يفضّل الرئيس السيسي استخدام جملة “حقوق الإنسان بمفهومها الشامل” في كل المناسبات. وفي معظم ردوده على وسائل الإعلام العالمية، التي تنتقد أوضاع حقوق الإنسان في مصر. والجملة كما يقصدها السيسي تعني أن حقوق الإنسان في تقديره تتعدى الحقوق السياسية والمدنية، لتصل إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. إلخ.

يبدو معنى كلمة “الشامل” صحيحًا من الناحية النظرية. بل يمكن القول إن ثورة المصريين منذ عشرة أعوام كانت ترفع شعار العدالة الاجتماعية والعيش الكريم، ضمن أهدافها الرئيسية الكبرى. ولكن الواضح أيضًا أن جملة “حقوق الإنسان بمفهومها الشامل” تُستخدم من كل المسؤولين في الدولة، بداية من رئيس الجمهورية وانتهاءً بأصغر موظف، في مواجهة مطالبات الأحزاب والقوى المدنية والمنظمات الدولية، التي تدعو إلى احترام الحقوق السياسية والمدنية، وتضغط من أجل فتح المجال العام، وإطلاق حريات الرأي والتعبير والاعتقاد والصحافة والإعلام، كما ينص عليها الدستور..

فالجملة على صحتها تبدو كما لو كانت تهربًا من أية التزامات في سياق التغيير السياسي المطلوب في هذه اللحظة، أو رفضًا للسير في  طريق المستقبل السياسي الذي تستحقه مصر..

يبدو أن هناك اعتقاد قاطع لدى السلطة الحالية بأن العقد الاجتماعي المبرم بينها وبين المواطن لا يتجاوز “الأكل والشرب والسكن والتعليم والنقل.. إلخ”. أما كل ما يتعلق بالحق في الحرية والتفكير والإبداع والكتابة والنشر والانتخاب والاختيار الحر، فلا تلتفت إليه. بل وتعتبره خارج العقد الاجتماعي بينها وبين والمواطن. وهو تفكير عفا عليه الزمن، ومع التقدم التكنولوچي بات حصار الرأي والفكر أقرب إلى المستحيل. كما بات الاعتقاد بإمكانية استمرار قاعدة “كل واسكت” وهمًا لا يصمد أمام عالم جديد تشكلت معالمه بعد ثورة الاتصالات والإنترنت، وبعد أن تحوّل العالم كله إلى قرية صغيرة..

المؤكد أن العقد الاجتماعي الذي يحكم علاقة المواطن بالسلطة في مصر منذ عام 1952 كان يقوم على مفهوم واحد، هو المعنى الذي تحمله جملة “حقوق الإنسان بالمفهوم الشامل”، أي منح المواطن حقوقه الاقتصادية والاجتماعية، في مقابل تقييد الحريات المدنية واحتكار السلطة والسيطرة على الإعلام وحصار الحياة السياسية. وهو عقد اجتماعي انتهت صلاحيته منذ زمن، فاحترام حقوق الإنسان وحرية الصحافة واستقلال القضاء وسيادة القانون وغيرها من المفاهيم أضحت جزءًا لا يتجزأ من المعايير التي يُقاس بها تقدم الدول..

في 2011 خرج الملايين من المصريين في ثورة عظيمة يطالبون “بالعيش والعدالة والحرية والكرامة”، أهدافًا كبرى ربطت بين الاجتماعي والاقتصادي وبين السياسي والثقافي. شعارات لم تنتج من فراغ، بل استدعت كل ما وصلت إليه الحضارة الإنسانية من تقدم. فلم تكتف مظاهرات المصريين بالمطالبة بلقمة العيش الكريمة، ولا هي توقفت عند المطالبة بالحريات العامة والكرامة الإنسانية. بل ربطت بشكل عبقري ومبدع بين الاقتصادي والسياسي، بين لقمة العيش والكرامة، وبين العدل والحرية.

وقد كانت هذه اللحظة التاريخية الفارقة تحمل لنا بشائر “عقد اجتماعي” جديد، يتجاوز كل ما سبقه من أفكار، ويسير في طريق جديد قائم على المفهوم “الشامل”، كما طرحه المصريين بأنفسهم، لا كما يطرحه اليوم من يظنون أنفسهم أوصياء على الشعب يعرفون ما لا يعرف ويفهمون ما لا يفهم!

المؤكد أنه في عالم اليوم، وبأي مفهوم سياسي، لا يمكن حدوث تقدم على مستوى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية دون حدوث نقلة كبيرة ومهمة في الحقوق السياسية والمدنية. بل أنه حتى التنمية والتقدم الاقتصادي واجتذاب الاستثمارات الخارجية بات يرتبط في الأصل بمفاهيم سياسية ومدنية، مثل استقلال القضاء ووجود برلمان حر وحرية الإعلام والشفافية وغيرها من المفاهيم المعاصرة..

مصر بالتأكيد تنتظر انتصار حقوق الإنسان “بمفهومه الشامل”، ولكن هذا “الشمول” كما أفهمه يبدأ بالحقوق المدنية والسياسية، فهي القاطرة التي ستقود أي تقدم في الدولة. وقد جربنا على مدار سنوات طويلة “بنود العقد الاجتماعي” التي تقدّم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على ما عداها من حقوق ولم يصل بنا هذا الطريق إلى ما ينشده المصريون من دولة مدنية ديمقراطية حديثة.

في تقديري قد حان الوقت لعقد اجتماعي جديد، لا يُبنى على قاعدة “كل وانصرف”، ولا يعتبر أن كل ما ينتظره المواطن المصري هو “الأكل والشرب” في مقابل حصار أفكاره وحريته وحقه في التفكير والكتابة والإبداع والانتخاب وتداول السلطة.. بل يوازي ويوازن بين الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، في دولة جديدة يستحقها المصريون بكل تأكيد..