تتعاون مع ممثلين أكثر خبرة.
كانت الممثلة الصغيرة بملامحها الحادة كطلقة رصاص تجلس إلى جانبي في المرة الثانية التي ذهبت فيها لمشاهدة الفيلم. إذ كان واحدًا من بين أفلام قليلة قررت مشاهدته ثلاث مرّات أثناء عرضه في الدورة الرابعة من مهرجان الجونة السينمائي المصري: الفتاة (علا) في السابعة عشر من عمرها، تعيش في بولندا وسط نظام اقتصادي مهترئ، حيث يعمل والدها بعيدًا عنها في أيرلندا منذ عدة سنوات، ولا يرى أحدهما الآخر. يموت الأب فجأة أثناء العمل في موقع بناء، وتعلم بموته، لتبدأ مرحلة جديدة تتحول فيها لربّة أسرة.
الأيتام الأوروبيون في “لن أبكي أبدًا”
ما جذبني كان رمزيات القصة التي تشير إلى فداحة ما تفعله الرأسمالية، وهي لا تلتفت أبدًا على مدار تاريخها غير المنتهي إلى أي من أبسط حقوق الإنسان في أي مكان في العالم. أشاهد ما يحدث في بولندا كأني أرى حياة أحدهم في مدينة نصر. الاضطرار إلى أن تتحول الفتاة الصغيرة فجأة إلى مسؤولة لا ترحمها الحياة. وهذا الظلم النفسي والاجتماعي الذي يعيشه الإنسان في دوامة من الأحلام التي لا تُحقق إلا بالمال، والرغبة الحالمة ببعض المرح لدى أبناء الطبقات الكادحة.
يتناول الفيلم موضوع الهجرة الاقتصادية الجماعية، التي بدأت بعد انضمام دولة بولندا إلى الاتحاد الأوروبي. وقد أدّت إلى فصل الآلاف أو ربما الملايين من وظائفهم، ممن ألقتهم ظروفهم الاقتصادية لوظائف بعيدة عن أوطانهم وأسرهم.
يركز الفيلم في تناوله على أبناء هؤلاء المهاجرين اقتصاديًا، الذين عرض الكتّاب والصحف لأزمتهم تحت اسم “الأيتام الأوروبيين”. وبهذا العمل يعد “بوتر دومالوسكي” هو أول مخرج سينمائي روائي يلقي الضوء على معاناة هؤلاء الصغار.
بعد عرض الفيلم، شكرتُ الفتاة على أدائها المذهل، ولم أتوقف كثيرًا لأطرح التساؤل الأول الذي كنت أنتظر إجابته: كيف تمكنت من أداء دورها بهذه المعايشة الساحرة رغم أنه أول أدوارها أمام كاميرا السينما بشكلٍ محترف؟ أجابني والدها بإنجليزية واثقة أنه يعمل في مجال حقوق الإنسان منذ سنوات. تمر أمام الرجل حالات كثيرة تشبه الشخصية التي كانت تؤديها ابنته. وقد رافقها في رؤية ومعايشة لهؤلاء الذين فقدوا عائلاتهم بسبب النظام الاقتصادي الذي يضطرهم للانفصال، في سبيل الحصول على لقيمات تسد الرمق.
الفيلم المبني على أحداث حقيقية وجد ملاذه في الفتاة التي يعيش والدها وسط زخم هذه الأحداث. ولا أعلم إن كان ذلك أساسًا هو سبب اختيارها أم أن القدر ضفّر تلك المصادفة التي انتفع الجميع بها.
“لن أبكي أبدًا”.. النضج محمل بأعباء الفقر
في الفيلم، تفشل الفتاة المراهقة في الحصول على ترخيص القيادة للمرة الثالثة. فلا تتمكن من العمل على سيارة للحصول على مصروفاتها. رغبتها في الحصول على رخصة قيادة وامتلاك سيارتها الخاصة هنا هي استعارة لحلمها بالاستقلال والسيطرة على حياتها.
إلى جانبها، تقف والدتها (Kinga Preis)، معتنية بأخيها المعاق.. هي لا تتحدث الإنجليزية أساسًا. وبالتالي فهي غير قادرة على الذهاب إلى أيرلندا لاستعادة جثة زوجها، والمهمة أوكلت للفتاة.
