حين كنت طفلة، لا أعرف شيئا عن وجود الجنس، ولا بداياته، ولا الفرق الحقيقي التشريحي بين الذكر والأنثى. ولا أجد اجابة واضحة لسؤالي: ” كيف يحدث الحمل وتنجب الستات الأطفال؟”، في هذا الوقت، حين كنت أشاهد الأفلام كنت أنتظر بحماس وبلا صبر.. مشهد النهاية، حيث البطل حتما سيُقبل البطلة قبل أن تنزل كلمة النهاية على وجههما..

كنت أسعد بتلك البوسة حقا، كان وقعها لدي عظيما -أنا الطفلة التي لا تعرف شيئا عن العلاقات العاطفية ولا الجنسية. كنت أعتبرها علامة الحب وبرهان على الألتزام والوعد بالسعادة اللانهائية بين الطرفين وبداية الفرح.. نعم كنت ساذجة ولكنني كنت بكل بساطة أتلقى القبلات السينمائية كما أراد صناع الفيلم أن يتلقاها جموع المشاهدين- بنفس عفويتي. كنت أراها دليلا على الحب وتعبيرا عن الفرحة بالأتفاق والألتزام واحتفالا بلحظة التلاقي والانتصار على المصاعب التي مروا بها في أحداث حياتهما/ أحداث الفيلم والتفوق على الشرير وكشف التلاعب والقرب المؤكد بعد كل هذا.

بعد أن أصبحت أما لطفلة، لم أغلق أبدا الشاشة أمامها عند مشاهد القبلات، بل كنا –أنا وهي- نحتفل بهذه القبلة اللطيفة مصفقين “البطل بيبوس البطلة.. صقفي يا فريدة” كما كان يفعل عاطف وأصحابه في فيلم “الحفيد”.

في السنوات الأخيرة صارت القبلات السينمائية ممنوعة، ليس بشكل صريح أو بقرار رسمي، ولكن بشكل متعارف عليه في الوسط الفني. صارت القبلات منعدمة تماما أو يتم تصويرها بزاوية معينة توهم المتلقي بأن هنا حدثت قُبلة ويجب أن تعترف بذلك بيننا وبينك نحن صناع الفيلم وأنت المشاهد.. فماذا حدث جعلنا كمشاهدين نحرم القبلات وكصناع أفلام يستسلمون لل” ذوق العام” وهو تعبير به مفارقة.. فأين الذوق في تقبل حذف مشهد بوسة من الطبيعي أن يحدث بين المتحابين والأزواج؟

(1 )

“القبلة إن كانت للملهوف اللي على ورد الخد يطوف.. ياخدها بدال الواحدة ألوف ولا يسمع للناس كلام ولا يخشي للناس ملام”

بيرم التونسي- أم كلثوم 1945

(2 )

منذ أقل من أسبوع أثار المقطع الدعائي “البرومو” للفيلم السوري “الإفطار الأخير” جدلا كبيرا عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وحصد آلاف المشاهدات والتعليقات وأيضا الاعتراضات، لماذا؟

فيلم الإفطار الأخير
فيلم الإفطار الأخير

في المقطع المتداول، تظهر الفنانة السورية، كندة حنا، وهي تطبع قبلة خاطفة على شفتي الفنان عبد المنعم عمايري. ضمن أحداث الفيلم الذي عُرض لأول مرة خلال فعاليات أيام الثقافة السورية.

وفي مشهد آخر ظهر الثنائي وهما يتبادلان قبلة طويلة. وقد افتتح المقطع الترويجي للفيلم بهذين المشهدين واختتم بمشهد ثالث تظهر فيه بطلة الفيلم مضرجة بدمائها.

وبالطبع تلقت كندة النصيب الأكبر من اللوم والتجريح في تعليقات المشاهدين والمدونيين وهو بالطبع يدل على النظرة الدونية للمرأة وعفوية القاء اللوم والذنب عليها.

في اكتوبر الماضي في فعاليات مهرجان الجونة السينمائي، تحديدا أثناء عرض فيلم “قمر 14” للخرج هادي الباجوري. ضجت القاعة بالتصفيق في مشهد تبادل القبلات بين خالد النبوي وشيرين رضا، بالطبع أغلب الحضور–إن لم يكن كلهم- من الاعلاميين وصناع السينما. هذه حقيقة لا يجب اغفالها.. فطبيعة الجمهور مختلفة ولذا كان رد الفعل تلقائي مُرحب بعودة مشهد القبلة للشاشة الكبيرة.

(3)

“- أنا عاوز أبوس..

-لأ.. أستاذ يوسف شعبان هو اللي يبوس وأنت تنضرب وبس.”

فيلم نص ساعة جواز 1969

(4)

في عام 1939 كانت أول قبلة واضحة ناجية، في فيلم “العزيمة” بين حسين صدقي وفاطمة رشدي. سبقتها قبلتان: الأولى في عام 1927 في الفيلم  الروائي الطويل الصامت “قبلة في الصحراء” للمخرج ابراهيم لاما وهو مخرج فلسطيني مصري وكان الفيلم من تمثيل: بدر لاما وبدرية رأفت وأنور وجدي ولكن لعدم شهرة الفيلم فلم نتذكره. فيما بعد قام محمد عبد الوهاب بتقبيل سميرة خلوصي في فيلم “الوردة البيضاء” في عام 1933 ولكن تم حذفها بعد تقديم بلاغ للنائب العام واعتراض الأزهر على مشهد القبلة.

