“تشبه على نحو متزايد اجتماعًا لحرب باردة”. كانت وسائل الإعلام الدولية ترقب ما يدور في غرفة مغلقة على مجموعة السبع، بينما طبول الحرب تقرع على أطراف أوكرانيا التي تحذر رفقة الولايات المتحدة ودول غربية، روسيا من أنّ أي هجوم محتمل على الأراضي الأوكرانية ستكون عواقبه وخيمة.
الولايات المتحدة وحلفاؤها يتعهدون بحماية أوكرانيا من أيِّ هجوم روسي محتمل. في المقابل ترد موسكو بأن “أكثر من 95% من منصات إطلاق الصواريخ الاستراتيجية النووية جاهزة للاستخدام القتالي”. كان المشهد القتالي موغل في توتره، قبل أن تجتمع مجموعة السبع في بريطانيا.
شكل الاجتماع، وفق مخرجاته، جبهة موحدة ضد روسيا، لكن مجموعة السبع التي رفعت نبرة التحذير تجاه أعدائها، لم تنجح في الاتفاق على مسار عمل محدد يتجاوز الخطاب. باستثناء منح إيران “فرصة أخيرة”، للمجيء إلى طاولة المفاوضات مع حل جدي للمشكلة النووية.
عقدت قمة مجموعة السبع، في مدينة ليفربول الإنجليزية، بمشاركة وزراء الخارجية والتنمية من المملكة المتحدة الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وكندا واليابان. وممثلين من الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن ممثلين عن رابطة جنوب شرق آسيا (آسيان). وحاولت القمة صياغة آليات عمل جماعي للتعامل مع الأزمات الحالية التي تمر بها المنطقة بأكملها على رأسها التوترات الحدودية بين روسيا وأوكرانيا والمحادثات الجارية بشأن الاتفاق النووي الإيراني، إلى جانب التأكيد على الالتزام الجماعي تجاه تغير المناخ وترسيخ قيم الحرية والديمقراطية.
من الناحية العملية، لا يمكن القول إن القمة خرجت بآلية عمل محددة يمكنها مقارعة “أعدائها”. بيد أنّها سجلت نجاحًا آخر نسبيًا يتمثل في وحدة الهدف والمصلحة ومن ثم التوجه. ما يعني أن أيّ مغامرة روسية أو صينية أو إيرانية ستجد تجد تكتلاً موحدًا في أي وقت جاهز للتحرك.
مقدمات التوتر.. ما قبل القمة
تزامنت القمة مع فترة تعجّ بالتحديات على المستوى الإقليمي والدولي. حيث أثرت بعض الأحداث على صورة النسق العالمي في ظل التنافس المحتدم بين الولايات الأمريكية والصين. والسعي الروسي المستمر لاكتساب مساحات نفوذ جديدة، بالإضافة إلى التغيرات في استراتيجية الإدارة الأمريكية الجديدة في التعامل مع الملفات الأوروبية والشرق أوسطية. بجانب تسبب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في إرباك في المشهد الأوروبي، مما تطلب ضرورة إعادة تقييم مواقفها.
نشاط روسي مقلق
شهدت الفترة الأخيرة تصعيدًا ينذر بحرب باردة بين الغرب وروسيا، مما أدى إلى تعليق عمل مهمة الحلف في موسكو. جراء قيام روسيا بحشد عسكري لجنودها على الحدود مع أوكرانيا، بما يصل إلى 175 ألف جندي وفقا لتقديرات الاتحاد الأوروبي. بالإضافة إلى نشر صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، وتنويع ترسانتها النووية في شبه جزيرة القرم. فضلا عن ذلك، استعرضت روسيا قوتها في المنطقة من خلال محاولات اختراق المجال الجوي لبعض دول حلف الناتو. على غرار حادث السفينة البريطانية HMS Defender في يونيو.
وفي المقابل كثف الحلفاء تقديم الدعم المالي والتدريبات العسكرية والأسلحة لأوكرانيا. وبالتالي تسببت هذه التوترات في تداول أنباء بشأن تخطيط روسيا لشن هجوم عسكري على أوكرانيا. يقابله حشد مماثل من الولايات المتحدة وحلفائها، بما يهدد الأمن الجماعي في المنطقة ويحمل تهديدات بعيدة المدى لجميع الأطراف.
