بعدما انطفأت أنوار الزنزانة إيذانًا بموعد نوم لم يزر جفنيه، جلس على أطراف سريره مُسندًا ظهره للحائط، ووجهه قبالة باقي أسرة رفقائه. بدا وكأنه يتأمل ملامح زنزانته التي يحفظها عن ظهر قلب، بعدما أمضى ما يزيد عن عقد من الزمان داخلها. ولكن في أعماقه كانت مخاوفه تعتمر، وتلوح في ذهنه أسئلة معتادة بنفس التوقيت من كل ليلة.

لم تكن أسئلته عن مصيره ومستقبله، فمجموع الأحكام الصادرة بحقه تعني بوضوح أنه لن يرى أشجار الزيتون الباثقة خارج داره، والتي دائمًا ما استند على جذعها في خلوته. لن يُقبّل يد أمه وهو يستمع إلى دعواتها التي لم تتغير منها كلمة في كل صباح. بينما تنفذ رائحة الهيل إلى أنفه فتنعشه، في طقس مُقدّس اعتاد أن يبدأ به يومه ذات مرة.

في تلك الليلة، كانت مخاوفه الحقيقية متعلقة بزوجته وأحلام الأسرة الصغيرة التي لم تكتمل بعدما ألقي الاحتلال القبض عليه بعد أيام عدة من زواجه. تلك الزوجة الصبورة التي لم يظهر على ملامحها يوما ضجر أو ضيق حال. بل كانت في كل زيارة تقابله بابتسامة دافئة معها تُبدد كل قلقه.

ما لم يُدركه أسيرنا أنه في نفس اللحظة التي فكر بها، كانت تُفكر به، ويعتمل في رأسها أسئلة مماثلة عن حلم أسرتهم الصغيرة.

وماذا إن لم يأت اللقاء!

لم يسمحوا لهما بلقاء مباشر منذ الأسر، وهكذا الحال مع كل أصحاب المحكوميات الطويلة. السبب المعلن: الخوف من نقل أسلحة أو تعليمات من التنظيمات الفلسطينية في اللقاءات المباشرة.. أي كوميديا سوداء تلك، يقولان لنفسيهما في آن واحد.

كانت أسئلتهما: هل يُمكن يوما أن نُرزق بطفل؟ هل يُمكن يوما أن نرى كفاحنا يتجسد في أيادٍ صغيرة تمسك بأناملنا فنتناسى آلام القهر. أن نفتح ثغرة ضئيلة نرى من خلالها، نور الشمس الدافئ كشعاع ضعيف؟

كومضة مصباح، لاحت في رأسه فكرة هب معها واقفا وهو يحك مؤخرة رأسه: ماذا إن هرّبت نُطفة مني إلى زوجتي. يقولون الآن إن الطب بات فعالا في التلقيح، وأن نُطفة منه يُمكن أن تدخل إلى بويضة زوجته فينجبان دون تلامس.

يحك مؤخرة رأسه بسرعة أكبر. ولكن ماذا سيقول الناس عنها وهم يعلمون أننا لا يمكن أن نتلاقى؟ ماذا إن لم ترض هي بالفكرة أساسا؟ هل الأمر حلال أم حرام؟ ماذا إن تخطينا كل ذلك، هل سيقبل مجتمعنا بهذا الطفل أم سينال نصيبا من الكلمات الموجعة؟

تدفقت الأسئلة في رأسه كما لم تتدفق من قبل. تملكت الفكرة من صاحبنا ولم يكن في ذهنه سوى أنه يريد إجابة على تلك الأسئلة. الأمر ممكن ولكنه يحتاج للكثير من المشاورة مع رفاق الزنزانة، ومع زوجته في أقرب زيارة.

قال لنفسه: لننتظر الصباح. دقائق قليلة مرت كساعات طوال، ومن ثم هب من سريره مجددا، وأخذ يهز أحد الرفقاء برفق.. لابد أن يبوح بما في رأسه.

"<yoastmark

النُطفة تنتظر الحرية.. واقع يفوق الخيال

في واقع الأمر، لم تكن الفكرة حلما ورديا. نقاشات عدة، ومشورة هنا وأخرى هناك. اعترضت الفكرة نقاشات دينية وسياسية واجتماعية، إلى أن تم الحصول على فتوى بذلك، وتأييد سياسي من الفصائل الفلسطينية، ومباركة من القادة. وإن ظل الموقف الاجتماعي عائقا إلى أن جاء العام 2012.

تبدو السطور السابقة كقصة مُتخيلة، وهي كذلك. لكن خيالها لا يضاهي وقائعًا جرت فيما جرى من أحداث الدهر. وكما يُقال هي توظيف في سياق الدراما.

