تثير واقعة “سيدة البلكونة”، الاسم الإعلامي للفتاة الأوكرانية التي صورها أحد جيرانها أثناء إطلالتها بملابس، رآها مواطن مُخلة. من شرفة منزلها بالتجمع الخامس، نقاشات آنية عن الحرية الشخصية، ومدى الجرم الذي ارتكبه المتلصصون بانتهاك خصوصية شخص. مصريا كان أم أجنبيا، امتدت إلى نقاشات أخرى أوسع، وأكثر عمقا عن التحولات التي تطرأ على أخلاق المصريين بشكل عام.

تعاملت الفتاة الأوكرانية على طبيعتها، كأجنبية تعيش في بلد سياحي، وتقيم في حي جديد. يتقاسمه الأثرياء والهاربون من جحيم “المناطق الشعبية”، لكنها لم تعلم أن في الجهة المقابلة من شرفتها. ينتظرها جار تخدش حياءه مثل هذه الملابس، بل ويعتبرها تمارس أفعالا مخالفة للقانون المصري. لذا وجدت نفسها أمام ضباط الشرطة يسألونها عن سبب ظهورها بهذا المظهر.

هذا الموقف حرك المحامي هاني سامح لاتخاذ إجراء مضاد ضد الجار المتلصص وتحرير بلاغ ضده. متهما إياه بالتعدي على حرمة الحياة الخاصة والمنزل، مشيرا في بلاغه إلى أن الاتهامات التى وجهت للسيدة تشكل إساءة لسمعة البلاد. وتصويرها كبلد رجعي متزمت على خلاف الحقيقة.

واستند البلاغ إلى الحقوق الدستورية للمواطنين من حظر القبض والتفتيش والاحتجاز بدون إذن من النيابة العامة. وفق ضوابط القانون وإلى قانون العقوبات وقانون تقنية المعلومات في تجريم كل أشكال الاعتداء على حرمة الحياة الخاصة.

حظ الأوكرانية أفضل حالا من المصرية التي تعيش في حي السلام الشعبي. التي دفعت حياتها ثمنا لتلصص جيرانها عليها، لكن الأمر لم يقتصر على تصويرها شبه عارية وتداول صورها على وسائل التواصل الاجتماعي. بل انتهى أمرها في الحال، حين اقتحم رجل وزوجته وشخص آخر منزلها، لشكوكهم في سلوكها، ما دفعها لإلقاء نفسها من شرفة المنزل.

انخفاض سقف الحريات

التلصص كان دوما أحد نشاطات المصريين المرتبطة بنتيجة انخفاض مستوى سقف الحريات. وارتباط منظومة القيم بالتعاليم الدينية، وتسلط المؤسسات البوليسية. فالتلصص. وإصدار الأحكام الأخلاقية والقيمية كانا دوما ملازمين للمصريين في مختلف الأجيال والحقب. وكثيرا ما أسفرا عن جرائم ترتكب بحق الجميع، وبالذات ضد النساء، حسبما يقول الباحث أشرف الصباغ.

تلك الوقائع تحيلنا إلى ما يسميه البعض “تراجع منظومة الأخلاق المصرية”. والتي عادة ما تتأثر بعوامل اجتماعية وسياسية واقتصادية، دون أن نضطر إلى تحديد العهد الذهبي للأخلاق المصرية.

وبرأي الصباغ، فمن من الصعب التعامل مع الأخلاق بعيدا عن التحولات الاجتماعية والظروف الاقتصادية. إضافة إلى مستويات التعليم والثقافة والوعي والحريات العامة والخاصة، ومنظومة القوانين التي تحكم علاقات المجتمع وتحدد الحقوق والواجبات.

لا يعتقد الصباغ أن هناك تغيرات للأسوأ أو للأحسن في أخلاق المصريين. فهناك تحولات خاضعة للظروف والشروط. مشيرا إلى أنه قد تكون النكبة الحقيقية التي أصابت المجتمع المصري، والدولة المصرية. في سبعينيات القرن العشرين، والتي يطلق عليها  “الصحوة”، هي أحد الأسباب الجوهرية “الظاهرية” لحالة تدني الوعي والشطط في العلاقات الاجتماعية والجنسية. وإصدار الأحكام الأخلاقية، ومن ثم التلصص وامتلاك الحقيقة وامتلاك الحق في إصدار الأحكام والمحاسبة وإنزال العقاب.

الهجرة إلى الدول النفطية

خلال السبعينيات تحديدا شاعت تفسيرات مختلفة عن التحولات التي طرأت على أخلاق المصريين. إلا أن أكثرها شيوعا بحسب ما أورده الكاتب جلال أمين في كتابه “ماذاحدث للمصريين” كان نسب التحول إلى ظاهرة الهجرة إلى الدول النفطية. وتحمليها مسؤولية شيوع الاستهلاك المظهري والترفي، وازديات التفاوت في الدخول وما مرافقها من سلبيات. مثل تفكيك روابط الأسرة والانصراف عن القضايا القومية والانشغال بالكسب المادي.

هذا أيضا ما خلص إليه أشرف الصباغ الذي يشير إلى أن الهجرة الجماعية التي طردت المصريين من بلادهم إلى دول ومجتمعات النفط. في السبعينيات والثمانينيات أثرت كثيرا، لأن المصريين الذين هاجروا كانوا جاهزين لاستقبال كل الأفكار المطروحة في تلك المجتمعات. وكان المجتمع المصري نفسه جاهزا لاستقبالها مع عودة هذه “القنابل الموقوتة التي تحمل كافة السموم الممكنة”. هكذا يفعل الفقر والجهل والعوز وانهيار التعليم والصحة والفساد السياسي.

