ربما لم يكن ضروريًا إلقاء الكثير من الضوء على واقعة السائحة الأوكرانية، التي أبلغ عنها جيرانها في أحد أحياء القاهرة الراقية، لأنها خرجت إلى بلكونتها بملابس داخلية، لو لم تكن مصر قد انتهت لتوها من آخر احتفال سياحي/ أثري كبير في طريق الكباش.

إن حادثة “البلكونة” رغم مأساويتها وعبثيتها، ربما كانت لتحتل مساحة أصغر لو أن طموحنا الاقتصادي كان منصبّا على توسيع اقتصاد الإنتاج، وإنشاء المجمعات الصناعية وتأسيس أودية التكنولوجيا الرقمية، فهنا كانت تلك الواقعة المزعجة ستحتل موقعها في أسئلة علم الاجتماع وثقافة احترام الخصوصية من دون كثير  تأثير على طموحاتنا الاقتصادية. أما والحال أن الاقتصاد الخدمي يحتل موقعًا يكاد يكون الأبرز في خطط اقتصادنا، وعلى الرأس منه المحاولات الدؤوبة لإنعاش السياحة، وجذب أنظار العالم عبر مواكب المومياوات، وإحياء طريق الكباش، وقريبًا افتتاح المتحف المصري الأعظم على الإطلاق. فضلاً عن التركيز على المساحة الترفيهية في المدن الجديدة والتخطيط لإحياء “ممشى أهل مصر” على كورنيش النيل، وافتتاح المطاعم والمحال التجارية أسفل الجسور والكباري التي كانت القمامة تتراكم في محلها، فإن واقعة الاعتداء على خصوصية السائحة الأوكرانية تتخذ -أو ينبغي أن تتخذ- في هذا السياق حيّزا أكبر حتى مما حصلت عليه، والمؤكد أنها تستحق نقاشا أهم من مسألة: هل كانت السائحة ترتدي ملابس داخلية أم بيكيني؟ وهل من أبلغ عنها كان من النساء أم الرجال؟ وهل البلكونة جزء من المنزل أم قطعة من الشارع؟

أرجو ألا أعدّ مبالغًا إذا استدعيت الصدمة التي شعر بها الأمريكيون حين سبقهم الاتحاد السوفييتي إلى الخروج للفضاء الخارجي في منتصف الخمسينيات، والأسئلة التي طرحوها على أنفسهم. وبالأساس على نظامهم التعليمي محاولين فهم تأخرهم عن منافسهم التقليدي في سباق الفضاء، ولا أستدعي تلك الصدمة في إطار المنافسة السياحية مع منافسين إقليمين في دول وإمارات قريبة لا يخفي بعض اقتصاديينا رغبته في تقليدها، وإنما لنقُل أنني أستدعيها في إطار تلك الصدمة التي شعرت بها السائحة نفسها، التي فوجئت -حسب أقوالها- بصراخ يأتي من الشارع لم تستطع فهمه أو توقع معناه، وصولاً إلى وقوفها أمام سلطات رسمية واضطرارها إلى استدعاء مسؤولي سفارتها من دون أن ترتكب أية جريمة، لابد أن ذلك الصراخ الآتي من الشارع، والغضب الذي اندلع في الحي، والكاميرات التي أخذت تضيّق عدسة “الزووم” لتصور السائحة، قد بدا لها -آنذاك أو الآن- أقرب لأفلام هوليوود العنصرية القديمة التي كانت تصوّرنا كقبائل بدائية قد تبدأ ملاحقة الإنسان الأبيض في أي لحظة لتغليه في قدر هائل فوق النار.

فربما آن لنا أن نفكر في كيفية استخدام استثماراتنا السياحية، فمع كل الاحترام لموكب المومياوات وطريق الكباش وكافة الاحتفالات المهيبة السابقة واللاحقة، إلا أن آخر ما تحتاجه الآثار الفرعونية هو الدعاية، إن كل طفل دخل مدرسة في العالم يعرف عن عظمة الأهرامات وأبي الهول وكليوباترا والمومياوات، أما ما نعانيه حقا، وما يضعنا خلف دول لا تمتلك ربع إمكاناتنا السياحية والترفيهية، فهو سوء التجربة التي يتناقلها السائحون من فم لأذن، وعبر مواقع السياحة وكتب إرشادات السفر، والتي يبدو واضحًا إنها لا تقتصر على مشكلات البقشيش والقمامة والفهلوة، ففي كثير من دول العالم شيء من هذا أو ذاك، وإنما المشكلة الأبرز هي العداء التكفيري للثقافة المختلفة، والتي تنعكس آثارها في أشكال متنوعة تبدأ بالتحرش الجنسي وتمر بالنصب حتى تصل إلى اقتحام خصوصية سائحة في بيتها، إنها نفس العقلية التي تطارد فساتين المهرجانات وتصريحات اللاعبين الناجحين وكتب الباحثين والمفكرين، إنها العقلية التي تزدهر في ظل خطاب سلفي مهيمن على الإعلام ومشايخ يُسمح لهم أن يصدروا الأحكام الأخلاقية على الفئات الأضعف من المجتمع، ومنظومة تعليمية لا زال أمامها الكثير لتهيء الطلبة للعيش في القرن الحالي. إن المرء يحصل في النهاية على ما يسعى إليه، وإذا كنت تسعى إلى دوما إلى ابراز احتقارك للمختلف عنك، فلا تنتظر انتعاش سياحة لا تزدهر بغير  تقبّل الاختلاف.