هل قضيت وقتًا من عمرك داخل أحد الأقاليم البعيدة عن المدينة؟. حسنًا -إذا فعلت ذلك ولو لوقتٍ محدود يمكنك الدخول بقدمك اليمنى. أمّا إذا لم يسمح لك القدر أو داهمتك مشكلات السن واللياقة فلم تعد تقوى على التجربة. تطمح هذه الكلمات في نقلها لك وهذا أضعف الإيمان.

وجب الإشارة إلى أن قصتنا التي نحكي في سياقها عن الريف وشخوصه لا تخص سوى قرية “إنفيولاتا”. أي (البِكر أو الجديدة باللغة الإيطالية) دون غيرها. والتي تملكها سيدة رأسمالية يساعدها رجل لاستغلال مجموعة عمّال من الرجال والنساء والأطفال على العمل دون مقابل عادل. أو دون مقابل تمامًا للدقة. وأي تشابه مع الواقع في أي منطقة أخرى غير مقصود.

“سعيد مثل لازارو”.. والملصق المرسوم

اعتادت الكاتبة والمخرجة إليس روهرواشر العمل على رسم يدوي لكل ملصق دعائي “بوستر” خاص لأفلامها الثلاثة الروائية الطويلة. وليس مجرد تصميم إلكتروني معتاد. وهذا ربما توثيقًا لعملها باعتباره لوحة فنية تُعلن تفرّده وشخصية صانعه. وذلك في إطار فكرتها التي تدور حولها في كل مرة: تأثير المجتمع على الأفراد وصراعاتهم غير الشعورية المستمرة. فهي ترسم خلال ذلك خيالاتها وهواجسها عن طريق ريف تم عزله نسبيًا وامتداداته التي لا تعيق البصر والبصيرة. إذ يمكنك كمشاهد وقتها أن تكون أكثر قربًا من الطبيعة ولا يفصلك عنها شيء.

في فيلمها The wonders تحكي عن عائلة من النحّالين الذين يعيشون في ريف توسكان الإيطالي. بنت تبلغ أحد عشر عامًا. إلّا أنها تدير العائلة التي تنصاع لذلك وتقوم بعزلهم عن العالم.

وفي فيلم corpo celest تحكي عن بلدة ساحلية بعيدة حول أم وابنتيها -روزا 18 عاما ومارتا 13 عامًا. والتي تبحث مع والدتها وأختها الكبرى للعثور على مكانها وتختبر حدود مدينتها غير المألوفة وجسدها الذي ينضج للتو. حتى تنتهي في ثالث أفلامها التي كتبت سيناريوهاتها جميعًا برواية الصداقة التي تنشأ بين “لازارو” الذي يقدّمه أدريانو تارديولو ذو العشرين عامًا دور عمره خلاله: المزارع الطيّب إلى درجة تجعل قريته تعتبره ساذجا ومقابلته بالشاب “تانكريدي” الأرستقراطي داخل القرية. تلك التي تبدو كأنها مقطوعة عن العالم بجسرها المنهار والوهمي.

يمكن اعتبار هذا الفيلم الذي نسهب في الحديث عنه أكثر أفلامها نضوجًا وتعبيرًا عن فكرتها الأثيرة.

لماذا هو فيلم جيّد للحديث عن الإنسان؟

لازارو يصوّر العالم يدور حوله بينما هو غير مكترث بذلك. إذ تراه الأكثر حضورًا حتى في المشاهد التي لم يظهر خلالها. فيما تستبعده المخرجة في أثناء صراع مندوب الماركيزة الرأسمالية ألفونسيتا دي لونا. وهي ملكة صناعة السجائر التي تستعبد لازارو اللقيط وأهل قريته وتجبرهم جميعًا -54 عاملا- على العمل دون أجر داخل جزيرة أغرقها الفيضان في 1977. كما تسخّرهم لصناعة التبغ وتتهمهم بديون يجب العمل أكثر لتسديدها. تعتبرهم “حيوانات” لا أكثر. معزولون في مكان لا يوجد به حتى شبكة موبايل يستخدمها ابنها. ذلك الماركيز الصغير الذي تعتبر لحظة ظهوره ذاتها بملابسه الحديثة مربكة للمشاهد الذي يشعر أنه سافر بالزمن للحظات عن العالم الذي كان يشاهد فيه هؤلاء الهائمين في جزيرة بعيدة عن البشر. جزيرة يفصلها جسر صغير أوهمتهم الملكة بأن من يعبره سيغرق.

