تبحث البنوك المركزية العالمية، حاليًا، عن طرق إضافية لقياس التضخم الحقيقي، من أجل الوصول لتقديرات أكثر اتساقًا مع واقع الأسواق. والبناء عليها في قراراتها اللاحقة المتعلقة بوضع أسعار الفائدة.

بنك إنجلترا أحد الساعين بقوة في ذلك الملف عبر الاعتماد على علماء الإثنوجرافيا للحصول على أدلة على أرض الواقع حول الظروف الاقتصادية. في ظل تسجيل التضخم مستوى 5.1% وهو الأعلى منذ 5 سنوات.

تعتمد خيارات الاستثمار والادخار وتحديد سعر الفائدة على السلوك المتوقع للتضخم على المدى الطويل، ولسوء الحظ. فإن التفريق بين التغيرات المستمرة والمؤقتة في التضخم في الوقت المناسب وبطريقة موثوقة يمثل تحديًا لكل البنوك المركزية عالميًا.

“الإثنوجرافيا” تعتمد على تحليل البيانات وتفسير وظائف ومعاني الأفعال البشرية عبر الانخراط في عمل ميداني مكثف. إذ تُجمع البيانات بشكل رئيسي عن طريق المقابلات والملاحظات والعديد من مصادر البيانات الأخرى.

تنصب الدراسات الإثنوجرافية على وصف ثقافة جماعة بطريقة معقدة ومفصلة للغاية. وتتقاطع أيضا مع الإنثروبولوجيا المعنية بدراسة السلوك الاقتصادي للإنسان بما يساهم في فهم اضطراب الحياة الاقتصادية خلال فترات الأزمات.

تتسع حاليًا مجالات البحث عن التضخم الحقيقي، فأستاذة الاقتصاد بجامعة هارفارد. يدرسون بيانات الأسعار في الوقت الفعلي عبر شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي لتتبع التضخم بطريقة أكثر دقة وفي الوقت المناسب من مؤشرات أسعار المستهلك الرسمية.

يوجد عدد كبير من مقاييس التضخم  ولكل منها مزاياها وعيوبها التي لم تكن تتضح عندما كانت الأسعار والاستهلاك والإنتاج تتزايد تدريجياً. فتعطي المقاييس المختلفة نفس النتيجة تقريبًا لكن كورونا بما فرضته إغلاق وانخفاض في الإنتاج أظهرت تلك الاختلافات بقوة وأعطت إشارات متنافرة بينها.

الطريقة المصرية

في مصر، يتم حساب “التضخم الشهري” من خلال قياس نسبة التغير في أسعار السلع الاستهلاكية يوم 28 من الشهر الميلادي ومقارنتها باليوم ذاته من الشهر السابق. ويتم الإعلان عن النتيجة في اليوم العاشر من الشهر التالي.

تصل نسبة السلع التي يقيسها الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء لألف سلعة وخدمة مجمعة في فئات مثل الركوب والتعليم والفاكهة والخضروات واللحوم. ويتم جمعها من 10 آلاف و58 مصدرًا في الحضر و4337 ألف مصدر بالقرى.

يقصد بالمصدر أماكن بيع السلع الغذائية والصناعية بالتجزئة ومصادر تقديم الخدمات للمستهلك. ويصدر الجهاز إحصائيتين بالتضخم في القرى منفصلة عن الحضر أو المدن قبل ان يدمجهما في رقم نهائي.

سوق الخضر والفاكهة
سوق الخضر والفاكهة

ينصب تركيز الإحصاء على متوسط التغير الذي يطرأ بمرور الوقت علي أسعار البنود الاستهلاكية، أي السلع والخدمات التي تشتري لأغراض الحياة اليومية.

يتم احتساب الرقم القياسي لأسعار المستهلكين (التضخم العام) عبر صيغـة جيفونز لحساب الرقم القياسي البسيط (غير المرجح) للمجموعات السلعية والخدمية الأكثر تفصيلاً. وبعدها اسـتخدام صيغة لاسـبير المعدلة لإظهار الفروق في أسعار الشهر الحالي مقارناً بالشهر السابق.