كان الأسير عباس السيد، قائد كتائب القسام في الضفة الغربية وأحد مؤسسيها، والذي قضى في العام الجاري عامه العشرين بالأسر، هو صاحب الفكرة التي طرأت على ذهنه بعدما مر 7 سنوات حتى سمحوا لزوجته بالزيارة لأول مرة.

والحقيقة أنه حينما اعتقل كانت ابنته مودة تبلغ من العمر ثلاث سنوات، وابنه عبد الله عاما وسبعة أشهر. ولكن إمعان الاحتلال في التضييق عليه قابله إمعانا منه في الصمود ورغبةً في قض مضاجعهم. لكن فكرته لم يُكتب لها الاكتمال.. حتى جاء عمار الزبن، المحكوم عليه بـ27 مؤبد، وزوجته دلال الربايعة التي لعبت دورا كبيرا في كسب الموقف الاجتماعي لصالحها.

استطاعت الزوجة الترويج للفكرة بالتدريج في الأوساط المحيطة بها من عائلة وأقارب وجيران إلى أن أصبح الأمر مطلب الجميع، وشكلوا دافعا كبيرا لدلال من أجل التطبيق. واستمرت عملية التمهيد والترويج من عام 2007 إلى 2010، وفي 2011 نجح تهريب النطفة.

حبة التمر التي حملت الحياة

عن تفاصيل نقل النطف في ظل انعدام الإمكانات في السجون، وملاحقة الاحتلال لأي أدوات يمكن أن يستخدمها الأسرى بشكل مزدوج، كان لا بد من أن يبحث الأسير الزبن عن حل لهذا الحصار المفروض عليهم.

وقد لجأ إلى حيلة جديدة تمثلت في تهريب النطفة عبر حبة التمر من خلال وضعها في كيس صغير بدلاً من النوى. وهي إحدى طرق تهريب النطف، إلى أن وصلت إلى المركز وجرى فحصها، فوجدوا أنها ما زالت صالحة للاستخدام، وجرى تجميدها في النيتروجين على درجة حرارة 197 تحت الصفر لحين تحضير بويضات الزوجة.

ثم جاء مهند إلى الحياة في أغسطس/آب 2012 ليصبح أول سفير للحرية.

لقد كان الزبن أول من تجرأ على القيام بهذه الخطوة، وعندما نجح، سار السجناء الآخرون على خطاه.

بعد الانتشار الواسع لقصة ميلاد دلال، اندفعت زوجات الأسرى إلى حث أزواجهن على ذلك. فبعد 6 شهور من نجاح قصة دلال كانت هناك أربع زوجات أسرى حوامل بعد تهريب نطف من أزواجهن. فيما تكرر الأمر من بعض الأسرى أكثر من مرة (حوالي 10حالات) كدلال التي أنجبت مهند ثم صلاح الدين، وهناك أكثر من حالة لتوائم اثنين أو ثلاثة.

تهريب النطف إلى الضفة الغربية أسهل من قطاع غزة
تهريب النطف إلى الضفة الغربية أسهل من قطاع غزة

طرق التهريب

هنا يمكن أن تطلق العنان لمخيلتك، ولن تقترب حتى من إبداع خيال المؤلف.

حبة تمر، حبة الشوكولاتة، قطرة دواء صغيرة، قلم، قداحة، فواكه مجففة، أنبوبة معجون أسنان، أكياس رقائق البطاطس، زجاجة دواء، وحتى أسرى مُفرج عنهم يبتلعون كبسولة محكمة الإغلاق بها النطفة.

تغيب سجون الاحتلال فئات مختلفة من الفلسطينيين، منهم من كان يعمل طبيبا أو فني مختبر، وكان لهؤلاء دور في تحسين عملية تهريب النطف، إذ ساعدوا في إيجاد طرق تحافظ على النطفة في ظروف تسمح لها بالخروج من السجن والوصول إلى المركز خلال 48 ساعة دون أن تتلف، مع شرط بقائها في ظروف تخزين مناسبة كدرجة الحرارة، وفق ما يقول مركز رزان للإخصاب، وهو أحد أشهر المراكز التي تقوم بهذه العملية لصالح الأسرى في الضفة الغربية.

وبعد متابعة دقيقة للحمل منذ البداية إلى مرحلة الوصول للولادة، يتجه المركز إلى اعتماد الولادة القيصرية عوضا عن الطبيعية لأن حمل زوجات الأسرى يسمى حمل الفرصة الواحدة حيث تتبع أقصى درجات الحيطة والحذر خلال الولادة القيصرية لأن الولادة الطبيعية فيها خطر قد يجبر الأطباء على التضحية بالطفل أو قد يقضي على الزوجة، وفي كلتا الحالتين ستأتي بمردود سلبي على الأسير.

