الرأسمالية المهشمة أو المتصدعة وربما المشطورة جميعها ترجمات للكتاب الأفضل لهذا العام، بحسب رابطة دراسات الشرق الأوسط “MESA”، التي منحت مؤلفه الباحث ودكتور العلوم السياسية عمرو عادلي جائزة “روجر أوين”.

“روجر أوين” الذي حصد عادلي جائزته هو واحد من أهم وأعرق المؤرخين الاقتصاديين الغربيين المهتمين بدراسات الشرق منذ القرن التاسع عشر. وله دراسات عن القطن المصري على سبيل المثال. أما الكتاب نفسه “cleft capitalism” فهو يتفرد ببحث أسباب الأصول الاجتماعية لفشل عملية نشأة السوق في مصر.

فما هي “cleft capitalism” التي اختارها الكاتب عنوانًا لمؤلفه؟ وما هو “الوسط المفقود” الذي أشار إليه عادلي في كتابه وغيره من المخرجات التي يفسرها في حواره معنا؟

بداية: من أين استوحيت عنوان الكتاب وما التعريب المناسب له؟

إلى الآن لا توجد ترجمة رسمية للكتاب.. بالطبع سأسعى لتعريبه في القريب العاجل، لا مجرد ترجمته. لكن يمكننا استشفاف المعنى الذي يدور حول هشاشة الرأسمالية المصرية، وفشلها في الصعود. وهي تدور حول ملمحين أساسيين؛ أحدهما هيكلي يتمثل في تحول رأسمالي بزغ منذ الانفتاح في السبعينيات. وهو ما نتج عنه اقتصاد يغلب على الجزء الأكبر من نشاطه القطاع الخاص. وبالتالي حصل تحول بعيد عن رأسمالية الدولة. بالأخص في جوانب التشغيل، والاستثمار.

لم يفض التحول المصري للرأسمالية في السبعينيات إلى نتائج تنموية حقيقية. ذلك لأن النموذج الرأسمالي المصري لم يكن مندمجًا. وبالتالي برز ما اصطلحت عليه أدبيات عالم الأعمال بـ “الوسط المفقود”، حيث انقسم القطاع الخاص إلى مشروعات كبيرة، يطلق عليها “dandy capitalism”، وأخرى متناهية الصغر “Baldi captalism” أو الاقتصاد البلدي. وهو مصطلح جديد أُدخل على الاقتصاد.

يعاني أغلب أصحاب الاقتصاد البلدي من ضعف النفاذ إلى رأس المال بشتى صوره، ومن الانخفاض الشديد على مستوى الإنتاجية. فضلاً عن ضعف المهارات.

تتسم قطاعات هذا النوع الاقتصادي بكثافة العمالة، كما أن أغلبها يتصف باللارسمية. وأيضًا ليس لديها القدرة على إنشاء أي روابط مع الشركات الكبرى، كجزء من خطوط إمداد أو خدمات أو حتى سلع تلك المؤسسات سواء كانت عامة أو خاصة. وبالتالي، فإنها تفتقد لفرص النمو.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بالعادة، يعمل رأس المال في سلسلة من الشركات مختلفة الأحجام، التي يقاس نجاحها بمدى إحكام حلقاتها واندماجها مع بعضها البعض. يظهر ذلك -مثالاً- في استعانة الشركات الكبرى بمشروعات خدمية، أو إنتاجية متوسطة وصغيرة، تسهم في خروج السلعة أو المنتج إلى الأسواق، حتى في وجود صبغات غير رسمية لبعض الكيانات المرتبطة بها في بعض الأحيان.

أما في الحالة المصرية، فتغيب المشروعات الصغيرة والمتوسطة المساعدة لنظيرتها الكبرى. وهو ما يعتبره عادلي الحلقة المفقودة في الرأسمالية الوطنية، التي تحد بصورة أساسية من نموها. وبهذا يفسر الاعتماد الكلي للسوق المصرية على الاستيراد، حتى في أقل السلع تواضعًا من الناحية التكنولوجية، والتي يمكن لشركات صغيرة، أو متوسطة العمل على إتمامها أو حتى تصنيعها.