“جيفونز” هو مؤشّر أسعار أولي يساوي المتوسّط الهندسي غير المرجّح للأرقام النسبية لأسعار معيّنة. وأسلوب “لاسبير المعدل” يتضمن ضرب الأوزان النسبية للسعر بصورة  فردية عن آخر فترة لمقارنة الأسعار في الوزن الترجيحي المحدث في الفترة السابقة ثم جمع الناتج.

الطرق الحسابية والإحصائية التي يعمل بها البنوك المركزية في العالم ومنها مصر صادقة. لكن الاقتصاديون يريدون حاليا أرقامًا ذات حس وروح، عبر تطوير أنظمة قياس التضخم لدمج الجوانب الكمية. أي الأرقام بالطريقة ذاتها التي يتم الاعتماد عليها حاليًا مع مقاييس نوعية مستجدة.

تغيرات مستمرة

سلوك المستهلك يتغير من يوم لآخر ما قد يقلل من فعالية توقعات التضخم المستقبلية. وبالتالي يجب البحث عن نظرة للأرقام صادرة من آخر حلقة في سلسلة تداول السلع أو بمعنى آخر تضمين المستهلكين كمصدر للدراسة، وليس مصادر تقديم الخدمات والسلع.

كان الدارج في الأزمات الاقتصادية القديمة أن يتخلف المستهلكون أولاً عن سداد بطاقات الائتمان ثم السيارات وأخيًرا المنازل. ولكن في الأزمة المالية الأخيرة بأمريكا غيروا سلوكهم ليبدؤوا بالتخلي من القروض العقارية أولا، في سلوك مختلف تماما عن الماضي.

تعتمد مصر مؤشرا آخر لقياس التضخم يعده البنك المركزي “التضخم الأساسي” الذي يستبعد السلع المسعرة إداريًا. وكذلك السلع التي تتعرض لهزات العرض والطلب مثل الخضروات والفاكهة، من حساب التضخم العام. وغرضه إجراء تحليل دقيق للأسباب المؤدیة للزیادة في الأسعار.

يهدف البنك المركزي من وضع مقیاس التضخم الأساسي إلى تحسین معرفة الجمهور بدینامیكیات التضخم. وبالتالي التقلیل من انتقال أثر صدمات الأسعار المؤقتة على توقعات التضخم، وبالتالي يكون رقمه في كثير من الأحيان مغايرًا للتضخم الذي يصدره الإحصاء.

مشكلات مستجدة

في خضم جائحة كورونا، واجه الباحثون الأمريكيون أزمة في جمع البيانات بسبب إغلاق الكثير من مصادر جمع البيانات. بجانب صعوبة التعميم، فتناول الطعام خارج المنزل يمثل 6% من سلة مؤشر أسعار المستهلكين في الولايات المتحدة. لكن الأمريكيون أنفقوا المزيد على شراء الطعام من متاجر البقالة، ما عوض النقص فى السلة ذاتها.

في مصر يتكرر الأمر في ظل وجود قطاع كبير من الاقتصاد غير الرسمي الذي لا يمكن من دراسة شاملة لسوق التوظيف الذي ينعكس بدروه على التضخم. فضخ المزيد من فرص العمل يعني توليد أموال في يد الموظفين الجدد، وبالتالي رفع نسبة الانفاق ومعه التضخم.

الخبير الاقتصادي ألبرتو كافالو، الأكاديمي بكلية هارفارد للأعمال. ابتكر مؤشراً لقياس التضخم في الولايات المتحدة خلال فترة جائحة كورونا بالاعتماد أوزان بطاقات الائتمان. التي تعكس ما يشتريه الأمريكيون.

رئيس جهاز حماية المستهلك، أيمن حسام، قال خلال قمة مصر الاقتصادية، مساء الثلاثاء. إن الدولة تتابع جيدا موجة التضخم الحالية عالميا، ودورها هو الإتاحة وإزالة أي عقبات لوجستية في تداول السلع، بحيث تقلل من عبء التكلفة على المواطن.