ويقول رأفت حمدونة، رئيس مركز الأسرى، إن تهريب النطف إلى الضفة الغربية أسهل من قطاع غزة، نظرا إلى أن قوات الاحتلال تشدد في إجراءاتها ضد أسرى غزة أكثر من أسرى الضفة، وكذلك طول الانتظار على حاجز بيت حانون «إيرز »، وطول المسافة بين سجون الاحتلال وقطاع غزة، خصوصا السجون الواقعة في المناطق الشمالية، فيما أشار إلى أن الأسرى يطورون من أدوات التهريب مع مرور الوقت، مع انكشاف الطرق القديمة.

"<yoastmark

الرأي الشرعي

مرت الفتوى الشرعية لإجازة هذه العملية بمراحل عدة. إذ اقتصرت في البداية على زوجات الأسرى اللواتي دُخل بهن، ثم أُجيزت لمن لم يُدخل بهن.

واستندت الفتوى إلى الخشية من عدم قدرة الأسرى على الإنجاب بعد الإفراج عنهم بسبب تقدمهم وزوجاتهم في العمر، وأولئك المحكومين بالمؤبد ومدى الحياة، ويُخشى أن ينقطع نسلهم.

وفي أكتوبر/تشرين الأول لعام 2019، أصدر الشيخ عكرمة صبري، رئيس الهيئة الإسلامية العليا وخطيب المسجد الأقصى فتواه. وقد تضمنت أنه «لا مانع شرعاً من إجراء عملية التلقيح للزوجة، سواء كانت مدخول بها أم لا».

واشترط صبري لذلك، توفر شروط مُجتمعة في عملية التلقيح، وهي:

– وثيقة عقد الزواج بين الزوجين.

– موافقة الزوجة على إجراء عملية التلقيح.

– أن يكون الحيوان المنوي من الزوج، وأن تكون البويضة الأنثوية من زوجته فقط.

– إجراء العملية في مركز طبي معروف ومرخص، لإجراء هذا النوع من العمليات.

– حضور شاهديْن، أحدهما من طرف الزوج، والآخر من طرف الزوجة.

– حضور أحد المحامين الثقات للتوثيق.

– ثم اشترط لبراءة الذمة ودفعا للشبهات، إشهار العملية عبر وسائل الإعلام، أو أي وسيلة أخرى.

الشيخ عكرمة صبري، رئيس الهيئة الإسلامية العليا وخطيب المسجد الأقصى
الشيخ عكرمة صبري، رئيس الهيئة الإسلامية العليا وخطيب المسجد الأقصى

كواليس تهريب النُطفة

يقول أحد الأسرى، في تحقيق صحفي، إن الأمر يبدأ بوجود قرار توافقي بين الأسير وزوجته في الخارج، ويجب أن تعلم أهلها وتحصل على موافقتهم قبل الولوج في إجراءات تحضير النطفة وتهريبها، من ثم إبلاغ أهل الأسير من أجل التجهز لاستقبال النطفة وإبلاغ المركز بذلك، وكذلك من لهم شأن في الموضوع بصورة أولية دون تحديد تفاصيل لضمان نجاح عملية التهريب.

وبالإضافة إلى الأهل، يتوجب على الأسير إبلاغ «الدوبير»، وهو الشخص المسؤول عن التواصل مع إدارة مصلحة السجون في كل غرفة. إلى جانب إبلاغ المسؤول التنظيمي للقسم الذي يقبع فيه الأسير من أجل التواصل مع الخارج وإبلاغهم، كشاهد موثوق على مصدر النطفة قبل خروجها من السجن إلى حين وصولها إلى مركز التخصيب. ويمنع على الأسير إبلاغ أي شخص ثالث في هذا الموضوع حتى المقربين منه داخل الغرفة المسجون فيها.

وعند وصول الأهل إلى صالة اللقاء، يتكفل «الدوبير» بعرقلة خروج الأسير إلى حين تجهيزه النطفة في داخل الغرفة. ووضعها في كيس متناهي الصغر من ثم في هدية كحبة تمر أو شوكولاتة تسمح قوات الاحتلال بإعطائها من الأسير لأهله الحاضرين سواء كانت أمه أو والده أو زوجته.

ولضمان بقاء النطفة في وضع ملائم صحيا حتى وصولها إلى المركز الطبي، يعد الأسرى زجاجات مياه باردة جدا تحضر خصيصًا من أجل إعطائها لزوار الأسير. هذه الزجاجات يتم وضعها بجوار النطفة بعد إخراجها من الشيء الذي جرى تمويهها فيه، للحفاظ على درجة حرارة جيدة، في ظل سخونة الأجواء، والانتظار على الحواجز في رحلة العودة من السجون إلى المركز الطبي، سواء في الطريق من السجون لغزة أو مدن الضفة والقدس.