فيلم العزيمة
فيلم العزيمة

مشهد قبلة البطل والبطلة في نهاية الفيلم  الذي عشقته وأنا طفلة- كان بصمة مميزة للمخرج توجو مزراحي في جميع أفلامه العاطفية. فقد كان أول مخرج يضيف هذه ال”قفلة” للفيلم وتبعه أغلب المخرجين في هذه الفترة وقلدوه. وحتى نهاية السبيعينات كانت هذه المشاهد تمر بلا احساس بالحرج أو ال”حرمانية” أو اعتبارها ترويج لعمل مخزي. مع بداية الثمانينات وانتشار التيارات الاسلامية أصبح صناع الأفلام وبعض الممثلين وأيضا الممثلات اللاتي يتلقين النصيب الأكبر من النقد والاهانة- أصبحوا يخشون النقد والتحريم فقللوا مشاهد القبلات حتى اختفت تماما، إلا أنها ظهرت في بعض الأفلام على استحياء في فترة التسعينات..

( 5)

انتاج الأفلام السورية شهد تقريبا نفس التسلسل في السينما المصرية في تقديمها لمشاهد القبلات. بل أن ممثلين مصريون كثيرين كانوا يشاركون في لعب أدوار رئيسية في هذه الأفلام في فترة السبيعينات والثمانينات. وقبلها كانت سوريا تقدم مشاهد قبلات وعري كامل خاصة في أفلام الممثلة السورية “اغراء” أو نهاد علاء الدين في فترة الستينات.

أول فيلم سينمائي سوري طويل – في الأربعينيات- كان بعنوان “المتهم البريء” للمخرج أيوب بدري وقد ظهرت فيه بطلة الفيلم وهي صبية سورية بمشاهد مثيرة. فاعترض رجال الدين أيضا وسلطات الانتداب الفرنسي على الموضوع فاضطر المخرج لإعادة تصوير مشاهد الفتاة واستبدالها بفتاة ألمانية راقصة تقيم في دمشق لتقوم بالدور.

وأيضا مرت السينما السورية بفترة ظهور التيارات الاسلامية المتشددة، وأصبحت السينما ترفع نفس شعار السينما المصرية في هذه الفترة: “السينما النظيفة” فبدأت مشاهد الاغراء والعري والجنس بل وحتى القبلات تتراجع حتى أختفت تماما حتى الآن. حتى وصل الحال إلى ما جعل قبلة كندة للعمايري الأسبوع الماضي، فعلا فاضحا في نظر الكثيرين من الجهور بل وبعض النقاد المحافظين..

(6)

” بلاش تبوسني في عينيا.. دي البوسة ف العين تفرق”

محمد عبد الوهاب 1942

( 7)

حسنا.. هناك ثلاث فرق، الأولى تُحرم البوسات نهائيا وتعتبره فعل خادش للحياء وسعي من صناع الفيلم لزيادة ايرادات شباك التذاكر. الفريق الثاني يقبل بها ولكن في سياق الدراما.. بمعنى هل سيحدث خلل إذا أسقط المخرج مشهد القبلة؟ هل سينتقص ذلك من تطور الخط الدرامي؟ حينها نقدر أن نحدد، الفريق الثالث: هو أنا ومن مثلي، من يشاهدون الأفلام الأوربية والأمريكية على جميع منصات المشاهدة.. نري أنه طبيعي أن يتبادل حبيبان القبلات، فهي دليل على الحب وتعبير عن المشاعر مثل كلمة أحبك. نشعر بالضيق ونحن نشاهد فيلما على شاشة التلفزيون مقتطع منه بوسة واحدة بسيطة لا يتبعها أي مشهد جنسي. ونتساءل ماذا سيضير العالم والأسرة العادية إن شاهد أطفالها ومراهقوها القبلات وليس بالطبع المشاهد الجنسية. هل يظن الآباء والأمهات أن حجب هذه المشاهد هو أمر جيد لأبنائهم؟ هل يظنون أن أبنائهم لا يعرفون أن هناك قبلات في الحياة؟ هل منعها بتدخل من الوالدين بغلق التلفزيون أو تحويل القناة أو بمنعها من التلفزيون نفسه يصنع من أبني شابا محترما؟ هل يعتقدون أن الأبناء ليس لديهم مصادر معرفة اخرى يشاهدون فيها ما هو أكثر من القبلات بعيدا عن أعين الآباء الذين يحرمون مشاهدة فعل جميل بسيط يُكمل بقية الحدوتة الرومانسية؟

تحريم مشاهدة القبلات لا يصنع رجالا محترمين ولا فتيات مؤدبات، فهم يعلمون ويرون بعيدا، ولا يعني أن نشاهد مشهد قبلة أننا خاطئين نستاهل العقاب.. فلماذا يستحل الممثلون والمشاهدون مشاهد القتل وتعاطي المخدرات والتحرش والعنف والأسلحة التي تقطر دما ويحرمون مجرد قبلة.. متصورين أن البوسة ستدفع المشاهدين في قاعات السينما لممارسة الجنس الجماعي.