قال حسام، في القمة التي حضرها “مصر 360” نصًا: نحن لن نستطيع إيقاف التضخم. ولكن نستهدف أن لا يتجاوز نسبة معينة، بحيث تصبح عبئا على المواطن.. ودور الجهاز مراقبة الأسواق، وتوعية المستهلك أيضا وتوجيهه نحو التوفير والاقتصاد في شراء السلع والمنتجات. والتصدي غير المنضبطة في السوق.

حقوق المستهلك

بحسب رئيس جهاز حماية المستهلك فإن المستهلك هو الممول الرئيسي للاقتصاد سواء للصناعة أو التجارة أو الخدمات. وذلك فحماية حقوقه هو حماية للاقتصاد والحفاظ عليه. وأكد في الوقت ذاته على تطويع التكنولوجيا في التواصل مع المستهلك وسرعة حل مشاكله.

وطالما المستهلك هو المحور الرئيسي للتضخم وهو المتضرر أو المستفيد من ارتفاع أو انخفاض الأسعار. فيجب تضمينه في دراسة التضخم عبر جمعيات حقوق المستهلكين والمجتمع المدني المعني برصد الغلاء ومكافحته. وهي مؤسسات لديها القدرة على توفير البيانات اللازمة مثلها مصل مؤسسات تقديم الخدمات.

الدكتورة هالة السعيد
الدكتورة هالة السعيد

عن خطط الحكومة المصرية للسيطرة علي التضخم، قالت هالة السعيد، وزيرة التخطيط، في القمة ذاتها إنها شملت التحوط السلعي بتوفير عدد 4 من المخازن الاستراتيجية. وكذلك مناطق لوجستية في القاهرة، وجاري التوسع في انشائها لتغطي محافظات الجمهورية بالتعاون مع القطاع الخاص وصندوق مصر السيادي للاستثمار والتنمية.

تتضمن الخطة الحكومية طَرح السلع الاستراتيجية التي تُنتِجها الدولة من خلال شركات قطاع الأعمال العام أو القطاع الحكومي في منافذها المنتشرة الثابتة والمتنقلة بأسعار التكلفة أو بهامش ربح ضئيل. وتوزيع بعض السلع الأساسية على البطاقات التموينية تكلفتها الأساسية لفترة من الوقت.

الاستيراد ونسب التضخم

مشكلة التضخم الأساسية في مصر أنه مستورد في كثير من الأحيان. مثل أي دولة مستوردة تعتمد على الوفاء بقدر كبير من احتياجاتها عبر الاستيراد ومع ارتفاع التضخم عالميا فستتسرب الزيادة للسوق المحلية.

وزيرة التخطيط تحدثت عن تعميق المُنتج المحلي ومساندة الدولة للشركات وتمكينها من سد الفجوة بين الاستيراد والتصنيع. والتوسّع في الصناعات التحويلية التي تسهِم حالياً بنحو 16% من إجمالي الناتج القومي المحلي. فضلا عن تقديم الدعم لحاملي بطاقات التموين والمقيدين في برنامج تكافل وكرامة على أساس أنها إجراءات استثنائية. تلجأ إليها الحكومة لتصحيح موجة التضخم العالمية.

مشكلة التضخم في مصر تنبع من التأثير المتبادل للسياستين النقدية والمالية، فرفع المركزي الفائدة يرفع أعباء الدين الحكومي، وحفض الفائدة يشجع الاستثمار المحلي لكنه يضر وزارة المالية فيما يتعلق بجاذبية أدوات الدين الحكومية للمستثمرين الأجانب.

يجب على الجهاز المركزي للإحصاء والبنك المركزي المصري البحث عن وسائل جديدة. تستفيد من الرقمنة الحالية للوصول لقياس أفضل للتضخم يواكب تغيرات أذواق الجماهير وتغيرات الطلب.

ويمثل ضبط معدل التضخم عند المستوى المناسب كالاختيار بين أدوية بناء على تأثيراتها الجانبية الأقل ضرراً. فارتفاع الأسعار يحد من الاستهلاك، وانخفاضها يجعل الشركات تحجم عن التوسع في الاستثمار فترتفع البطالة. ويميل المستهلكون إلى تأجيل عمليات الشراء.