الجزء التالي من رواية “إفلات الأصابع” هو الأطول (12 صفحة)، فعبر الأجزاء الخمسة السابقة (أوامره، المارة لم يهتموا بنا، كنت فين يا على، مشينا على الماء وقابلنا غريبا، طبيبه) كانت الشخصيات والأحداث غير مترابطة، ولا محددة، منفتحة على تأويلات وراوبط متنوعة ومتناقضة. في الجزء الأول تعرفنا على ثلاثي (كلاسيكي: أب وأم وابن) شديد التوتر، وفي الجزءين الثاني والثالث تابعنا رحلة “غامضة” يترافق فيها سيف (هو الراوي يقينا في هذين الجزءين، وهو الراوي، احتمالا، في الباقي) وبحر، وتعرفنا على (علي) التائه، وأخيرًا مستشفى العلايلي. وقد خرجنا منه إلى “بقرة بيضاء في حجم الكف”، وبحر يعلن لسيف اندهاشه من “الأطباء المؤمنين”، ويقول له: “الطب ملحد بطبعه..الطبيب يمنح القداسة لنفسه..يعطي عمره منهمكا في إصلاح هذه الصناعة الرديئة”. نتذكر الفراهيدي، بلا شك.

مأخوذ بحر بما شاهده، وعرفه، في “غربته” في (بلاد البرد): “قمامتهم يا سيف أفضل من أكل نصف مطاعمنا”، هناك رأيت “أربابا وآلهة”، هكذا يطلق على نماذج من شخصيات صادفها في سنواته الأولى: طبيبة شابة “تلك الإلهة الصغيرة عالجتني من موت وأطعمتنى من جوع وآمنتني من خوف، ولم تطلب مني أن أشكرها ولو طلبت أن أعبدها لجثوت راكعًا”، وإله عجوز وزوجته “كنت متجمدا هناك ومنحاني كوبا من الشاي وقدما لي فراشًا أرضيًا في حجرة صغيرة دافئة”. ثم يخبر سيف بلغز مضاف: “دخلت جنتهم وارتكبت جريمتي فيها وهربت”.

لوحة معرض الجليد على نهر التايمز (1683) للفنان توماس ويك
لوحة معرض الجليد على نهر التايمز (1683) للفنان توماس ويك

وكعادته، التي بتنا نعرفها جيدًا، وفي اللحظة التي يصل فيها “التشويق” ذروته، ينقلنا الراوي (سيف) إلى حدث آخر، بكثافة و”توتر” ينفتح على تأويلات وروابط إضافية: “وجدنا أنفسنا أمام الحائط الذي سعينا إليه، لم يكن سوى جدار معبد قديم، امّحت الرسومات الملكية لكن بقايا ظلالها ما زالت تشي بطبيعة المكان”.

وبذلك يظهر، للمرة الأولى، وإن كحدس، ترابط بين كل ما سبق، وبالأخص “مستشفى العلايلي”، و”آلهة وأرباب بلاد البرد”، و”الحائط/ جدار معبد قديم”. ويصف، سيف: “رأيت حشدًا جالسًا معظمه نسوة وأطفال.. ثم اندلع الغناء فجاة. انطلق المديح النبوي والتواشيح والأذكار، ترددت بلا صدى وبدت غريبة في الجو الفرعوني، وسرعان ما صمت حشد النسوة والأطفال وبقيت الأهازيج تتردد، والتعاويذ تتابع مرتجفة، وحدق الجميع في الجدار.. وحدقت مثلهم”.

ما هذا الجدار/ الحائط، وماذا يفعل هؤلاء عنده؟

يجب الراوي (سيف): هنا علاج المحرومين من الرؤي والفاشلين في الاستخارة، الجدار المخفي سر هذه البلدات المتلاصقة لا تبوح به لأحد.

وها أنا استعير “أسلوب” السرد في الرواية، واقطع السياق، وأعود إلى هشام شرابي، وكتابه “النظام الأبوي واشكالية تخلف المجتمع العربي”، ففيه يبحث في جدار يسميه “جدار التمويه”، ويشرح “مفهوم التمويه” الذي يستدعيه من علم النفس، ويعني “حجب حقيقة شيء ما، أو واقع ما، بمختلف الطرق والوسائل. وتبدأ عملية التمويه في البيت حيث تغرس وتستمر في المدرسة، ثم يمارسها المجتمع في مؤسساته وعلاقاته كافة. وبواسطة التمويه تتمكن الثقافة الاجتماعية المهيمنة في المجتمع من أن تفرض على أعضائه نظرتها وقيمها وأهدافها. فالفرد، والحال هذه، لا يستطيع الاعتماد على رأيه، أو النظر إلى الأمور باستقلال فكري بعيدًا عن آراء الآخرين. إنه سجين الأفكار والآراء التي تأتيه من خارج، وهو لا يثق برأيه أو بنظره بل يتقبل رأي غيره، خصوصا رأي من يعتبرهم أعلى منه منزلة أو معرفة أو نفوذًا. بذلك يبتعد الفرد عن حقيقتها، ويصبح مسيرًا للقوى والمصالح المهيمنة في المجتمع حوله. والتمويه هو الذي يصنع الوعي الخاطيء الذي يجعلنا نرى العالم من خلال نظارات تصنعها ثقافتنا الاجتماعية والواقع المسيطر فيها، فندعم القوى التي تسيطر علينا وتستغلنا ونرفض بملء إرادتنا سبيل التحرير والإنعتاق”.