ما السبب الرئيس في غياب ذلك الوسط الذي يشطر فقدانه صورة الاقتصاد المصري ويكبح صعوده؟

قد يكون الوسط المفقود الذي سبق وتحدثنا عنه ملمحًا هيكليًا. لكنه نتيجة غير حتمية، يرجع السبب فيها إلى ترتيبات مؤسسية رافقت اتساع القطاع الخاص منذ الثمانينيات، وحتى عام 2010  -وهي الأعوام التي يرصدها الكتاب- إذ لم يكن القطاع الخاص يعمل بنفس القواعد الحاكمة، رغم وجوده داخل الموقع الجغرافي نفسه. فطريقة نفاذه إلى رأس المال اختلفت، سواء كان مورد نقدي مباشر، أو رأس مال ثابت (أي الأرض التي يمكن من خلالها ممارسة نشاطه)، وتديرها مؤسسات الدولة بمعرفتها.

هنا، مارست الدولة تمييزًا ضد القاعدة الأوسع من القطاع الخاص. وعلى هذا الأساس غاب الوسط طوال الوقت. بل وأعاد إنتاج نفسه، نتيجة للملمح الهيكلي والمؤسسي اللذين أسهبنا في شرحهما، ويميزان ما أطلقنا عليه الرأسمالية المنشقة، أو المهشمة.

ليست المحسوبية وحدها..

في الطريق إلى ذلك، حاولت العمل على التنبيه وربما التخلص من ترديد بعض المفاهيم، حول الرسمية أو غير الرسمية في الأعمال، دون الأخذ في الاعتبار أن العملية نسبية بالأساس. إذ أن اللارسمية دائمًا ما تكون موجودة وغير مرتبطة بحجم الكيان، سواء كان كبيرا أو متوسطا أو صغير أو حتى متناهي الصغير. لابد من الاعتراف بأن المسألة مزيج من النوعين.

أما النقطة الأهم، فهي التوقف عن ربط التصدع الحاصل بالأسواق بعملية المحسوبية أو الفساد، كسبب وحيد. رغم اعترافنا بما للأمر من انعكاس بالطبع، لكنه ليس السبب الأوحد أو حتى الأبرز. فقد نجحت بعض النماذج الاقتصادية رغم مسألة المحسوبية في النمو والرسملة، مثل دول جنوب آسيا أو حتى دول شرق أوروبا (الاتحاد السوفيتي السابق)، وحتى في عز ميلاد الرأسمالية وخلال القرن السابع. جميعها نماذج قامت على منح الرسملة أو إتاحة الأدوات الرأسمالية للبعض من خلال أدوات سياسية.

المحسوبية مسألة ميزت أغلب دول الجنوب العالمي. لكنها لم تحُل دون نمو البعض كما ذكرنا. ويغيب عن المتمسكين بها كسبب وحيد للفشل الاقتصادي، أن هناك مستويات من المحسوبية والفساد لا تحول دون إحداث قدر من التنمية والتنافسية بالمعنى الرأسمالي، والصعود في سلاسل إنتاج القيمة.

الإجابة هنا بعيدة عن المسألة السياسية الاعتيادية، وعلاقة السياسة بالاقتصاد، واختيار الفاعلين في السوق. خاصة في مراحله الأولى، بقدر ما تتجه نحو كفاءة المؤسسات، التي تشمل الدولة والقطاع الخاص وبينهما القوانين المنظمة والمؤسسات الوسيطة مثل البنوك.

الباحث عمرو عدلي
الباحث عمرو عادلي

إشكالية ضيق القنوات والتفضيلات السياسية..