لا يريد الصباغ أن يصنف أجيال باعتبارها أفضل أخلاقيا من أجيال أخرى. ففي حقب ما قبل عام 1952 كانت جرائم الشرف منتشرة والجميع ينظر إليها بصمت وموافقة واستحسان. وفي المقابل كان الفن والثقافة مزدهرين في الطبقة العليا، ولدى الشريحة الأعلى من الطبقة الوسطى رغم محافظتها نسبيا. وبالفعل وصلت إلينا صور ذهنية محددة اكتسبت الكثير من المبالغة أو التبسيط أو الرفض أو القبول.

ملامح دولة حديثة

وفي الخمسينيات والستينيات، كانت هناك أولويات اجتماعية وثقافية ومعرفية، ومشروعات عامة ومحاولات لإرساء ملامح دولة حديثة. ولكن كان ذلك على مسارات أحادية لم تتخل عن الدين والأخلاق بمفهومها الديني. فكانت هناك تناقضات حادة للغاية، تم علاجها بالصمت والسكوت.

وكان غياب مفاهيم الحريات الخاصة والعامة، والاكتفاء فقط بالكلام عن “شعارات” لا تملك رصيدا اجتماعيا وتاريخيا وثقافيا ومعرفيا. وخلط المفاهيم بين الدين والعلم، وبين الأخلاق والفن، وبين الشخصي والعام. سببا لوضع المجتمع على أرضية شديدة الحساسية وقابلة للانفجار في أي لحظة.

وعندما حلت فترة السبعينيات كان كل شيء جاهزا لـ”الصحوة”. وكانت فترة الكساد والتراجع والكسل في فترة حكم حسني مبارك التي امتدت لثلاثين عاما أرضا خصبة وصالحة لإنتاج المزيد من العفن الاجتماعي والأخلاقي والعقلي والقيمي. الذي تشارك فيه الدولة نفسها بوسائل إعلامها وبطوابيرها الخامسة.

يقول جلال أمين في كتابه “ماذا حدث للمصريين” الذي يشخص فيه أمراض المجتمع المصري خلال النصف الثاني من القرن العشرين. أن الحراك المجتعي هو الذي حكم التطور خلال نصف القرن، أي ما يطرأ على المركز النسبي للطبقات والشرائح الاجتماعية صعودا وهبوطا. ظاهرة شديدة الصلة ببعض من أقوى النوازع الاجتماعية كالرغبة في اكتساب احترام الآخرين. أو الرغبة في التفوق على الآخرين، أو الرغبة في إشباع الميل إلى السيطرة، أو الخوف من فقدان كل ذلك.

الحراك الاجتماعي السريع

فترات الحراك الاجتماعي السريع هذه قوت من القيم المادية وخفضت من تقييم المجتمع لما يسمى بفضائل الأخلاق. كما أدى إلى زيادة احتمالات التردي والسقوط إلى إضعاف قدرة الطبقات المهددة في مراكزها الاجتماعية على مقاومة مختلف وسائل الإغراء المادي.

الجرائم الاجتماعية أيضا مجرد مظاهر لهذه العجلة في الصعود الاجتماعي أو لفزع شديد من الهبوط. حيث يصف أمين الجريمة بأنها أكثر أنواع النشاط غير المنتج إسراعا بتحقيق هذا الصعود، يقوم بها أكثر الأفراد عجلة ونفاد صبر.

برأي الدكتور جمال فرويز، أستاذ علم الاجتماع والطب النفسي، فإن الجرائم الأخلاقية لم تكن منتشرة بشكلها الحالي قبل نكسة 1967. فما حدث بعد هذا التاريخ تحديدا يمكن عنونته تحت “انهيار القيم” بفعل تراجع الثقافة وانتشار أغاني مثل “الطشت قالي” للمطربة عايدة الشاعر. وهي أغاني فهمت أنها انصراف من الجمهور عن القضايا العامة، وتكريس واقع جديد مائل للانهزام والتحلل.

يربط فرويز في تحليله بين محاولات تغيير الهوية والانحدار الأخلاقي، وفي هذه المسألة يذكر أكثر من مثال. فالاحتلال الفرنسي على سبيل المثال رغم نجاحه في ترك بصماته على دول عربية سواء في اللغة أو العادات وما لحقها بظواهر أخرى. فشل في تدمير الهوية المصرية، بينما نجحت أساليب أخرى لم يستطع الشعب رفضها مثل الثقافة الوهابية.

هذا العفريت، الذي يقصد به فرويز الثقافة الوهابية، الذي تسلل مع الانفتاح الاقتصادي الذي بدأه أنور السادات لم يستطع المصريون إخراجه حتى الآن. خصوصا أنه تقاطع مع ظواهر أخرى رصدها جلال أمين في “ماذا حدث للمصريين”. ولخصها في الهجرة النفطية وصعود الطبقة الدينية، والتي بصعودها تلاشت عادات أخرى من بينها بالتأكيد حرية المرأة.

أما المسمار الأخير في نعش الأخلاق المصرية فحمله فرويز إلى مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقاتها. بعدما باتت وسيلة لتوثيق ممارسات لم يعتد عليها المصريون، وفتحت الباب أمام نشر قيم جديدة، يراها فرويز، كرست الانحدار الأخلاقي.

يلفت أشرف الصباغ أيضا إلى أن هناك نزوع لدى كل الأنظمة السياسية المصرية. في عزل المصريين عن وتائر التطور تحت دعوى الأخلاق والقيم والعادات والتقاليد. هذه الأنظمة السياسية المتحالفة دوما مع المؤسسات الدينية. تعمل على “حماية” المصريين وحماية أخلاقهم ودينهم، فتفرض المزيد من القيود، وتغلق الأبواب والنوافذ. وفي النهاية تكون النتيجة، مزيدا من العزلة.