توغل صيني مثير للغَيَرة
واحدة من الأسباب الأخرى التي تثير حفيظة الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، تأتي من ناحية الصين التي تتوغل بأدواتها الاقتصادية وقوتها الناعمة في شرق أوروبا وجنوب آسيا بهدف دفع الصادرات وزيادة الاستثمارات. وترسي وجودها في القارة بهدف تيسير الطريق لمشروعها مبادرة الحزام والطريق. على سبيل المثال، سعت لإنشاء مركز إقليمي للنقل والخدمات اللوجستية في البحر الأبيض المتوسط من خلال الاستحواذ على حصة في ميناء بيرايوس في اليونان، كجزء من الطريق البحري للمبادرة.
التوغل الصيني المثير لغيرة دول غربية، ليس وليد اللحظة، لكنه وصل إلى مراحل متقدمة. وتفيد الإحصائيات بأن الصين أمدت 165 دولة بقروض تبلغ 843 مليار دولار لأجل 13427 مشروعا للبنية التحتية. وذلك خلال الـ18 عامًا الماضية. وهو يتسبب في تهديد دول مجموعة السبع بشأن الهيمنة الاقتصادية والتكنولوجية المتنامية للصين. لذلك تأتي دعوة دول جنوب شرق آسيا لأول مرة للاجتماع، كمحاولة لكسب ولائهم، من خلال تقديم برامج المساعدة والصفقات الاستثمارية. من أجل للتخلص من السياسة الاقتصادية التي تفرضها الصين.
كما أن منطقة “إندو- باسيفيك”- في المنطقة الممتدة من المحيط الهادئ شرقًا إلى المحيط الهندي غربًا- صارت مسرح التنافس الدولي بين الصين أمام الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين. وفي مارس أكدت قمة “كواد” التي ضمت (الولايات المتحدة، واليابان، والهند، وأستراليا) تفعيل التعاون العسكري في المنطقة، ودعم الشراكات الاقتصادية في مواجهة النفوذ الصيني المستشري في المحيطين الهادي والهندي.
وأعلن الاتحاد الأوروبي استراتيجيته لمنطقة المحيطين، والتي ترتكز على إبرام اتفاقيات اقتصادية مع دول جنوب شرق آسيا. وتعزيز الوجود العسكري الأوروبي بناء على توصيات ألمانيا تحت عنوان “ألمانيا وأوروبا وآسيا وتشكيل نظام القرن الحادي والعشرين معاً”.
تشنج غربي إزاء المفاوضات النووية
في الوقت الذي ينشغل فيه الغرب بكثاقة التحرك الروسي، تبدو دول السبع حالة تشنج إزاء المماطلة الإيرانية والتعنت بالمفاوضات النووية. وتدور الجولة السابعة من مفاوضات فيينا بهدف الوصول إحياء الاتفاق النووي الإيراني (خطة العمل الشاملة المشتركة 2015). إذ أتاح خروج الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عام 2018 من الاتفاق، الفرصة لتطوير إيران قدراتها النووية وبرنامج الصواريخ الباليستية. وزيادة مخزونها من اليورانيوم المخصب، بما شكل تهديدًا على المصالح الأوروبية وغيرها. وتحاول مجموعة 5+1 إجبار إيران على العودة إلى اتفاق شامل، يمكن من خلاله مراقبة وتحديد حجم الأنشطة النووية المسموح بها. وكذلك توفير كافة الضمانات التي تشمل شفافية وسلمية برنامجها. وفي المقابل تماطل طهران لإكمال مشروعها النووي، كما تشترط رفع كافة العقوبات التي فرضت عليها كضمان للعودة إلى الاتفاق السابق.
أوروبا بعد رحيل ميركل
على مدار 16 عامًا في السلطة، قادت المستشارة السابقة “أنجيلا ميركل” المشروع الأوروبي من خلال مبدأ “الحفاظ على الوحدة معًا”. وهو ما أهلها لأن تصبح القوة المركزية لأوروبا. كما قدمت خطة اقتصادية لمساعدة أوروبا على التعافي بعد الجائحة. وكذلك استطاعت من خلال تفعيل مبدأ الحوار وبناء الجسور الحفاظ على الوحدة الأوروبية وتقليل حجم الفجوة بين أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية. وإرساء مبادئ الاستقرار والثبات.