ومع كلمات “حشدًا معظمه نسوة وأطفال”، تبدو كلمات شرابي أكثر سطوعًا: “إن التمويه الذي يرجع إلى السنوات الأولى من حياتنا يكون حاجزًا من الصعب تجاوزه. وذلك لأن الضرر الذهني والعاطفي الذي تسببه طريقة تربيتنا ومعاملتنا في الفترة الأولى من حياتنا يصعب تشخيصه وإبراز معالمه في وعينا المباشر، وبالتالي إصلاحه وتجاوزه. لذلك نبقى سجناء (شخصيتنا) فلا نتغير مهما طال العمر وتراكمت الخبرات”.

نعود من شرابي إلى سيف، وهو يواصل وصف الجدار وحال من يحدقون فيه: “لا يبدو للأغراب إلا جدارًا مجرفًا منهوبًا محطمًا، أما لأهل هذه القرى، وفي دقائق بعينها بي الفجر والضحى، في صباحات مبروكة يعلن عنها القمر، تستطيع إن كنت مؤمنًا وكنت صادقًا وكنت محبًا من أن ترى ما تريد”.

لا بأس من تصور أن أوصاف الجدار كما تبدو للأغراب، استعارة ممكنة للكلمتين الأخيرتين من عنوان كتاب شرابي.

لوحة للفنان السوري ثائر معروف
لوحة للفنان السوري ثائر معروف

***********

وحدق سيف ورأى “كلبًا أسود يتحرك في الظلام، تبعه كلب آخر، ثم ثالث حتى صاروا خمسة كلاب”، ثم تذكر: “رأيت وتذكرت، كنت نائمًا في الصالة، وأيقظني صوت النداء، ورأيت أبي في جسمه الأسمر يخرج من غرفة النوم بفانلة داخلية بيضاء، يتحرك نحو الباب، ينظر من العين السحرية، يتراجع رأسه مبسملاً ومحولقًا، يلتقط نفسًا عميقًا، ثم يفتح الباب بقوة.. ووقفت أمامه الكلاب الخمسة وقد صمتت. نبح قائدها نباحًا أخيرًا صامتًا، كأنه يبلغ رسالة، ثم استدار ونزل السلم وتبعه الآخرون في صمت كأنما انتهت مهمتهم. ولم نفهم الرسالة إلا بعد أسبوع، حين ماتت أمي”.

ممن بحث شرابي إشكالية تخلفهم سيعجز عن تفسير ما رأه سيف وما تذكره؟

وبخطوط سريعة للغاية، يعيد الراوي (سيف) ترتيب بعض ما سبق من الرواية، ويوضح تفاصيل هامة، فيصف خطة بحر بـ “الحذرة”: “تكشّف لي جنونها مع الأيام.. وقد داخلي ذعر مفاجئ أمام حقيقة أنني مع شخص غريب عنّي تماما في أماكن معزولة غالبا ولا تقل عنه غرابة”، ويكشف أنه تفاجأ حين وجد “بحر كامل” قصير ونحيف (ثالث ظهور لخاطر البط). ونعرف أنه “سيف” صحفي أصبحت زياراته نادرة للمجلة التي يعمل بها، وفي إحدى هذه الزيارات، أهدته ليلى “بقرة بيضاء خزفية صغيرة في حجم الكف” ونطقت بكلمتها ذات المعنيين: سيف، استيقظ. ثم كانت المرحلة الأولى من “خطة بحر” في “وسط القاهرة” دخلا بناية عتيقة.. أعلاها فتحات صغيرة تشبه الموجودة في القلاع المملوكية..أخذ بحر بعض اللقطات، ودوّن تسجيل جهاز صغير في مفكرته..إننا في شهر يوليه.

كما يكشف أن ليلى أخبرته أن المجلة كلفته بمصاحبته (بحر) في رحلته، فسألها، فأشارت بسبابتها وهي تجيب: إلى..هنا في الوطن أقصد.. وعرف سيف أن “بحر”، مصري عاد من الغربة بعد سنوات، وأنه- هكذا قال (بحر)- يكتب تقريرًا صحافيًا، وأنه هو من اختار سيف.

