في عام 1930 كان المخرج الرائد محمد كريم، يبحث عن ممثلة مصرية لأداء دور البطولة في فيلمه الروائي الأول “زينب”. فشل كريم في الاتفاق مع أمينة رزق، على أداء الدور، بعد رفض يوسف وهبي السماح لتلميذته ونجمة مسرحياته بالمشاركة في الفيلم.
لم تكن البدائل متاحة أمام محمد كريم، فلم تخض حينها مغامرة التمثيل السينمائي من المصريات سوى عزيزة أمير ببطولة فيلم “ليلى” عام 1927. وفاطمة رشدي ببطولة “فاجعة فوق الهرم” عام 1928.
عدد من أعداد مجلة “المستقبل” كان يحمل لكريم مَخرجًا من هذه الورطة. تصدر غلاف المجلة صورة لفتاة في العشرينات بـ”البرقع” مدون تحتها عبارة: “أول مؤلفة موسيقية مصرية”. عرض كريم الدور عليها فوافقت بحماس شديد على خوض التجربة.
كانت الفتاة هي بهيجة حافظ، والتي صارت بعد سنوات قليلة أحد أهم أضلاع السينما المصرية. فمثلت وأنتجت وكتبت وأخرجت وقامت بمونتاج أفلام أسست لفن السينما المصرية. كما صممت أزياء بعض هذه الأفلام ولحنت أغنياتها ووضعت موسيقاها التصويرية.
إن كان يمكن أن يوصف فنانًا في تاريخ السينما المصرية بأنه فنان شامل فلن نجد أفضل من بهيجة حافظ كي ينطبق عليها هذا الوصف.
في البدء كانت الموسيقى
تروي بهيجة حافظ، في حوار تلفيزيوني في مطلع الستينيات، أجرته معها جيلان حمزة، كيف تعرفت على الموسيقى منذ كانت في الرابعة من عمرها. عندما قلدت أختها الكبيرة بالعزف على البيانو، ليقرر والدها إسماعيل باشا حافظ والذي كان يجيد العزف على العديد من الآلات الموسيقية إلحاقها بمدرسة للموسيقى.
لم يكن والد بهيجة فقط من يهوى العزف، فأتقنت والدتها العزف على البيانون والرق والكمان والقانون، وكذلك أخواتها.
برعت بهيجة حافظ في العزف على العديد من الآلات، ووضعت في سن التاسعة أول مقطوعة موسيقية من تأليفها. درست الموسيقى في فرنسا، وانضمت إلى جمعية مؤلفي الموسيقى في باريس وسجلت لها شركة أسطوانات كولومبية أول أسطوانة موسيقية من تأليفها والتي طُرحت في السوق العالمية عام 1926.
زينب.. مغامرة تمثيلية قلبت حياتها
أدت بهيجة حافظ دورها في فيلم زينب عن رواية محمد حسين هيكل، ببراعة شديدة. أشاد بها الكتاب والفنانين، كما وضعت الموسيقى التصويرية للفيلم. عرض عليها يوسف وهبي أن تشاركه بطولة أول فيلم روائي ناطق “أولاد الذوات” عام 1932. وكانت قد عادت من برلين بعد دراسة التمثيل والإخراج.
انسحبت بهيجة من فيلم “أولاد الذوات” أثناء البروفات لخلافات بينها وبين يوسف وهبي. رفضت أن تتحدث عن سببها عندما سألت عنها في أكثر من برنامج تلفزيوني.
الإنتاج.. مغامرة جديدة
قررت بهيجة حافظ أن تخوض تجربة الإنتاج فأسست مع زوجها الثاني محمود حمدي. شركة “الفنار للإنتاج السينمائي” لتقدم أول إنتاجها بفيلم صامت حمل عنوان الضحايا عام 1932. ناقش الفيلم مشكلة المخدرات وهي مشكلة لم تكن أفلام السينما الناشئة قد تناولتها بعد. شاركها البطولة في فيلم الضحايا زكي رستم، وأخرجه إبراهيم لاما، وحقق الفيلم نجاحًا كبيرًا.
بعد عامين من فيلم “الضحايا” قدمت من إنتاج شركتها فيلمًا صامتًا آخر هو “الاتهام” من إخراج الإيطالي “ماريو فولبي”. والتي وضعت موسيقاه التصويرية، وشاركت أيضًا في بطولته مع زينب صدقي، وزكي رستم.
فيلم “الاتهام” دراما اجتماعية يروي قصة سيدة تتعرض للظلم مرتين الأولى عندما يطلقها زوجها وينتزع منها ابنتيها. والثانية عندما تُتهم بقتل شاب وجدت جثته في حديقة منزل صديقتها أثناء حفل كانت تحضره، لتجد نفسها خلف القضبان. يترافع عنها ابن عمها المحامي والذي وقع في غرامها منذ أن كانا صغيرين، ليثبت براءتها في النهاية. وقد حقق الفيلم نجاحًا كبيرًا، بعدها أعادت تقديم فيلم “الضحايا” ولكن بنسخة ناطقة عام 1935.
https://www.youtube.com/watch?v=wP4HlwNdtZ0
الاتجاه للإخراج من أجل تسييد رؤيتها
في عام 1937 أقبلت بهيجة حافظ على إنتاج فيلمها الأهم “ليلى بنت الصحراء، أضخم إنتاج سينمائي منذ بداية السينما المصرية، حينها. تولى مهمة إخراج الفيلم في البداية الإيطالي “ماريو فولبي”. لكن بهيجة استبعدته بعد خلافات حول الرؤية الإخراجية للفيلم، لتقرر إخراجه بمساعدة أربعة مخرجين هم حسن عبد الوهاب وصوفي عبد المنعم وإبراهيم حسين العقاد وبدر أمين.