نخص تحديدًا إشكالية ضيق القنوات التي يتم من خلالها ضمان النفاذ إلى رأسمال. وهي مشكلة تميز الكثير من الدول في شمال أفريقيا مثل المغرب، وتونس، نتيجة إقصاء القاعدة الكبيرة من القطاع الخاص، التي تعمل على طريقة Baladi capitalism. ذلك عبر مركزة المؤسسات الحكومية لرأسملة الكيانات، وتركزها على النقدي منها، عبر القطاع المصرفي، الذي يعد قلب القطاع المالي في مصر، والأرض كأحد أكبر الموارد الطبيعية. وهو ما لا نجده في تجارب أفضل حالاً عنا مثل الصين، وتايوان. حيث تتمتع القطاعات الصغيرة وحتى متناهية الصغر بفرص النمو، على نحو خلق الوسط المطلوب في سلسلة رأس المال. الأمر الذي يتوفر نتيجة الاتساع في الشبكات اللامركزية التي أتاحت على المستوى المحلي والإقليمي رسملة عدد كبير من كيانات القطاع الخاص. ما أثر إيجابًا على فرص الاندماج والتنافسية داخل الاقتصاد، وحتى خارجه، من خلال سلاسل القيمة الاقتصادية العالمية.

ومع ذلك، فالمسألة ليست فنية أو بيروقراطية فقط، إذ أن بنية البنوك، وكذلك طريقة إدراة الأراضي الصحراوية في مصر تعكس بدورها تفضيلات سياسية معينة، وفعل سياسي بعينه، حتى في المركزية التي وصفنا بها الوضع الرأسمالي المهشم، والتي ترجع لأسباب سياسية تاريخية، وحاضرة أيضًا، مثل الترتيبات التي ترجع جذورها لما بعد الاستقلال أي الخمسينيات والستينيات. إلى جانب سيطرة القطاع العام حينها على الوضع، ثم بزوغ القطاع الخاص لاحقًا عبر شركات قد تكون كبرى لكنها عائلية الطابع. وبالتالي لم توجد في فراغ، وهي التي نجح بعضها في الاتفاق مع الدولة حول طرق النفاذ لرأس المال، وهي حالات قليلة أثبتت نجاحها. لكن في كل الحالات كان التحدي تحقيق قطاع خاص مندمج وهو مالا ننجح فيه.

عليه، يحاول الكتاب تحويل النقاش الفني الاقتصادي البحت، وربطه بالاقتصاد السياسي الاجتماعي، وطرح الأمر للنقاش المجتمعي. فالموضوع الاقتصادي لا يجب أن تكون مناقشته حصرًا على الخبراء، لما له من انعكاس على أفراد المجتمع.

جزء مهم من الكتاب تنتقد فيه النظرية الاقتصادية “النيوكلاسيكية” ومدى ملاءمتها للتجربة الجنوبية العالمية بما فيها مصر؟

تطرح النظرية النيوكلاسيكية المؤسسية التصور الذي يربط بين معدلات التنمية في مفهومها المحافط وبين معدلات النمو. ذلك التصور الذي يقضي بضرورة إتاحة الدولة بالأساس لمؤسسات قانونية تحفظ حقوق الملكية، وكذلك تفصل في المنازعات الإدارية الاقتصادية سريعًا. وهي عوامل تراه النظرية النيوكلاسيكية كفيلة وحدها بخلق تحول رأسمالي تاريخي. لكن هذا تدحضه تجارب دول جنوب آسيا. ومنها على سبيل المثال التي لم تتمتع بتلك المؤسسات القانونية، ومع ذلك اندمجت مع سلاسل القيمة العالمية، وبالطبع المحلية بشكل ناجح إلى حد كبير.

تتمثل المشكلة الأساسية في أن هذا الطرح هو المهيمن على العالم، وتؤسس له مؤسسات مثل صندوق النقد وغيره. هذا طرح غير معقول في التجربة المصرية على سبيل المثال. إذ من غير المنطقي الاهتمام بحقوق الملكية، في حين لم يتم وضع قواعد تتيح استغلال العمالة كأحد الموارد الكبرى.

