مع عودة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، إلى مكتبه بأديس أبابا في 8 ديسمبر، بعد إتمام المرحلة الأولى من الحرب على جبهة تحرير التيجراي لمدة 15 يومًا، نقلت وسائل إعلام إثيوبية محلية ودولية أخبارًا عن استعادة معظم المدن التي كانت تحت سيطرة جبهة التحرير في إقليم أمهرة. فضلاً عن تراجع وتقهقر قوات التيجراي، بعد تكبدها خسائر فادحة أمام الجيش الإثيوبي.
حينها، قال بيان مجلس الوزراء الإثيوبي، أن الحرب التي يقودها الجيش لن تتوقف حتى “تدمير العدو بالكامل”. بينما وعد باستعادة كافة المناطق الرئيسية من جبهة تيجراي. أكد البيان أنه “لا تراجع حتى استقلال إثيوبيا بالكامل”.
وقد تمكنت قوات الكوماندوز في الجيش الإثيوبي -خلال العمليات التي قادها آبي أحمد- من استعادة بلدات ديسي وكومبولتشا وباتي. ذلك بعد فرض سيطرتها على مناطق بورقا والجبال المحيطة في مدينة يأتي تشفرا بإقليم أمهرة. إضافة إلى تحرير مناطق كاساغيتا في إقليم عفار. وهي انتصارات أعقبت التقدم في عدة جبهات، منها مناطق باتي وشوى رابيت دبراسينا. الأمر الذي أجبر قوات جبهة التيجراي على التراجع باتجاه الطرق المؤدية للإقليم.
المشهد الإثيوبي.. التحول لصالح الجيش
في معركة أخرى معنوية، ربطت صحف محلية إثيوبية -محسوبة على الحكومة- بين المشاركة الرمزية في ساحة القتال لآبي أحمد بزيه العسكري وتمكن الجيش -في أسبوعين فقط- من تحقيق بعض الانتصارات، والسيطرة على مدن رئيسية. يبدو أن هذا مطلوبًا للحفاظ على شكل الحكومة حاليًا، وكانت قوات التيجراي تزحف بشكل متسارع نحو العاصمة أديس أبابا. خاصة بعد استيلائها على محاور ومدن رئيسية في إقليم أمهرة.
في مواجهة هذه الدعاية السياسية للموالين لآبي أحمد في إثيوبيا، حاول المتحدثون باسم جبهة تحرير التيجراي إظهار مواقف قوية، تؤكد استمرار قوتهم على الأرض، وعدم استسلامهم أمام حملات الجيش الإثيوبي الفيدرالي.
دفع هؤلاء المنتمون للتيجراي باعتبار أي تراجع مجرد تغيير في استراتيجية القتال. وقالوا إن ذلك أمر طبيعي في الاقتتال الممتد، الذي بدأ منذ هجوم الجيش الإثيوبي على إقليم تيجراي في نوفمبر من العام الماضي. وهو هجوم شهد فظائع بحق المدنيين، واشتركت فيه قوات من إرتريا، بحسب ادعاءات قادة تيجراي.
في بيان صحفي، نُشر عبر حساب المتحدث باسم جبهة تحرير التيجراي على “توتير”، ذكرت الجبهة أن تراجع القوات طبيعي في المعارك. حيث تجرى تعديلات لإعادة ترتيب القوات والتقدّم إلى الأمام.
أضاف المتحدث باسم الجبهة أن سحب القوات في بعض المناطق بإقليم أمهرة بعد السيطرة عليها، كان لإجراء تقييمات لأسباب ونقاط ضعف. وأن ذلك بغرض إعادة ترتيب قوات التيجراي لهجوم جديد، سيتم تحديده لاحقًا. فيما أكد أن ما تروجه إدارة آبي أحمد عن إبعاد وهزيمة التيجراي “هو مجرد دعاية حربية”.
لمن الغلبة.. كلاهما يعلن انتصاره
في أول رد بعد عودة آبي أحمد من جبهة القتال، أعلنت جبهة التيجراي تدمير أكثر من ثمانين ألفًا من جنود آبي أحمد وقوات أمهرة الخاصة وجيش أمهرة الوطني والميليشيات الخاصة الأخرى. فيما تم الإعلان عن إجبار الجيش الإثيوبي على التراجع من مدينة قاشينا. ذلك بعد تعرض قواته لخسارة فادحة، وفرض قوات التيجراي سيطرتها مجددًا على المدينة. وهو ما يشكك في رواية آبي أحمد بأن المرحلة الأولى من الحملة العسكرية على التيجراي اكتملت بنجاح.
