مرت السبت الماضي الذكرى العاشرة بعد المائة على ميلاد الأستاذ «نجيب محفوظ» (من مواليد 11/12/1911)، وحين هممت بالكتابة عن المناسبة تذكرت (باسمًا) مقولة سمعتُها من أكثر من مصدر، سواء في حياته أم بعد رحيله، يقولون: كان الله يرحمه «يعز الستات جدًا»، حين سمعتها رحت أعيد النظر فيما أبدعه، خاصًا بالمرأة، وإلى قصة النساء في حياته، خاصةً أنه نشأ في أسرة تشكل المرأة أغلبيتها، وحين تزوج صار هو الرجل الوحيد وسط زوجته وابنتيه.

العهدة على ما شهد به صديق الأديب الكبير وأحد المقربين إليه الأديب «يوسف القعيد»، وهي شهادة أقرته عليها الفنانة «معالي زايد» التي تعرفت عن طريقه إلى «نجيب محفوظ»، وقدمت من مؤلفاته أهم ثلاثة أدوار في مسيرتها الفنية: هي «زنوبة» في مسلسل «الثلاثية»، و«حميدة» في مسلسل «زقاق المدق»، و«ياسمين» في «دنيا الله».

تقول معالي: «تعرفت على الأستاذ نجيب لأول مرة عندما كنت أقدم شخصية «حميدة» في مسرحية عن رواية «زقاق المدق»، فوجدته خفيف الدم، سريع البديهة»، يقاطعها القعيد ليقول لها: «وكان يعز الستات»، فترد عليه معالي فورًا: «كان يعزهم قوي، قوي».

**

احتفى «نجيب محفوظ» بالمرأة في أدبه، وكان حفيًا بها في حياته الخاصة، وفي الحالين كان حضور النساء طاغيًا، وهو كإنسان قبل أن يكون أديبًا بدا شغوفًا بعوالمها، مستطلعًا لأسرارها ومحاولًا فك طلاسم غموضها، وقدم نماذج مختلفة لها، في أدبه، وتعرف على نماذج متعددة في حياته الخاصة، وإن جمعت بينها جميعًا ملامح مشتركة.

وقد لقيت صورة المرأة التي قدمها «محفوظ» في رواياته الكثير من الهجوم، واعتبر البعض أنه قدم صورًا مشوهة، لا تعبر إلا عن عالم واحد من عوالم المرأة المتعددة، فيه تنميط لصورة واحدة عن نوعية متقاربة الملامح، ليست هي في كل الأحوال أفضل صورة للنساء، ويتهم هؤلاء عالم المرأة في أدب «محفوظ» أنه يكاد يخلو من نماذج مشرقة، ونساء مكافحات، مما يذخر بهن أي مجتمع سوي.

**

الحقيقة أن المرأة في أدب «نجيب محفوظ» هي واحدة من أدوات تعبيرية ضمن رؤيته وأفكاره وسردياته، ناقش من خلالها قضايا ذات أبعاد مجتمعية وثقافية وسياسية، ورصد عبرها أحوال المجتمع في فترات زمنية مختلفة، وهكذا جاءت الشخصيات النسائية التي اختارها لتعبر عن أوضاع قائمة من ناحية، وعن حركة مجتمع يتطور من ناحية أخرى، في الوقت الذي عبرت فيه عن تطور نظرة المجتمع إلى المرأة نفسها، ولا يمكن أن ننكر أنها لم تكن شخصيات مخترعة، فهي نماذج موجودة، حتى ولو لم تكن هي النماذج السائدة، لكنها تقدم للأديب المساحة الإبداعية التي يتحرك فيها لرصد المجتمع ونقد أحواله، وليس الإقرار بما فيه.

تعددت صور المرأة في أدب «نجيب محفوظ»، فهي مرة في رواية «القاهرة الجديدة» الجميلة «إحسان شحاته» بنت الأسرة الفقيرة، أمها «عاهرة» متزوجة من «قواد»، وقادتها ظروفها الخاصة، والظروف المجتمعية المحيطة بها إلى ما انتهت إليه، ولم تستطع مثالية خطيبها «الاشتراكي» أن تنتشلها من أوضاعها الاجتماعية، ولا استطاعت أن تنقذها من الصراع الدائر حولها في محيط اجتماعي وسياسي يكشفه لنا «محفوظ» ويعريه بتمكن وإبداع يظهران أن الظروف القاهرة تصنع حالة اضطرار هي أهم أسباب ذلك الانحراف، ومبررات هذا السقوط.

وهي مرة في «زقاق المدق» الجميلة شديدة الطموح «حميدة» التي يُردي بها شغُفها بأن تعيش حياة أخرى في عالم مختلف عن «الزقاق» الذي ضاق بها وبطموحها، ذلك الشغف الذي يقودها إلى القلب الصاخب لمدينة تعيش أجواء الحرب العالمية الثانية، وفي هذه الأجواء وبحكم تلك الظروف تقع «حميدة» في براثن الخطيئة، حيث خرجت من دائرة ما رفضته لتدخل في دائرة ما لم تحسب له حسابًا، ولذلك هي بنت مرحلة الانتقال بعد الحرب العالمية الثانية في بلد يعاني مشاكل ومصاعب فترة التحول والتطور، وهي ضمن نماذج أخرى لم تستطع أن تحصن خروجها مما كانت فيه إلى ما كانت تأمله فسقطت وسقطوا في بئر الانحراف.

وهي في رواية «السمان والخريف» فتاة الليل «ريري» التي تقرر العودة للأخلاق بعد رحلة انحراف وقعت خلالها في الرذيلة، بينما كانت «رباب جبر» الموظفة في رواية «السراب» تعبيرا عن تطور جديد في المجتمع، الذي فتح لها أبواب التحرر، فتمسكت بوظيفتها، وقاومت تجبر حماتها، وعجز زوجها الجنسي، ويقودها ذلك إلى أن تسقط في علاقة محرمة، لتكون النتيجة المفجعة أن تفقد كل شيء حتى حياتها بعد عملية إجهاض فاشلة.

وهي مرة أخرى «نفيسة» في رواية «بداية ونهاية» التي تقدم صورة أخرى للأزمة التي يمر بها المجتمع في ظروف مختلفة، مثلها مثل حميدة وإحسان، لكن «نفيسة» العانس التي بحثت عن المتعة في الخفاء تنتحر في النهاية كضحية للمنظومة الاجتماعية القاسية وتعبر عن أزمة طبقة تنتمي إليها في ظروف مجتمعية قاهرة.  صورة الفتاة البائسة اليائسة التي تحالف عليها ما يدمر حياة أي إنسان، فقرها أولًا ثم جهلها ودمامتها، وقد تبدت في صورة تراجيدية تحيط بها المآزق من كل جانب، فماتت مرتين، حين استسلمت لضعفها ويأسها، وحين طاوعت شيطانها فقفزت إلى أعماق النيل والظُلمة.

و«الثلاثية» مليئة بصور أخرى مختلفة، بينها صور لنساء متحررات وأخريات مغلوبات على أمرهن. وبقية رواياته تذخر بالكثير من النماذج المتعددة، قدمها جميعًا في إطار من رؤية ورصد وسردية خاصة بكل رواية.

**

عاش «نجيب محفوظ» ـ كما يعترف ـ شبابه بالطول والعرض، وكان له في المرآة مقاييس خاصة في الجمال، كانت تشده إليها: البشرة البيضاء والعينان السوداوان والشعر الذهبي، توفر تلك المواصفات كان كفيلًا بأن توقع به في قصة حب، وكانت له جولات فاشلة في معارك الحب، كما كانت له صولات يعوض فيها خسارته.

وهو له في ذلك فلسفة خاصة ترى أن الأديب يبدع أفضل ما عنده وهو يحب، يقول: «كتبت الكثير من رواياتي تحت تأثير حالة حب، ودخلت قصص حب فاشلة، وحينها كنت أهرب من القاهرة كلها، أسافر بعيدا أغير الجو كله، وكانت الإسكندرية هي المكان الذي تهدأ فيه أعصابي، هربت إليها في كل مرة اصطدم حبي بصخرة الواقع، ولم يكن يشفيني من قصص الحب الفاشل غير قصائد غزل طويلة كنت أكتبها فيها».

**

بدأت قصصه مع الحب مبكرا، واحدة من بنات حي الجمالية ضمن مجموعة من الأولاد والبنات يلعبون معا، وكانت الصداقة الطفولية تستمر بينهم إلى أن تصل البنت إلى بداية مرحلة المراهقة فتجلس في البيت ولا تلعب مع الأولاد، في ذلك الجو المفعم بالبراءة والطهارة يقول محفوظ: عشت قصة حب ساذجة وبريئة انتهت بانتقالنا إلى حي العباسية.

ومثل كل الفتيان في مرحلة المراهقة استرعت انتباهه بنت الجيران، وبمرور الأيام بدأت تبادله النظرات، وتطورت العلاقة من النظرات إلى الإشارات من شبابيك غرفهم المتقابلة. وحدث أن أخاها الذي يكبره بأعوام قليلة بدأ يشك، فاستوقفه في الشارع ليهدده إذا لم يكف عن هذه الحركات الصبيانية التي تحدث من الشباك ستكون عاقبته غير حميدة، وفرض قيودا صارمة على أخته فمنعها من الخروج والوقوف في الشباك، ثم انتقلت أسرتها للسكن في حي آخر، وانتهت القصة.

القصة الثانية في حياة «نجيب محفوظ»، هي قصة الحب التي بقيت معه وفي قلبه طويلا حتى بعدما تزوج، وهي تكاد تكون قصة الحب التي وقع فيها «كمال عبد الجواد» في رواية «قصر الشوق»، كانت أخت صديق له، من أسرة تتخذ الطابع الأوروبي في التعامل، وترفض التقاليد المصرية التي كانت سائدة آنذاك. وكانت تكبره بخمس سنوات، يقول: «كنت أكتفي بالنظر إليها والسرحان في دنيا الأحلام»، حب من طرف واحد لمدة طويلة، حتى علم أنها ستتزوج وعندها: «عصر الحزن قلبي وكانت صدمة قاسية، انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام وبدأ حبها يخفت وتنطفئ نيرانه، خصوصا بعدما تخرجت في الجامعة وانشغلت بالوظيفة وبحياتي الأدبية ثم زواجي بعد ذلك، إلا أن حبي لها لم يهدأ أبدا، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي».

**

يعترف «نجيب محفوظ»، بأن علاقته بالبنات لم تكن تزيد على مداعبات تتجاوز الحد أحيانا، وكانت هذه التجاوزات البريئة تصطدم بالإحساس الديني عنده، وهو كان على أشده في تلك الفترة، يقول: «لدرجة أنني كنت أتوجه بالتوبة إلى الله يوميا». ولكنه في الفترة التي سبقت زواجه عاش بنص كلامه: «حياة عربدة كاملة»، يقول: «كنت من رواد دور البغاء الرسمي والسري، ومن رواد الصالات والكباريهات، ومن يراني في ذلك الوقت يتصور أن شخصا يعيش مثل هذه الحياة المضطربة، وتستطيع أن تصفه بأنه حيوان جنسي لا يمكن أن يعرف الحب والزواج. كانت نظرتي إلى المرأة في ذلك الحين جنسية بحتة، ليس فيها أي دور للعواطف أو المشاعر، وإن كان يشوبها أحيانا شيء من الاحترام، ثم تطورت هذه النظرة وأخذت في الاعتدال بعدما فكرت في الزواج والاستقرار».

**

تأخر زواج «نجيب محفوظ»، وكان يتابع عن كثب تجارب أصدقاء وزملاء فشلت زيجاتهم التي قامت على أساس الحب الرومانسي، ومع تكرار قصص حبه التي تنتهي من دون زواج، كان «محفوظ»، يبتعد أكثر فأكثر عن فكرة الدخول في مغامرة الزواج، إضافة إلى أنه كان يجد دائما من يخدمه: «كانت والدتي تقوم بكل مطالبي من طعام وغسيل وكي، فكانت حياتي في المنزل منظمة، أعود لأجد كل شيء كما أريده».

 

لكن يبقى السبب الأهم في عزوفه عن الزواج حتى سن متأخرة جدًا يكمن في تخوفه المزمن من أن يؤثر زواجه في مشروعه الأدبي، وكلما كبر في السن، كان يشعر بأنه فقد قدرته على «المرونة» المطلوبة في الزواج الذي يتطلب توافقا وشراكة تستوجب اللقاء عند نقطة توازن، وكان يرى أنه فقد قدرته على صناعة ذلك التوازن، بعد أن اعتاد حياة «العزوبية»، وتوطدت رغبته في ألا يغير شيئا من عاداته وطباعه، إضافة إلى أنه يرفض أن يعذب من ترتبط به بإرغامها على نظام حياته من دون أن يكون لها رأي في ذلك.

**

السبب المباشر في دفعه إلى الدخول إلى قفص الزوجية، أن أمه لم تعد قادرة على الأعباء الكثيرة المطلوبة منها، تزامن ذلك مع ما يسميه بفترة «اليأس الأدبي» تلك الفترة التي توقف فيها عن الكتابة بعد قيام ثورة يوليو سنة 1952، وجاء لقاؤه مع «عطية الله»، ليحسم القرار في النهاية ويتزوجها، كانت أخت زوجة أحد أصدقائه، «هادئة الطباع رقيقة المشاعر، فوجدت فيها ما أبحث عنه، إذ كانت متفهمة لطبيعة تكويني الشخصية واحتياجاتي ككاتب، فكانت الزوجة المناسبة لي من مختلف الوجوه، فوجدتني منجذبا إليها وكنت مشدودا بهاجس يقول لي أنت لو لم تتزوج هذه المرة لن تتزوج أبدا».

**

كان دور «عطية الله» في حياة الأديب الكبير عظيما فوق ما توقع، وأفضل ربما مما تصور، استطاعت هذه الزوجة أن توفر له جوا مناسبا جعله يتفرغ للكتابة والقراءة، يقول: «حتى أن إخوتي عندما كانوا يقومون بزيارتهم المعتادة لنا، كانت زوجتي تستقبلهم وتجلس معهم لتتركني وشأني، حتى لا أضيع وقتي في مثل هذه الواجبات الاجتماعية».

 

وها هو يعترف بعد حصوله على جائزة نوبل للآداب فيقول: «لا يمكنني أن أنكر أن زوجتي «عطية الله» تحملتني كثيرا وساعدتني في تطبيق النظام الصارم الذي فرضته على حياتي، ووفرت لي جوا مكنني من التفرغ للكتابة، وحاولت بقدر طاقتها أن تبعدني عن كل ما يعطلني ويشغل تفكيري».

**

لم تكن «عطية الله» في حياتها مع زوجها «أمينة» ولا كان نجيب محفوظ هو سي السيد، وإن كانت تعترف بأن «فيه بعض من صفات السيد عبد الجواد قليلا، لكن أقرب شخصية من شخصيات رواياته إليه هي «كمال عبد الجواد» فقد وضع فيها الكثير من حياته». ورغم اهتمامها بما يكتبه زوجها، فإن زوجته لم تطلع على أعماله وهي مخطوطة غير مرة لم تتكرر، وكان ذلك مع رواية «بداية ونهاية»، تقول: «أعجبت بها»، لكن كانت لها بعض التحفظات الأخلاقية على شخصية «حسنين» الذي تمرد على الحياة التي يعيشها، وقالت له: «إنه لا يمثل حياتنا»، فكانت المرة الأولى والأخيرة التي يطلعني فيها على ما يكتب، وأصبحت أقرأ إبداعه بعد النشر».

**

وحدها في البيت كانت تؤمن بيقين أنه سيحصل على «نوبل»، إلا أنه كان يقابل تلك البشرى ساخرا هو وابنتاه، تقول: «كنت متأكدة أنه سيفوز بها وكنت أنتظرها منذ سنوات. كنت أردد أمامه وأمام ابنتينا أنه سيحصل عليها، فكان يضحك بسخرية شديدة، ويقول لي: «إنها مجرد أحلام تداعب أفكارك فلا يمكن لأديب في العالم العربي الحصول عليها»، ودائما ما كان ينصحني بعدم ترديد هذا الكلام أمام الفتاتين، لكن الحمد لله لم يخيب الله سبحانه وتعالى ظني».

في آخر حوار له قال عنها زوجها الأديب الكبير: «إن كان لأحدٍ فضل في المكانة التي وصلت إليها بعد الله سبحانه وتعالى، فهي زوجتي «عطية الله» التي كانت بالفعل عطية من الله إليَّ»، وبعد وفاته بثماني سنوات، رحلت الزوجة المثالية في هدوء، كأنها أصرت على أن تحافظ على تراث زوجها، وتحفظ سلوكه، فتموت من دون ضجيج ومن دون أن يشعر بها أحد، تماما كما كانت في حياته.

**