أيضًا، فكرة قصر الرؤية على المحسوبية والفساد والنماذج القائمة على النهب بالكامل، تصلح لدول مثل العراق على سبيل المثال، أو الكونغو، وربما ليبيا في العهد السابق. وهي دول تحتوي على موارد طبيعية ضخمة، وهو أمر لا يتوافر في التجربة المصرية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أحد الغايات التي يهدف إليها الكتاب ربط تجارب الجنوب العالمي بأكمله، وليس الشرق الأوسط فقط، كما اعتادت التجارب السابقة. ذلك بالنظر للتجارب المختلفة لتلك الدول، التي بدورها تنقض النظرية النيوكلاسيكية، التي لا تزال المدرسة المهيمنة رغم عدم مراعاتها للاختلافات الدولية والإقليمية، وكذلك ترتيبات الدول المؤسسية المختلفة. وقد فشلت حتى في صيانة النظام العالمي، منذ الأزمة الاقتصادية.

ما العمل وهل تكون مبادرات الدولة في تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة حلاً؟

لا توجد روشتة جاهزة، ولا أفضل التعامل مع الواقع السياسي الاقتصادي بتلك الطريقة. كما أن رسالة الكتاب الأساسية هي ضرورة الإلمام بجذور الترتيبات الحالية. أما الفنيات نفسها فهي مجرد تفاصيل من شأنها ملء الفرص الممكنة، أما إتاحة الفرص نفسها فهي أمر سياسي بالأساس.

وفيما يخص مسألة التمويل كحل، أتذكر كانت هناك مبادرة من جانب البنك المركزي تهدف إلى دعم إقراض المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وتحفيز القطاع المصرفي على ذلك، بفائدة 5%، وهي فائدة مرتفعة جدًا، حينها كانت إحدى أبرز المشكلات التي واجهتها هذه المبادرة عدم وجود مشروعات كافية في تلك الفئة، فضلاً عن أن أغلب المطروح وقتها كان ذا طبيعة تجارية استهلاكية أو خدمية، تعتمد في الأساس على الاستيراد، وليس الصناعة كما كانت تستهدف المبادرة. وبالتالي، فإن دعم مثل هذه المشاريع يعني مزيدًا من السلع ذات القيمة المضافة، وكذلك رفع ميزان الاستيراد.

ما نحتاجه حقيقة هو تمويل كبير للمشاريع متناهية الصغر، قبل المتوسطة والصغيرة، والأمر لا يقف عند التمويل النقدي فقط، ولكن عبر التنسيق مع مختلف الجهات، فبالإضافة إلى البنك المركزي، نحتاج إلى التنسيق مع وزارتي المالية، والتجارة والصناعة، لإعداد استراتيجية متكاملة فاعلة. لأن هذا ما نفتقده في الحالة المصرية التي تشهد غيابًا للعمل الجماعي بين المؤسسات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في النهاية، يحاول عادلي بكتابه أن يقدم بعدًا جديدًا للمشكلة الاقتصادية المصرية، ومعها أغلب دول الجنوب العالمي. مع مراعاة الخصوصية المصرية، التي قد تتشابه مع ما حولها. لكنها لا تتطابق تمامًا، وذلك في منأى عن نظريات التبعية وحتى هرطقات النيوكلاسيكية المؤسسية. وهو يبني نموذجًا جديدًا يسعى من خلاله لكشف الفجوة التي أحدثها غياب الوسط المفقود، عبر المشاريع الصغيرة والمتوسطة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عمرو عدلي
عمرو عادلي

أستاذ مساعد بقسم العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة. عمل باحثًا غير مقيم في مركز كارنيغي للشرق الأوسط. وأيضًا مدير مشروع بمركز الديمقراطية والتنمية وسيادة القانون في جامعة ستانفورد، حيث كان زميلاً لما بعد الدكتوراه. كما حصل على درجة الدكتوراه من معهد الجامعة الأوروبية بفلورنسا.