بعد انتصار قاشينا، أكدت الجبهة أنه سيكون من الصعب على الجيش الإثيوبي الحفاظ على مدينة لاليبلا. وأضافت أن الانسحابات الأخيرة لقوات تيغراي من بعض المناطق في إقليم أمهرة كانت استراتيجية تكتيكية، حيث يبدأ منعطف جديد للحرب.
وتناقلت تقارير إعلامية لمحسوبين على جبهة التيجراي معلومات عن سقوط مدينة لاليبلا. ولهذه المدينة أهمية كبرى إذ تضم أحد مواقع التراث العالمي المسجلة لدى اليونسكو.
ولم تعلّق الحكومة الإثيوبية رسميًا عن أنباء سقوط البلدة مجددًا في أيدي القوات الموالية للجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، بعد تحريرها من قبل الجيش الإثيوبي الفيدرالي بقيادة آبي أحمد من قبل.
هل يؤثر الموقف الدولي على المشهد الإثيوبي؟
رغم أن العامل الدولي لم يكن يضيف كثيرًا على مسار حسم الصراع والحرب في المشهد الإثيوبي منذ نوفمبر من العام الماضي، ولم يجبر أي من طرفي الصراع على التراجع. إلا أن تحول بعض المواقف الدولية ضد جبهة تحرير التيجراي قد يضع عددًا من العقبات أمام قيادات الجبهة التي باتت مهددة بالعقوبات، بسبب ارتكاب جرائم إبادة جماعية. خاصة بعد توثيق جهات دولية للجرائم التي ارتكبت من قبل عناصر الجبهة في إقليم أمهرة.
عقب صدور تقرير للأمم المتحدة يحذر من ارتكاب جرائم حرب ضد التيجراي من قبل الجيش والنظام الإثيوبي، أدانت منظمة العفو الدولية جبهة تحرير التيجراي من ارتكاب انتهاكات في إقليم أمهرة الإثيوبي. وقالت إنها ترقى إلى جرائم حرب، وتتضمن عمليات نهب واغتصاب جماعي في منطقة “نفاس موشا” بإقليم أمهرة شمالي إثيوبيا. فضلاً عن تدمير منشآت للرعاية الصحية.
وقال تقرير لمنظمة “هيومان رايتس ووتش” أن متمردي جبهة التيجراي نفذوا عشرات الإعدامات ضد المدنيين في مدن بإقليم أمهرة، على مدار خمسة أيام، في مناسبات منفصلة. وهي الجرائم التي ترقى لأن تكون جرائم حرب، بموجب اتفاقيات جينيف.
كما ألقت بعض وكالات الإغاثة الإنسانية باللوم على جبهة تحرير شعب تيجراي في مصادرة شاحنات للمساعدات الغذائية والطبية، ومنعها من الوصول إلى المناطق المتضررة.
إلا أن إدانة منظمة العفو لم تلق صدى كبير بين المنظمات الدولية، مقارنة بالضغوط التي مورست ضد نظام آبي أحمد وسياساته القمعية في التيجراي منذ بداية الحرب. وهو ما أشارت له لجنة حقوق الإنسان الإثيوبية، في بيان أصدرته عن الانتهاكات الموثقة ضد المدنيين في إقليمي عفار وأمهرة، عقب دخول قوات التيجراي. وقد دعت المنظمات الدولية في مقدمتها الأمم المتحدة لإجراء تحقيقات موسعة في الانتهاكات ضد الإنسانية في شمال إثيوبيا.
وفي رد فعل غاضب ضد سرقة المواد الغذائية والمساعدات المقدمة عبر الأمم المتحدة، تم اتهام عناصر جبهة التيجراي بممارسة النهب الجماعي لمستودعات الأغذية. وهو ما يهدد بأزمة غذاء. خاصة وأن هناك تقديرات بأن 9.4 مليون شخص على الأقل يعانون من انعدام الأمن الغذائي.
