مطلع نوفمبر الماضي، كتب صاحب هذه السطور في نفس المساحة، مستنكرا فرض حالة من التكتم على قضية الفساد التي أُلقي فيها القبض على عدد من المسئولين بوزارة الصحة وإحالتهم إلى التحقيق.

انتقدت في مقالي السابق عدم مكاشفة الرأي العام بما جرى، وتجاهل جهات الدولة المعنية لحق المواطن «صاحب السيادة» في معرفة وقائع قضية تخص أمواله العامة، وتساءلت حينها لماذا لم تخرج علينا أي مؤسسة ببيان توضح فيه الحقائق المتاحة «حتى لا يسبح الجمهور في بحر من الشائعات المضللة».

مر على نشر هذا المقال نحو شهر ونصف، مع ذلك لم يعرف أحد ماذا جرى في هذه القضية بالضبط؟.. «ما هي الاتهامات التي طالت عددا من مسئولي وزارة الصحة؟ ومن هم هؤلاء؟ وما هي مراكزهم الوظيفية، وما هو حجم الأموال التي تحصلوا عليها؟».

كما لم نعرف حتى ما هي الحالة الصحية للوزيرة هالة زايد التي أشار بيان لمجلس الوزراء حينها إلى أنها في إجازة مرضية وأن وزير التعليم العالي سيقوم مقامها لحين شفائها، وانتظرنا أن يقوم أحد ممثلينا في البرلمان بممارسة حقه الدستوري وطرح تلك الأسئلة نيابة عنا تحت القبة، لكن للأسف لم يسأل فينا ولا في حقوقنا أحد.

لا أنوي التطرق إلى ما يتم تداوله في جلسات النميمة الصحفية على المقاهي وفي صالات التحرير عن تلك الواقعة، وبالطبع لن أشير إلى أسماء وصفات المتهمين وصلات بعضهم بالوزيرة «المريضة» والتي يتناقلها صحفيون ومحامون على علم بمجريات التحقيق في تلك القضية، فبيان النائب العام الذي صدر بعد أن كُشف عن الواقعة بـ 24 ساعة أهاب بالكافة الالتزام بما تعلنه النيابة العامة وحدها من معلومات، وبالتالي أي معلومة تنشر في هذا السياق قد تعرض صاحبها للمساءلة القانونية، وعلى هذا سألتزم كما التزم غيري بالصمت وسأشارك مكرها أصحاب القرار في عملية التجهيل المتعمد للرأي العام، وأرجو من الجمهور أن يلتمس لي العذر.

خلال الأسابيع الستة الماضية، أي منذ منع تداول المعلومات عن قضية «فساد وزارة الصحة»، تناقلت وسائل الإعلام أخبار 6 قضايا فساد ضبطتها هيئة الرقابة الإدارية وأجهزة الدولة الأمنية، وبعد أن نشرت الصحف خبر إلقاء القبض على المتورطين في تلك القضايا وإحالتهم إلى جهات التحقيق، عادت لتنشر بالتفصيل الوقائع من أسماء المتورطين إلى مبالغ الرشوة التي تقاضاها هؤلاء والذين تنوعت مراكزهم ما بين محافظ سابق ورئيس جامعة حال وسكرتير عام محافظة سابق وصولا إلى موظف بأحد الأحياء.

ولأن مؤسسات الدولة لا تتستر على فساد وتصر على أن تجعل من كل فاسد عبرة ليكون لمن خلفه آية فسمحت لوسائل الإعلام نشر ما ورد بجلسات التحقيق في القضايا الستة، فعلمنا مما نُشر أن رئيس جامعة دمنهور مُدعي الوطنية والفضيلة والشرف يخضع للتحقيق بتهمة تقاضي رشوة قدرت بنحو 4 ملايين جنيه من بعض المودرين لتسهيل تسليم توريدات إلى جامعته، وتابعنا أيضا ما نشره زميلنا طارق حافظ، المحرر القضائي في جريدة «الفجر» من تفاصيل القبض على محافظ سابق عاد إلى عمله الأصلي قاضيا ومعه مستشارين بهيئة قضائية إثر اتهامهم في قضية فساد مالي كبيرة.

مؤسسات الدولة المعنية قامت بما عليها ولاحقت الفساد وأوقعت بالمفسدين وأحالتهم إلى جهات التحقيق في تلك الوقائع الأخيرة، وقامت الصحافة بدورها ونشرت التفاصيل والاتهامات ليتابع المواطن صاحب الولاية الأول على المال العام ما يجري، ليأخذ  كل من تسول له نفسه مد يده على أموال الشعب أو التربح من مركزه الوظيفي العبرة والعظة، لكن منع النشر في قضية وزارة الصحة فتح الباب أمام أسئلة من عينة «اشمعنى.. وهل من تم ضبطهم في تلك الواقعة على رأسهم ريشة؟» .. إلى آخر تلك الأسئلة التي يتم تداولها وأرى أنها في محلها.

ألزم الدستور الدولة بمكافحة الفساد كما ألزم «الهيئات والأجهزة الرقابية المختصة بالتنسيق فيما بينها في مكافحة الفساد، وتعزيز قيم النزاهة والشفافية، ضمانًا لحسن أداء الوظيفة العامة والحفاظ على المال العام، ووضع ومتابعة تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد بالمشاركة مع غيرها من الهيئات والأجهزة المعنية»، بحسب ما نصت المادة 218.