يمكننا، قبل أن نعود إلى ليلى، أن نضع مرحلة القاهرة (المملوكية) في المقدمة، أما الإسكندرية (الترامان المتوازيان المتعاكسان، ونقطة النجاة)، والمشي على الماء ومقابلة الغريب (قرب القرية)، وجدار الرؤية (التمويه)، فلم يحسم ترتيبهم بعد، أربع مناطق، في ما أشارت إليه ليلي بسبابتها.

مجموعة السلطان المنصور قلاوون في شارع المعز لدين الله الفاطمي، القاهرة
مجموعة السلطان المنصور قلاوون في شارع المعز لدين الله الفاطمي، القاهرة

المعلومات التي يقدمها الراوي (سيف) عن ليلى مكتنزة بالمعني، موحية بأنه هناك الكثير وراء ظاهرها. فبعدما أشار سيف للغربة التي تكتنف بحر وخطته، يذكر أنه قال لنفسه “إنني لا أقل غرابة عن الشخص الذي كنته إلى ما قبل أيام، حين أوقفتني ليلى.. ومنعتني من الكلام..(و) أهدتنى بقرة (…) في الظهور التالي لليلى يخبرنا، سيف، أنها تغيرت، وأنه حلم بها قبل ليلة، أو قبل ليال “كنا نجلس في مكان كأنه بيتنا، و..”، لكنه لا يتذكر كيف انتهى الحلم، ثم أنها أعادته إلى الواقع بحديثها عن مهمته مع بحر، وعندها تتالت المعلومات: إن تذكر علاقته السابقة بليلى مؤلم، وهي تشفق عليه وتساعده منذ زمن، وأنه لم يعد يندهش من انقلاب الأحوال ومن قدرتها على إنقاذه وقد أتى بها إلى المجلة وإلى الصحافة برمتها.

تلوح، هنا، علاقة فاشلة أخرى، صحيح أننا لا نعرف بعد طبيعة ما كان يربط بين سيف وليلى، لكن المرارة والألم أقوى من أن يتم تجاهلهما، وهي علاقة تضاف إلى فشل (أحمد) حتى في التوصل لخطيبة مرشحة، وكارثية نهاية زفاف على.

منطقيًا أن يسأل القارئ: وماذا عن علياء، ما جرى لها، وما جرى بينها وبين سيف؟ سنرى.

بحماس ضئيل يأمل سيف -الذي لم يتحرك كثيرا ولم يهتم بشيء منذ سنوات- في أن تفتح له “المهمة” طريقًا إلى ما وراء البحار، أو دربا يعيده إلى ليلى أو يعيدها إليه.

ولكن (سيف) يقوم على الفور ببتر كل الآمال والتوقعات: “وبالطبع، كان ذلك- ككل شيء آخر في الحياة- محض كذبة”.

ويقول بحر لسيف: خطوطتنا القادمة قرية الراحلين.

قرية آخرى، أم هي ذاتها العزبة القريبة من المركز؟.

*********

التالي ليس القرية، التالي “مطربها”، سلاّم. لا نعرف سلاّمًا آخر، إنه “النحيل” الذي كان يتبع ابنة “العلايلي”. المدخل القصير للغاية إلى سلاّم عبارة عن سؤال يفترض عودة رجل إلى بداية الزمان ليقارن بين ما فعلته الصدفة وما قرره القصد، وفضل كل منهما في إنشاء الحضارة أو تعاسة البشرية؟، سؤال متيتافيزيقي بامتياز، سؤال أزلي بالضرورة، انشغلت بمحاولة حسم الإجابة عليه الأساطير والميثولوجيات والأديان  جميعًا والفلاسفة والعلماء، دون نجاح بلا شك.

ولد سلاّم عاديًا لكنه نشأ متلعثمًا.. فقط حين يحدث ذاته بلا صوت ينطلق.. جرؤ مرة ووقف أمام المرآة يغني.. وذهل.. يغني فيرتفع الصوت ساحرًا.. يعود للكلام فتعود اللعثمة.. تشجع أمام زملاء المكتب.. عادت اللعثمة.. وعرف طريق السهر والسكر.. ودندن مرة وحيدًا.. سمع صوتًا ساحرًا أنثويًا، يقول: صوتك جميل.