الإبداع الفلسطيني في مواجهة السجون

كشف الأسير أن عشرات النطف أمسكت بها مصلحة السجون قبل تهريبها للخارج. وذلك من خلال التفتيش الذي تجريه جسديا للأسير، أو المداهمة المفاجئة للمكان، أو بتفتيش عوائل الأسرى قبل مغادرتهم إلى الحافلات، أو بملاحظة حركات غريبة للأسير خلال الزيارة عبر الكاميرات المنصوبة في المكان. فيما يغلب الظن لدى الأسرى بأن مصلحة السجون الإسرائيلية تتلف النطف وتتخلص منها بعد مصادرتها.

سفراء الحرية بات عددهم 102 طفلاً.. على أمل لقاء نظنه بعيدًا ويظنونه قريبًا.
سفراء الحرية بات عددهم 102 طفلاً.. على أمل لقاء نظنه بعيدًا ويظنونه قريبًا.

بعض عمليات التلقيح الصناعي من النطف المهربة من الأسرى كانت تفشل، أو تصاب بالتلف قبل وصولها المركز الطبي. إذ أن بعض الأسرى أعادوا عملية التهريب أكثر من خمس مرات إلى أن نجحت النطف. وما يشمل ذلك من مخاطرة واتباع طرق جديدة وبأساليب مختلفة من أجل الحفاظ على سرية العملية والحيلولة دون انكشافها من الاحتلال.

ويشير حمدونة مدير مركز الأسرى إلى أن «الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة هي الوحيدة من حركات التحرر العالمية التي تميزت بهذا الإبداع. لا يوجد في تاريخ البشرية والإنسانية من ابتدع هذه الطريقة في السجون. هذا من إبداعات الحركة الوطنية الأسيرة وأحد جوانبها المهمة».

ويوضح أن إدارة السجون الإسرائيلية حاولت أن تمنع طفل الأنابيب ولم تعترف بشرعيته للأسير. أي عندما كان يأتي الأسير واسمه موجود على اسم الأسير بشهادة ميلاد كانت لا تعترف به إدارة السجن في البداية. تقول إن الأسير «ليس له أطفال إلا كذا وكذا»، وبالتالي منعتهم لفترة من الزمن.

«بعد ذلك رفع الأسرى القضايا، وتم كسب قضية الأبوة بهذه الطريقة واستطاع الأسرى والأطفال أن يلتقوا من خلال الزيارات»، يلفت حمدونة.

«مجد».. النُطفة الحرة التي أرعبت الاحتلال

بلغ إجمالي الأسرى الفلسطينيين الذين نجحوا في الإنجاب عن طريق النطف المهربة 71 أسيرًا
بلغ إجمالي الأسرى الفلسطينيين الذين نجحوا في الإنجاب عن طريق النطف المهربة 71 أسيرًا

ليديا ريماوي زوجة الأسير عبد الكريم الريماوي من رام الله. وهي ثاني زوجة أسير أنجبت عن طريق النُطفة المهربة بعد دلال الربايعة. تقول «فخورة جدا بهذه التجربة، وكررتها 3 مرات ولم تنجح، وعندي استعداد أن أعيدها لو سمح الأمر، فخورة بالتحدي وكسر الاحتلال والرعب الذي دخل لسجن نفحة الصحراوي عند زيارتي لزوجي وأنا أحمل مجد، ابن 3 أسابيع».

وأضافت «وقتها شفت الخوف والرعب والكسر بعيونهم، تجمع عدد كبير من الجنود حولي وجاء الصليب الأحمر الإسرائيلي ليفحصوا فعلا هل هذا الطفل ابن للأسير، وجندي من بين الجنود يقول بصوت عالي: أنا أعرف عبد الكريم من 12 عام من وين البيبي؟ وحرمنا من الزيارة وبقينا في ساحة السجن».

ثم تعبّر عن إيمانها «هالمشهد أعطاني قوة وعزة وشموخ، فخورة بصنع الأمل لزوجي وتحقيق الحلم».

حتى الآن، بلغ إجمالي الأسرى الفلسطينيين الذين نجحوا في الإنجاب عن طريق النطف المهربة 71 أسيرًا، 53 منهم من الضفة الغربية، و11 من قطاع غزة. ذلك إلى جانب 6 أسرى من القدس المحتلة، وواحد من فلسطينيي الداخل.

وسفراء الحرية بات عددهم 102 طفلاً.. على أمل لقاء نظنه بعيدًا ويظنونه قريبًا.