إذا عدنا بالذاكرة إلى عام أو اثنين أو خمسة، فسنجد تصاعدًا في القضايا “الفاضية” التي يناقشها الناس بحماس و”حمقة”، ولا تحمل أي هم عام أو خاص أو فكرة جديرة بالنقاش.
صحيح هناك دائمًا قضايا عميقة ومتخصصة وأخرى بسيطة وعامة. الأولى يناقشها العلماء والباحثون في الجامعات ومراكز الأبحاث مع قطاع ليس بواسع من الرأي العام مع المثقفين، والثانية تتعلق بهموم الناس اليومية في الصحة والتعليم والخدمات وإدارة الأحياء ومشاكل عملهم، حتى تصل في البلاد الديمقراطية إلى مناقشة سياسات حكامهم والأدوات السياسية المشروعة لتغيرهم.
والمتوقع أن بلد مثل مصر يمكن أن يشهد خناقات ومعارك حول ما يتعلق بمشاكل الناس اليومية ويؤثر السلامة في مناقشة السياسات الكبرى ونظام الحكم ودولة القانون والديمقراطية. ولكننا فوجئنا بأن الجدل العام و”تقطيع الهدوم” انتقل إلى قضايا لا يمكن لبلد في الدنيا أن تعتبرها قضايا الجدل العام التي تستحق النقاش الشعبي أو النخبوي.
وإذا اخترنا عينة عشوائية لبعض القضايا التي شغلت الناس أو مثلت “اشتغالة” لهم، فسنشير على سبيل المثال لا الحصر:
1. قضية سيدة المطار التي أهانت أحد رجال الشرطة، وسيدة القطار التي تحولت لبطلة قومية، لأنها دفعت تذكرة لجندي مجند. مفهوم أن كلاهما يمكن أن يصبح مركز حادثة عابرة، لكن لا يمكن أن يكون قضية نقاش تشغل الرأي العام لأشهر.
2. سؤال العام الذي أشعل مواقع التواصل الاجتماعي وبدا وكأنه أخطر من أسئلة الثانوية العامة، والذي سيتوقف على إجابته مصير مصر والبشرية: هل سيدخل العالم الكبير الدكتور مجدي يعقوب الجنة أم النار؟
3. وصف عقائد غير المسلمين بالعقائد الفاسدة. وهو أمر متكرر للإثارة والجدل دون محاسبة من يرددون هذه المقولات.
4. موقعة “الجونة الكبرى” التي تكلم فيها الناس في كل شيء إلا في السينما. ولولا أن فيلم “ريش” فجر معركة حقيقية حول قيمته الفنية وقضية الإساءة لمصر، لكنا بقينا في “لبس الممثلات”، وكيف أن السجادة الحمراء في بلاد أوربية متحررة أكثر احتشامًا من فنانات الجونة.
5. الاشتغالات الدائمة لرئيس نادي الزمالك. وهي إما عبارة عن فواصل من الشتائم والردح لا يحاسب عليها، أو سلسلة من الاتهامات الكاذبة، التي توضع عليها كل البهارات اللازمة لتشغل الناس وتثير فضولهم. وهو الرجل الذي نفذ له حكم القضاء الإداري، ولم ينفذ حكم محكمة النقض لغيره.
6. هناك القضايا الشكلية والهامشية التي فجأة نجدها تحولت إلى حديث المدينة، وآخرها مهاجمة بعض النواب جنبًا إلى جنب مع مواقع الإخوان لفنانة شهيرة، قالت إنها ستمثل القصة المترجمة للفيلسوف الفرنسي الشهير جان بول سارتر “المومس الفاضلة” في عمل مسرحي. وهي التي سبق ونشرت في مصر في ستينيات القرن الماضي كعمل أدبي رفيع يتحدث عن العنصرية. كما شهدنا أيضًا كيف تحول تصريح اللاعب المصري الدولي محمد صلاح، بأنه لا يحب الخمر أو لم يأت على باله شربها، إلى نقاش قومي عارم، رغم هامشية الموضوع، وإن موقفه شأن شخصي لن يؤثر في مصير الشعب المصري.
أما بالنسبة للتصريحات المستفزة والصادمة، فيمكن أن تكتب فيها آلاف الصفحات، فهناك تصريحات تأتي ممن يفترض أنهم فنانون أو رجال دين أو نواب. وهنا نشير على سبيل المثال إلى تصريحات واحد يُصنف نفسه أنه داعية أو رجل دين، وهو المفتول العضلات الذي يطلق بشكل دائم تصريحات مستفزة، إما بحق المرأة أو بحق المسيحيين أو بحق مجتمعات أخرى. وهي تصريحات ليست فقط خارج العقل، إنما كثير منها خارج الفطرة السليمة، وهدفها أن يصفق لها بعض المهوسين، ويهاجمها بعض العقلاء، حتى تشتعل مدرجات مواقع التواصل الاجتماعي بالشتامين من كل اتجاه. ولا يمكن تجاهل “الشريط الأثري” للقس المتطرف، الذي عمره سنوات طويلة، وفجأة ظهر على مواقع التواصل الاجتماعي، وحاولت جماعات التحريض والعنف توظيفه والحمد لله لم تنجح.
علينا ألا ننسي تصريحات بعض الممثلات اللاتي فتح الله عليهن بزواجة ثرية، كيف “تبروزها” الصحف والمواقع، ورغم أنها تحمل درجة نادرة من الجهل والاستفزاز، فتثير غضب الناس ويشتبكوا معها، ويحولوها إلى نقاش عام مزيف.
هناك أيضًا تصريحات طابور المطلقين والمطلقات عن شريك حياتهم السابق، فيرد البعض “بمصمصة الشفايف”، ويلعن صنف “الرجالة”، أو تصريح الفنان الوسيم شقيق الفنان الوسيم الآخر، حين قال ردًا على طليقته” تزوجتها وهي معها شنطة ملابس واحدة وترغب في تحقيق ثروة على حسابي”. وهو التصريح الذي اهتمت به عشرات الصحف والمواقع الإلكترونية وكأنه اكتشاف علمي نادر.
يقينا هذا الركام من القضايا الهامشية الزائفة موجود في كثير من المجتمعات، ولكن إلى جوارها هناك ألف قضية جادة وحقيقية تخص مشاكل الناس اليومية تناقش وتثير الجدل.
نعم رأينا بعضًا من هذه القضايا في “نميمة” مجلة الشبكة والكواكب وبعض المجلات الفنية والرياضية. ولكن معها كانت دائمًا هناك قضايا أخري جادة تخص هموم الناس تناقش.
مفهوم أن البعض حاصرته هذه القضايا، فيضطر أن يشارك طواحين الهواء ويشتبك معها، والمطلوب عدم التورط في هذا النقاش الزائف، والبناء على القضايا الحقيقية التي ناقشها البعض وتتعلق بمشاكل الناس اليومية وظروفهم المعيشية ومستقبلهم. وهي قضايا كثير منها متاح للنقاش، فلا يجب الذهاب للمزيف والفاضي إنما للحقيقي والمستقبلي.