كانت المراهقة مترددة في البداية. إذ لا تشعر بأي عاطفة تجاه والدها البعيد عنها دومًا بظروف عمله، والذي لطالما حمّلته أسباب البعد.
عندما تصل إلى أيرلندا، تبدأ في التعرف عليه بعد وفاته. رويدًا رويدًا تتحول حياة الفتاة وتنتضج دون أن يدرك المشاهد متى حدث ذلك. صارت الآن بالغة محمّلةً بتبعات مجتمعها الفقير. هذا هو ما أحدثته وفاة الأب في ابنته، ربما بشكل إجباري.
التمرد في مواجهة شيطان الرأسمالية
في الدقائق الأولى يظهر شاب يُدعى “آدم”، يسجّل رسالة إلى ابنته التي ينتظر قدومها إلى العالم. يبدو وحيدًا هو الآخر. بينما يجبره العمل على البعد عن عائلته.
كانت هذه التغريبة الأولى التي قدمها المخرج والكاتب بوتر دوماليسكي في “ليل صامت“، الذي أنتج عام 2017، وفاز بالجائزة الأولى في مهرجان الفيلم البولندي.
“آدم” كان الإجابة على ما شعر به الأب لا ابنته التي عرض لها فيلم “لن أبكي أبدًا”. يزور منزل عائلته بشكل غير متوقع في عيد الميلاد، بعد بضع سنوات من عمله بالخارج. لا يعرف أي من أفراد أسرته خططه السرية ولا الأسباب الحقيقية لزيارته.
لفتت نظري منذ بداية تفصيلة جانبية تحكي عن نضج شخصية المراهقة في “لن أبكي أبدًا”. في كل مرة يرن هاتفها تسمع أغنية “اللعنة على الشرطة”، تمامًا مثل تمرد الأب في “ليل صامت”. البطلان في الفيلمين يملكان من التمرد وراء شاشات الكاميرا لا يظهر كثيرًا لكنه يلقي ظلاله؛ معرفة الأزمة الاقتصادية التي تعيشها الدولة وحكومتها الفاشلة، الوحدة، العنف العالمي الذي ينتجه الفقر وحده، انعدام الرحمة داخل النظام الرأسمالي القاتل، الخطوات التي تتم بالمال وحده، والمنقذ المتفرد بين كل ذلك، الشيء الوحيد الذي يمكنه أن يجعل كل ذلك محتمل: وجود أسرة محبة للفرد، فقط الأسرة وترابطها في مقابل شيطان الرأسمالية هي طوق نجاة الإنسان.
هل حقًا “لن أبكي أبدًا”؟
المخرج والكاتب بوتر دوماليسكي تدرّب على لعب الموسيقى، كما تدرب على العمل كممثل أمام الكاميرا، وهو بحق موهبة بولندية فذة، تقف بفنّها أمام النظام الاقتصادي البولندي والعالمي، الذي يفتقد معه الناس الحب والأسرة والرحمة. قدم دوماليسكي مجددًا عملاً يكشف الرأسمالية وأنها مثيرة للسخرية وغير مهمة، ليعيد تعريفها.
“لن أبكي أبدًا” فيلم يجبر الإنسان على البكاء، تسمية تصلح كرهان لمدى إنسانية مشاهده، أنت ترى العالم يفقد عذريته، في حلم تلك المراهقة بحياة عادية مستقرة.
الفتاة الوحيدة داخل الفيلم كانت تتجول في الجونة مع والدها خطوة بخطوة. قال لي في نهاية حديثي معه، إنه حصل على إجازة غير مدفوعة من عمله لمرافقتها، حتى لا تكون وحيدة، “وربما في لحظة ما تشعر بما شعرت به الفتاة التي تؤدي دورها، لولا ارتباطنا كأسرة لم نكن لنوجد هنا بينكم”.
يومًا بعد الآخر يثق الأشخاص أكثر في نجاح التجارب الفنية التي يحمل صناعها جزءًا شخصيًا منها في داخلهم، تبقى الشهادات الشخصية والتجارب المعاشة فعلاً الوثيقة الأهم في مواجهة عالم مليء بالدكتاتوريات والرأسمالية التي تأكل أي شيء يعاديها.