وفي عام 2014 أنفذت الدولة النص الدستوري وأطلقت الاستراتيجية الأولى لمكافحة الفساد، ثم أطلقت المرحلة الثانية منها نهاية عام 2018 والتي تستمر حتى عام 2022.

وتمثلت المرحلة الثانية من استراتيجية مكافحة الفساد في 3 محاور أساسية «إصدار القوانين المنظمة لمكافحة الفساد، وتمكين الجهات الرقابية والقضائية من تنفيذ خطوات المكافحة، والإرادة السياسية لمحاربة الفساد وذلك لدعم قيم النزاهة والشفافية ومنع ومكافحة الفساد وتحقيق أهداف التنمية المستدامة».

وثيقة الاستراتيجية أكدت ضرورة ترسيخ مبادئ المحاسبة والمسائلة دون أي مجاملة أو تمييز وعبرت في أهدافها وإجراءاتها التنفيذية عن رسالة مفادها أن «محاربة الفساد والوقاية منه مسئولية مشتركة لكافة سلطات الدولة والمجتمع»، مشددة على حق المواطن فى التعـرف على النتائج والجهود المبذولة في تنفيذ الاستراتيجية ومتابعتها.

يتصادف أن مصر تستضيف خلال تلك الأيام أعمال الدورة التاسعة لمؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد. مواد تلك الاتفاقية التي تعتبرها الأمم المتحدة أول صك ملزم قانونا لمكافحة الفساد دعت إلى «تعزيز مبادئ الشفافية والمكاشفة للحد من تلك الظاهرة».

المادة (13) من الاتفاقية التي صارت جزءا لا يتجزأ من القوانين والتشريعات الوطنية بعد أن وقعت عليها مصر عام 2007، ألزمت الدول المشاركة في الاتفاقية باحترام وتعزيز وحماية حرية التماس المعلومات المتعلقة بالفساد وتلقيها ونشرها وتعميمها، وذلك في سبيل إذكاء وعي الناس فيما يتعلق بوجود الفساد وأسبابه وجسامته وما يمثله من خطر.  وأجازت المادة إخضاع تلك الحرية لقيود معينة، مراعاة لحقوق الآخرين وسمعتهم ولحماية الأمن والنظام العام أو لصون صحة الناس.

لا تسعى الصحافة إلى التشهير بمتهمين لم تثبت إدانتهم بعد، ونتفق جميعا على أن المتهم بريء حتى يثبت العكس، لكن إذا كانت الدولة التزمت بما جاء في الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد وبالاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد اللتين نصت موادهما على ضرورة احترام وتعزيز الشفافية وحرية نشر المعلومات المتعلقة بالفساد، وسمحت بتداول معلومات ووقائع 6 قضايا فساد كبرى في فترة تقل عن شهر ونصف، فلماذا لم تكاشف الجمهور وتحترم رغبته في المعرفة وتعلمه بما جرى في وزارة الصحة كما أعلمته بما جرى في باقي القضايا التي تم ضبطها.

بعد أسابيع قليلة ستعلن منظمة الشفافية الدولية التقرير السنوي الخاص بمؤشر مدركات الفساد العالمي والتي احتلت مصر في نسخته الأخيرة عن عام 2020 المركز 117 من أصل 180 دولة على مستوى العالم، فيما أصبح ترتيبها عربيا الـ11 لتأتي بعد الإمارات وقطر وعمان والسعودية والأدرن وتونس والبحرين والكويت والمغرب والجزائر.

ويصنف مؤشر مدركات الفساد 180 دولة من خلال المستويات المتصورة لفساد القطاع العام، ويستخدم المؤشر، المقياس من صفر (شديد الفساد) إلى 100 (خال من الفساد).

ورغم حصول مصر في التقرير الأخير على درجة أعلى في مكافحة الفساد مقارنة بتقرير 2019، إلا أن ترتيبها العالمي تراجع بعد أن أبدت دول أخرى استعدادا أكبر في مواجهة الفساد.

وحصلت مصر على 33 درجة في مؤشر 2020 مقابل 31 درجة في 2019، لكن ترتيبها تراجع إلى  117 عالميا مقارنة بـ 106 عالميا في 2019.

لا نملك إلا أن نتفاءل بأن يتحسن مركز مصر في التقرير المنتظر إعلانه مطلع العام الجديد، لكن واقعة فساد وزارة الصحة وما جرى فيها من تعتيم قد تكون من النقاط السوداء التي تدفع معدي التقرير إلى وضع مصر في مركز متراجع لا يختلف كثيرا عن مركزها في السنوات الماضية.

غياب الشفافية والتخلي عن آليات المساءلة العامة وتراجع الديمقراطية والتحريض ضد المعارضين من الأسس الحاكمة لترتيب الدول على مؤشر مدركات الفساد، فإذا كانت الدولة جادة في محاربة الفساد، وإذا كانت ترى أنه أحد العقبات الأساسية أمام تحقيق التنمية والازدهار وجودة الحياة، وأنه يؤدي إلى ارتفاع معدلات الفقر وضعف الثقة في المؤسسات العامة، ويؤثر سلبا على حقوق الإنسان، على ما قال مصطفى مدبولي رئيس الوزراء في كلمته أمام مؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، فعليها أن تلتزم بالشفافية وتعزز آليات المساءلة والرقابة وتمضي بخطوات حقيقة في طريق بناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة.