سعينا منا للإجابة عن سؤال: من أين يأتي العنف ضد المرأة؟ نتتبع مسار القصة التالية. شقة إيجار لا يوجد بها ما يساعد على الحياة. فقط فرش بسيط يوحي بحياة معدمة لولا صرخة صغير بصحبة أمه التي تعمل 12 ساعة يوميا لتجنّب معاشرة زوج يعنّفها.
تلك الأم التي ناهزت الخمسين آثرت أن تهرب بأبنائها الأربعة من أسوان إلى المجهول. إذ سيطر عليها الخوف وهي تهرول بطفلة وثلاثة ذكور كبيرهم لا يتجاوز 13 عاما. فيما صممت على شق طريق غربتها لتنجو بأطفالها من الضرب والإهانة أو كما قالت “استعباد زوجها”.
أم “عبد الرحمن” ليست الوحيدة في مجتمع نسائي يعاني العنف. فهناك غيرها ملايين حول العالم يواجهون العنف المبنيَّ على أساس النوع مؤخرا في حملة الـ16 يوما. ولأجل تلك الحملة الدولية كثر الحديث عن صور العنف ضد النساء.
التطبيع مع العنف ضد المرأة
نعمل هنا على تتبع الإجابة عن سؤال: من الذي خلق طاقة العنف العارمة في مجتمعنا؟ وفي أي مرحلة تتم تطبيع العنف ضد النساء؟ هل لكيان الأسرة دور في ذلك؟ أم أن الزوج هو المتهم الأول ومنه ينتقل جين العنف إلى ضحاياه؟ أم إن تربية عامة للمجتمع ترسّخ في النفوس قدرا من الدونية والاحتقار لجنس المرأة تأسس عليه العنف ضدها؟
أول العنف فكرة
البعض يتحدث عن العنف كفكرة وثقافة يتم توارثها عبر الأجيال باعتباره “وسيلة إصلاح لحال النساء”. فهذه الأفكار تقول إن الحزم والقوة في التعامل يضبط سلوك الأنثى التي يعتبرونها “كائنا ناقصا“. وهذا ما جعل تعنيفها أمرا “طبيعيا وبدهيا” وأي رفض منها لذلك “التأديب” فهو درب من دروب “العيب”.
نورا محمد -مدير برنامج مناهضة العنف ضد النساء بمؤسسة “قضايا المرأة”- تقول: “ثقافة التعامل مع المرأة هي المأزق الحقيقي”. وتضيف أنه عادة ما يتم التعامل مع الأنثى باعتبارها “أقل” سواء داخل أسرتها أو في منزل الزوجية.
أي إن الفكرة التي يتم ترسيخها في وجدان الأبناء أن الأخت هي من تضحي وتعمل وتخدم وتُهان. هذه الفكرة بحسب “نورا” صاحبة التأثير الأكبر في ترسيخ مبادئ العنف ضد المرأة.
ولأن المرأة تخضع للعنف عادة من المقربين لها فلا يمكنها مواجهة الجاني. إذ يتم التعامل مع الأمر على أنه “عادي”. حتى تتزوج ويبدأ تعنيفها من شخص لا يربطها به هذا التشابك السابق فتبدأ الشكوى المحفوفة بالخوف. فيما تجد المرأة نفسها محاطة بأزمة “العيب” و”فضح أسرار الأسرة” ومنه تتحول هي إلى “جاني” في قلب صارخ للحقائق.
تعتبر “نورا” أن فكرة التعامل مع المرأة باستباحة تعنيفها أو إهانتها هي التي يجب تغييرها. وذلك يحدث بالتوعية وتعاون مختلف الفئات والمهتمين بهذا الملف. تقول: “المؤسسة هنا تناهض الاتجار بالنساء.. ندرب عددا من الأئمة والمحامين وطلبة حقوق وإعلام لنشر الثقافة القانونية والحقوقية في المجتمع”.
وبحسب تقرير لمنظمة الصحة العالمية فهناك 736 مليون امرأة تعرضوا لعنف جسدي أو جنسي لمرة واحدة في حياتهن بما يعادل واحدة من كل ثلاث نساء.
الأسرة أساس العنف ضد المرأة
الدكتورة نادية جمال -استشاري العلاقات الأسرية- أكدت أن العنف يبدأ من الأسرة. إذ إن هناك قطاعا كبيرا من الأسر يعمل على تدمير وتشويه شخصية الفتاة وتكريس دونيتها بداخلها. بالإضافة إلى أنها ترى أن أسوأ مرحلة من التعنيف تلك التي تمت داخل الأسرة الأولى “أم وأب”. خاصة إذا كان هناك أخ ذكر ففي تلك الحالة تجد المرأة نفسها أحط قدراً منه حتى في العقاب ذاته. فعلى سبيل المثال حينما يقرر الأب تعنيف ابنه الذكر لجُرم ارتكبه نجده يتعامل معه بقدر من الاحترام. بينما في حال الابنة تتم محاسبتها وإهانتها والاعتداء عليها حتى لو كان الأمر لا يرتقي لمستوى العقاب.
وتعتبر استشارية طب الأسرة أن الأسرة ترسخ في البنت من الصغر أنها بلا حقوق. بالإضافة إلى أنها فقط تؤدي واجبات ويصل الأمر لتحويلها إلى امرأة معدومة الشخصية. علاوة على استمرار ذلك النهج معها في بيت الزوجية. وتضيف: “الكثيرات يتأقلمن ويتعايشن مع التعنيف حتى وإن كان بدنيا باعتباره حق الرجل/الزوج”.
الزواج مبرر جديد للعنف ضد المرأة
“لا يهدأ زوجي إلا عندما يرى دمائي أمامه من شدة الضرب”. رواية أم عبد الرحمن عن حياتها مع “والد أبنائها” كما تحب أن تلقبه.
بالنظر إلى هذه القصة يستوقفنا أن الزوجة رحلت عن الزوج ولم تأبه لأي مخاطر قد تتعرض لها عند وصولها إلى القاهرة التي لم ترها من قبل. وتعلق على هذا بقولها: “نار الشارع ولا جنة زوج بيضربني لأن أطفالنا هيطلعوا مرضى ومشوهين”. وتضيف: “سبته لما بدأ يبعد عني ويضرب بنته بدالي فأصاب رأسها بجرح مرعب ولم أندم لحظة على تركه”.
تستطرد الزوجة الفارة من التعنيف حديثها: “رحلت عنه فهددني بأسرتي فأقنعتهم ببيع ما يملكونه والحضور للقاهرة وقد تم ذلك بالفعل”. وتضيف: “عاد يهددني بأطفالي فقررت أن أدفع له جزء من راتبي ثم تحدثت إلى أهله ليقوموا بتزويجه بأخرى وقد تم ذلك”.
“كل ما فكرت فيه هو التخلص من حياتي معه خاصة أنه لن يطلقني”. هكذا قالت أم عبد الرحمن. وأضاف: “ابنى الكبير الآن عمر 16 سنة ويمكنه تحمل المسؤولية معي لنحيا بكرامة ولا نُهان مجدداً”.
في تقرير منظمة الصحة العالمية -مارس الماضي- تم رصد تعرض واحدة من كل 4 إناث لعنف الشريك بين عُمرَي 15 و24 سنة.
المرأة “صامتة” في بيت الزوجية
القصص غير الآدمية التي تمر بها نساء كثيرات مؤلمة. فتروي الدكتورة نادية جمال -استشاري العلاقات الأسرية- تجربتها مع زوجين قدما إليها لاستشارتها فيما آلت إليه الأمور بينهما.
الزوج -حسب الدكتورة “نادية”- قال إنه لا يستطيع التعامل مع زوجته. فيما استطرد في شكواه دون توقف وزوجته صامتة. تضيف: “طلبت منه مغادرة المكتب ووقتها بدأت الزوجة تنطق: “ماتعرفيش هو بيعمل فيا إيه في البيت”. وتابعت: “لو اتكلمت معاه أي كلمة مصيري الضرب عشان كدا جاية هنا أسمع وأنفذ طلباته بس”. وأكدت: “عمري ما هرتاح لأن دي حياتي ولو زعلته بيرميني عند أهلي وياخد الأولاد وهناك باتعاقب برضه”.
وقد رفضت الزوجة نصيحة استشارية العلاقات الأسرية بالوصول إلى مساحة تفاهم مع الزوج. فهي قد حسمت أمرها: “خايفة وانتي مش هتكوني معايا وأنا باتحاسب في البيت”.
دراسة حالة لمنظمة الصحة العالمية كشفت أن أكثر حالات البلاغ عن العنف يكون الجاني فيها هو الشريك. وذلك في 161 دولة خلال الفترة من 2000 لـ2018. فيكما أكدت الدراسة أن نحو 641 مليون امرأة قالت إنها تعرضت لعنف الشريك بينما تقدر نسبة العنف خارج الزوج أو الشريك بنحو 6%.