عندما سألتها جيلان حمزة، لماذا أقبلت على تجربة الإخراج، قالت إنها اتجهت للإخراج لأنها لم تكن تجد في المخرجين الموجدين من يمكن أن تعتمد عليه. ووصفتهم بالضعف سواء من حيث الإخراج أو المونتاج.
بالطبع قامت بهيجة حافظ ببطولة “ليلى بنت الصحراء” وشاركها البطولة حسين رياض وزكي رستم وعباس فارس. كما وضعت الموسيقى التصويرية وتصميم الأزياء للفيلم.
يروى الفيلم المستوحى من التراث العربي، قصة ليلى الفتاة العربية، التي كان يربطها بالبراق ابن عمها قصة حب. يدبر كسرى الفرس “أنوشيروان” بمساعدة بعض أبناء قبيلتها مكيدة لخطفها. لتجد نفسها في قصر كسرى الذي يريد الزواج منها فترفض في شموخ مصرة على العودة لأبيها وقبيلتها. وهو أول فيلم باللغة الفصحى، وإن كان اعتمد على ما يمكن وصفه بـ”الفصحى البسيطة”.
وهو الفيلم الذي قُدمت فيه لأول مرة قصيدة “ليت للبراق عينًا” بشكل غنائي بصوت حياة محمد وإبراهيم حمودة. تقول كلمات الأغنية: ليت للبراق عينًا.. فترى ما أُلاقي من بلاء وعنا.. عذبت أُختكم يا ويلكم بعذابٍ في الصبحِ و المسا.. عذبوني غللوني أهانوني ضربوا العفة مني بالعصا.. هيهات الأعجميُ أن يقربني ومعي بعض حشاشة الحيا”. غنت القصيدة بعد ذلك المطربة أسمهان.
مغامرة “ليلى بنت الصحراء”.. المنع من أجل عيون شاه إيران
دائما ما يضرب المثال على المغامرة الإنتاجية في السينما بفيلم “الناصر صلاح الدين” إخراج يوسف شاهين. والذي أقبلت آسيا على إنتاجه في الستينيات، وقد كبدها الفيلم خسائر كبيرة لأسباب متعددة. لكن تجربة بهيجة حافظ في إنتاج فيلم “ليلى بنت الصحراء، كان مغامرة كبيرة ربما أكبر من مغامرة آسيا، حيث تكلف الفيلم 18 ألف جنيه في عام 1937.
لكن هذه المغامرة كانت في طريقها إلى النجاح حيث أحدث الفيلم صدى كبير داخل مصر وخارجها، لولا ما حدث بعد ذلك.
تفاجآت بهيجة حافظة خلال سفرها لإيطاليا لحضور عرض فيلم ليلى بنت الصحراء بـ”مهرجان البندقية” أن الفيلم ممنوعًا من العرض داخل مصر وخارجها بقرار من وزارة الخارجية المصرية. بناء على اعتراض إيران والتي قالت إن الفيلم يشوه التاريخ الفارسي، حيث أظهر كسرى الفرس “أنوشيروان” بوصفه مغتصب اختطف فتاة وأجبرها على الزواج منه.
اتخذت السلطات المصرية قرارها آنذاك مجاملة لشاه إيران رضا بهلوي. والذي خطب بعد أيام من هذه الواقعة، يد الأميرة فوزية أخت الملك فاروق.
أدى منع الفيلم إلى شبه إفلاس لشركة “الفنار” حيث وزعت بعدها فيلمًا واحدًا. أنهى القرار تجربة بهيجة حافظ الإنتاجية والإخراجية. وإن كانت الشركة بعد ذلك استطاعت الحصول على تعويضًا ماليًا قدره 20 ألف جنيه من الحكومة المصرية بعد طلاق الأميرة فوزية من شاه إيران. فإن التجربة قد ألقت بظلالها السلبية على الشركة وعلى نفسية بهيجة حافظ. كما أثرت كثيرًا على شغفها وحماسها لتقديم سينما مختلفة تحمل سمات الإنتاج الكبير.
رغم أن المكتبة السينمائية المصرية لم تعد تحفظ إلا قطوف من تاريخ بهيجة حافظ السينمائي. ودور صغير في فيلم “القاهرة 30” من إخراج صلاح أبو سيف الذي استعان بها في دور أميرة من الأسرة المالكة. ستظل بهيجة حافظ التي يوافق اليوم ذكرى وفاتها الثامنة والثلاثين أحد أهم أضلاع السينما المصرية. ويظل مشوارها دليلًا على أن السينما المصرية بنيت على أكتاف منتجات وممثلات ومخرجات مصريات تحدين ظروف اجتماعية صعبة.