وبعد خروج المملكة المتحدة “البريكست” من الاتحاد الأوروبي، حاولت ألمانيا معالجة مشكلات القارة الأوروبية بالابتعاد عن المواجهة العسكرية. والاتجاه إلى سياسة تقديم المساعدات. لكن في ظل التهديدات الحالية، وتنامي نفوذ الصين وروسيا، وتخلي الإدارة الأمريكية عن التزاماتها تجاه حلفائها. يواجه الأعضاء في الناتو والاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع العديد من التحديات للحفاظ على ما وصلت إليه أوروبا من مستوى أمني واقتصادي لمنع انهيار الركائز السياسية الرئيسية للاتحاد الأوروبي.
خارطة طريق مجموعة السبع
يمكن النظر إلى مخرجات قمة مجموعة السبع على أنها تشكل خارطة طريق للولايات المتحدة وحلفائها، بالنظر إلى المحددات التي برزت على النحو التالي:
1- حملت القمة تهديدًا بالغ الحدة تجاه روسيا، بهدف إجبارها على خفض التصعيد، وإبقاء قنوات الاتصال. والالتزام بالقوانين الدولية فيما يخص معاهدة مينسك، وشفافية الأنشطة العسكرية، وتفعيل استخدام أداة العقوبات المالية والاقتصادية للضغط على موسكو لوقف تقدمها العسكري تجاه أوكرانيا. وتهديد ألماني لتعطيل مشروع نورد ستريم 2.
2- وجّهت القمة إنذارًا جماعيًا إلى مشروعات إيران النووية، وتهديدًا صريحًا بضرورة التوصل إلى اتفاق في جولة فيينا الحالية. وإلا ستواجه إيران عواقب وخيمة.
3- للحد من النفوذ الصيني المتنامي، أكدت مجموعة الدول السبع على أهمية مبادرة “إعادة بناء عالم أفضل”. والتي أطلقتها المجموعة في اجتماعها يونيو الماضي. وتستهدف تقديم تمويل للدول النامية لمشاريع البنية التحتية الكبيرة كبديل للأموال القادمة من الصين. وهي الخطوة التي تهدف إلى تحقيق مبادئ “الوصول إلى الاستثمار، والوصول إلى التجارة الاقتصادية، والدول الديمقراطية”.
4- تعزيز التعاون بين دول المجموعة السبع وأستراليا لتأمين منطقة المحيطين الهندي والهادئ في مواجهة النفوذ الصيني. ونشر مبادرات تمويل البنية التحتية في المنطقة.
5- الالتزام الجماعي بالحفاظ على أمن منطقة غرب البلقان في مواجهة التهديدات الانفصالية. والحفاظ على مبادئ اتفاق 1995 الذي أنهى الحرب الأهلية ووضع قواعد السلام.
ما بعد “قمة ليفربول”
هل تنجح القمة في أن تقضّ مضاجع روسيا والصين؟ أو يمكن اعتبار ما حدث مقدمة لعودة الحرب الباردة، التي انتهت بين الجانبين مطلع تسعينيات القرن الماضي. المقدمات السابقة يمكن أن تثير شكوكا حول مدى فاعلية مخرجات الاجتماع. لكنه يبقى محاولة ثمينة من فاعلين دوليين لإعادة هندسة العلاقات في المنطقة، وهي المحاولة التي لا يتوقع لها أن تذهب أبعد من خطاب التهديد.
يستند ذلك إلى أوروبا تدرك غياب الرغبة الأمريكية في إرهاق مواردها المالية والعسكرية والبشرية في التدخل بأيّ صراعات خارج حدودها. بيد أن اللافت في الاجتماع تطمين ألماني بشأن استمرار المستشار “أولاف شولتز” على خطى المستشارة السابقة. من حيث الحفاظ على ما حققته برلين في سبيل دعم وحدة واستقرار الاتحاد الأوروبي.
يبرز من القمة ومستقبل تفاعل الدول السبع مع الأزمات الدولية، أنها تميل إلى جدوى العقوبات الاقتصادية كأداة ضغط. حيث يمثل الحلفاء معًا 50% من الناتج المحلي الإجمالي للعالم. ويرافق ذلك استخدام المسار الدبلوماسي في حل الأزمات دون اللجوء إلى التصعيد العسكري.