أتكون هي إبنة العلايلي؟

********

نعبر “مطربها” إلى “لم ينظروا وراءهم”، إلى قرية “وهدة”، أهي ثالثة، غير “الراحلين” والعزبة القريبة من المركز، أم أن المسميات الثلاثة تطلق على قرية واحدة، أم أنها جميعًا تشير إلى الأرياف، أو ما في معناها، أو أبعد وأشمل من كل هذا؟

ولكن فلنفكر أولاً في كلمة “وهدة”، سنفتح قوسا، ونحاول أن نملأه بما يمكن أن يفيدنا به باقي النص.

كان يجري في القرية شيء سري؛ لم يلاحظ جيرانها في البلدات القريبة أن جميع سكانها يبيعون كل شيء، حرفيًا. كان سالم ابن الحاج أشرف (أحد أبناء القرية) قد أوقد فيها أشواقًا هائجة للخروج من الفقر الأبدي، حين عاد من سفرته الطويلة إلى إيطاليا، وبعد مداولات ومحاولات قدم اقتراحه العجيب ووافق الجميع: “سنرحل جميعًا، القرية كلها”.

دخل بحر وسيف القرية بعد أن تمت “الخطة”. ظهرت المركب في الضباب. تحركوا بين العشش الصفيحية في سواحل بلطيم.. وصعدت القرية واكتمل العدد وانفك الحبل وارتفعت المرساة ودارت الدفة، وانسابوا في الأفق المعتم ولم يفكر أحدهم مرة أخرى في “وهدة”.

هنا وفرة من التاؤيلات والروابط. لنبدأ بسؤال بديهي: أيكره الناس عيشهم إلى حد أنهم “لم ينظروا وراءهم” وهم يتركون قريتهم، هل الفقر سبب كافي كي لا يفكر أحدهم مرة أخرى في “وهدة”، أم حدث لهم شيء أقوى بصورة هائلة كي يُميت أي حنين؟

لوحة الفنان بانكسي "منظر على البحر المتوسط 2017"، والتي تظهر منظراً لبحر تطفو فيه سترات وعوامات نجاة في إشارة للاجئين الذين لقوا حتفهم محاولين الهجرة إلى أوروبا في السنوات الماضية، وقد بيعت في مزاد علني بمدينة لندن بمبلغ قيمته 2،4 مليون يورو تبرع به الفنان بالكامل لمستشفى في مدينة بيت لحم الفلسطينية
لوحة الفنان بانكسي “منظر على البحر المتوسط 2017″، والتي تظهر منظراً لبحر تطفو فيه سترات وعوامات نجاة في إشارة للاجئين الذين لقوا حتفهم محاولين الهجرة إلى أوروبا في السنوات الماضية، وقد بيعت في مزاد علني بمدينة لندن بمبلغ قيمته 2،4 مليون يورو تبرع به الفنان بالكامل لمستشفى في مدينة بيت لحم الفلسطينية

قد يكون هناك تفسير لقيام المغادر الأخير باسقاط اللافتة، التي تحمل اسم القرية، على الأرض، ثم يغطيها بالتراب “كأنما يدفن سيرة القرية نفسها ويمحو ذكرها تمامًا”، فمن ضمن الاجراءات “المعتادة” في طلبات اللجوء والهجرة غير القانونية أن يقوم الشخص بتمزيق جواز السفر أو إلقاءه في البحر أو أية وسيلة إتلاف له، والادلاء ببيانات غير صحيحة حتى يعيق أية إجراءات لإعادته لموطنه، وذلك الفعل الإجرائي يقارب قول المغادر الأخير “وداعا يا قرية الفقر والجوع واللاذكرى”. ويبرز سؤال متصل بالسياق: هل تلك اللافتة هي نفسها التي صادفها علي أم لافتة قرية آخرى، وإن كانت غيرها فما دلالة ذلك؟

غلاف رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ
غلاف رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ

وهدة في حاجة إلى مزيد بحث، فقد يخبرنا القادم من وقائع النص عنها شيئا يعيد بناء وترتيب كل هذا.

لكن يلوح خيط ضعيف، فاللافتة الصغيرة كتبها الخطاط “عرفة” قبل وفاته بشهرين، ما يستدعي خاطر متصل بالعلايلي، عرفة أحد أبناء الجبلاوي! وقد يتذكر قارئ هذه العناوين الصحفية: “قبل أن يوافق على تحويلها إلى مسلسل إذاعي: نجيب محفوظ يطلب إحالة رواية “أولاد حارتنا” إلى الأزهر!”، “مسلسل “الساحر” مأخوذ عن قصة “عرفة” في رواية أولاد حارتنا”. إن أصداء ما حدث لرواية أولاد حارتنا لا تزال تؤثر على مخيال الأدباء والقراء معًا، وهنا في “إفلات الأصابع” بعضًا منها، كما يخيل لي.

اقرأ أيضًا:

إفلات الأصابع: البط في المنام

طوطم البط والنظام البطريركي العربي

و«هم» نقطة النجاة