يعيشون من أجل لقيمات طعام يرفضها كلب الماكيز الصغير عندما يتم تقديمها له. هذا الاستبعاد الذي تختاره المخرجة لبطلها غير المكثرث بمشكلات العالم يضعه كبطل غائب تُحكى القصة الأساسية التي تريدها المخرجة بعيدًا عن أذنه وصورته البريئة.

إعلان تشويقي لفيلم “سعيد مثل لازارو”

 

https://www.youtube.com/watch?v=8NQUOYO1tow

الماركيزة تستّغل الفلاحون. وهمّ بدورهم يستغلّون لازارو. بينما يظل هو وحده غير المستغِل لأحد داخل الدائرة. بل والأكثر نشاطًا وتحمّلا. ينتشي مع كل إجابة تحمل لسانه على نطق كلمة “تشارطو” أي “بالطبع” على ما يُطلب منه.

شاب ريفي ذو ملامح طفولية لا يرفض لأحد طلب أيًا كانت صعوبته. كما أنه لا يُكذّب ما يُقال مهما حمل الأمر من سذاجة. صفاته الملائكية تلك والتي يحاول الفيلم رسمها لا تبعُد كثيرًا على من عاش في منطقة مشابهة بعيدًا عن خشونة طبع أبناء المدينة المكتسب دون إرادة منهم في أغلب الوقت. حتمًا ستجد هناك في الريف العديد من الـ”لازارو” الذي لا يفهم السخرية ولا يعكّر وجهه بهموم البشر التي تعايرهم بها المدينة كل وقت. والتي لا يعرف عنها الكثير أساسًا، وربما يسيرون -مثل لازارو- أيضًا مرتدين فانلة بيضاء تؤكد سلميتهم في مواجهة العالم إذا لم يكن ذلك التفسير مجرد لي ذراع للمعنى وتأويل فارغ.

في أحد المشاهد نجد ثمة هدية تالفة وسلاح خشبي مُهترئ يحاول الماركيز الصغير بعد فشله في التخلّص منه. يرميه على الأرض بجانب قدم الفتى الطيب. فيما يفهم لازارو الساذج أنه يعطيها إياه هدية. بل إنه لم يُصدق أن بإمكانه امتلاك شيء لمسته يدا الشاب الوسيم. فيصبح الوعد الساخر الذي يقوله له بعد إدراك سذاجته: لا تضيعه أبدًا.

حِمل صادق من لازارو الذي يظل محتفظًا به طوال رحلته رغم عدم جدواه في أي شيء.

لازارو يصلح كصديق وهو بالضرورة ما يؤهله لخوض أي شيء آخر فيجعل كل ما قبل هذا المشهد أو بعده قابلًا للتصديق في سياق خروجه من الصديق الطيب.

“سعيد مثل لازارو” وانتصارات “روسو”

أبناء القرية في الغالب تملؤهم عاطفة تزيد على المتوقع. شخصياتهم ذاتها يمكن وضعها في مقابل ابن المدينة. وإذا كانت تلك التفسيرات مبتسرة نوعًا ما للبعض. أو حتى تشبه تلك التي تَحَاكى بها قديمًا جان جاك روسو في مديحه للقرية على حساب المدينة في “اعترافاته“. لكنها بالتأكيد لا تفترض تقسيم الأفراد بجذرية تضع كل معسكر على نقيض الآخر. بقدر محاولة توضيح السمة الغالبة التي يمكن للفرد اكتسابها دون وعيه لكن بتأثيرات محيطه الخارجة عن إرادة كلٍ منهم.