الجلوس المستحيل على طاولة المفاوضات
مع اختلاف المواقف الدولية في دعم أطراف الصراع في إثيوبيا، ظهرت بعض الدعوات الساعية لإقناع طرفي الصراع بالحوار والجلوس سويًا على طاولة المفاوضات، وتجنب مسار الحرب القائم الذي لن يخلف إلا نتائج مدمرة. إلا أن المواقف المتصلبة لإدارة آبي أحمد باعتبار جبهة التيجراي منظمة إرهابية، لا تشير إلى أي إمكانية أو نوايا فعلية للتفاوض مع الجبهة، التي تتمسك هي الأخرى بمواقف متصلبة.
كانت إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، هددت بفرض عقوبات على إثيوبيا. وذلك في محاولة للضغط من أجل القبول بالتفاوض وإعادة ضبط المشهد الإثيوبي. إلا أن عدة شواهد تؤكد عدم فاعلية سلاح العقوبات الأمريكية. خاصة مع ما أعلنه مكتب رئيس الوزراء الإثيوبي بشأن الحرب التي لم تنته بعد ضد التيجراي. قال الرجل إن قيادته جيشه في الميدان لم يكن إلا مرحلة أولى من الحملة. وإن “اختبار إثيوبيا على هزيمتها كان مستحيلاً بالأمس، ولم يحدث اليوم ولن يكون ممكنًا في المستقبل”.
يرى مراقبون أن الوضع الحالي بعودة تقدم جبهة التيجراي عسكريًا لا يمكن معه التنبؤ بإمكانية الجلوس في مفاوضات. خاصة وأن العديد من المناطق في إقليم الأمهرة عادت إلى سيطرة الجبهة، بعد أن استعادها الجيش. كما أنه بانتهاء المرحلة الأولى من الحملة العسكرية التي قادها رئيس الوزارء، لم تكن هناك أي إشارات بما قد يمكن أن تقدم عليه القوات الفيدرالية بشأن السيطرة على عاصمة التيجراي في ميكيلي مرة أخرى، وملاحقة قيادات الجبهة.
سيناريوهات السيطرة.. الأحلام الصعبة
تردد وسائل إعلام إثيوبية محلية معلومات عن خطط لرئيس الوزراء خلال المرحلة الثانية من التحرك العسكري ضد جبهة التيجراي. ذلك بدفعهم من إقليم أمهرة إلى أراضي أقليم تيجراي الغربية. ومن ثم طردهم من جميع الأراضي التي سيطروا عليها. إلا أن تطورات الموقف على الأرض بعد أن أعادت قوات التيجراي السيطرة على عدد من المدن، أثبت عدم سهولة تحقيق هذا السيناريو.
وتبقى سيناريوهات حسم المعركة على الأرض هي المحدد الرئيسي لإمكانية الجلوس في مفاوضات بين طرفي النزاع. خاصة وأن كل طرف لا يزال يرى أن له الغلبة على الأرض.
يستند آبي أحمد على الدعم الدولي الذي بات ظاهرًا، للدفاع عن بقائه في منصبه. بينما تستند جبهة تحرير التيجراي على القوة التي حققتها على الأرض، بالتحالف مع قوميات أخرى تناهض استمرار آبي أحمد. وهو ما يُظهر استمرار الرهان على عامل القوة في حسم الصراع، الذي لا يزال بدوره مرشحًا للتصاعد والاستمرار لأجل غير معلوم. فكل طرف يؤمن بضرورة وحتمية تدمير خصمه، وعدم القبول بأي موقع له داخل إثيوبيا. وهو ما يمكن لمسه بقوة في خطابات العنف والكراهية التي يتبناها الجانبان، وتم عبرها شحن وحشد الجماهير في الشارع الإثيوبي.
المشهد الإثيوبي حاليًا يؤكد عدم صحة إمكانية تحقيق ما تروج له الحكومة الإثيوبية وحزب الازدهار الذي أسسه آبي أحمد، فيما يتعلق بالتخطيط لإقامة حوار وطني شامل، من أجل الوصول إلى توافق وطني يحافظ على وحدة وسلامة إثيوبيا وسيادتها الوطنية. إذ لم تظهر حكومة آبي أي نوايا فعلية للتمهيد لإقامة هكذا حوار.