“على المرء أن يتجاوز التعطش للمعرفة. فذلك أساس الإلهاء وخيبة الأمل”. هكذا كانت تعلّم الماركيزة صغار القرية. وهكذا يفهم العالم هؤلاء الفلاحين الخائفين دائمًا لأسباب غير مبررة. إنهم ذوو البيوت الضيقة الذين يحجب عنهم الفقر ثم التجهيل كل شيء في مواجهة بقايا الأغنياء. هؤلاء الذين لا يمكنهم التخلص من غطرستهم ولا يهمهم غير شراهة إطعام أنفسهم على حساب الآخرين.

المعادلة المُكررة هذه تُنتج قديسها من داخلها. إذ لا تجد من يواجهها سوى لازارو الذي “يحمل رائحة الرجل الصالح”. فلا يخرج من عباءة إنسانيته بفهلوية أبناء طبقته التي توهمهم دائمًا بالتذاكي المتبادل بينهم. فيما تشعرهم بانتصار مُزيّف وتنسيهم عجزهم الأبدي وعدوهم الحقيقي.

تنحاز للخير على حساب الشر. للعمّال -رغم نبذ بعضهم للآخر- على رؤسائهم. لكرامة الفقراء على حساب سماكة جلود الأغنياء. انحياز ثوري صريح حتى النهاية.

ساعتان من الحق المُكتسب وهميًا يمكنهما إعادة ضخ أكسجين لأسبوع العمل القادم لدى المشاهدين. والذي لن يخلو من انتصار الرأسمالية ومؤيديها سميكي الجلد وعديمي المشاعر على الطبقة العاملة في أرجاء العالم الفسيح لهم والضيق على غيرهم. وذلك في إطار قصة سينمائية لا تحتفي كالعادة بحياة الفقراء التعيسة والتي لا يمكن طرد تعاستها إلّا بالتعامل معها على طريقة لازارو.

صورة وقصة الفيلم يُعيدان معًا خلق كليشيه البساطة والحب غير المشروط. تلك الأشياء التي يتجاهلها ناضج يرى خطر العالم والأشخاص عليه كل لحظة.

في السينما فقط.. لا يزال هناك شخص يحب

وحدها السينما يمكنها التأثير عليك لتصدق أنه لا يزال هناك شخص يحب.

تلك القصة الكلاسيكية تمامًا التي تليق بكليشهات الحديث عن فروق القرية والمدينة يحوّلها سيناريو مُحكم وإخراج شاعري وبصيرة واضحة للتنفيذ جاءت للمؤلفة والمخرجة بناءً على “قصة كانت قرأتها وهي صغيرة ولم تنسها”. يحولها إلى أيقونة سينمائية تحصد جوائز بسهولة خارج إيطاليا وصالة مكتملة العدد في أثناء العرض في القاهرة.

تفسيرات أخرى يمكن وضعها داخل المعادلة لنجاح الفيلم أو أيقونيته تتعلق بشريط الصوت الجيد والموسيقى التصويرية. تلك التي تستخدم مقطوعة موسيقية حالمة لـBach وتُعيد تكرارها على مدار الفيلم. كذلك طاقم العمل الذي لم يتخلله اختيار سيئ  واحد وتقطيعات المونتاج غير الحادة التي تجعل المشاهد يغرق في حُلمه فيضيق به الخط الوهمي بين الواقع والسينما.

يكتفي القادمون من القرية بتصوراهم عن لازارو الذي يعرفونه. بينما يوهم ابن المدينة بتواصل قصير مع شخصية يصعب رؤيتها. وربما لذلك كان منطقيًا أن تموت في النهاية وتموت صفاتها التي لا يمكن تجاوز تصديق تعايشها داخل المدينة التي لا ترحم. وذلك حتى لا يفقد كلاهما عقله.

تصير معادلة اعتبار نجاح الفيلم وامتلاء صالة عرضه، بل طلب إعادة عرضه بعد البانوراما بسيطة. فيلم بمثابة حُلم سعيد قصير كأي حلم يقظة ينتشي المرء بتصوّره ولا يملّه. فلا يمكن حرق أحداثه سواء بالكتابة عنه أو مشاهدته لمرات.