من المعروف أن أحد طرق انتشار الإسلام في أفريقيا تمثلت في التوجه الصوفي المالكي والشافعي مع المحافظة على الهوية الثقافية والحضارية للمجتمعات الأفريقية. وهو ما أبقى على التفاعل بين الرموز الإسلامية والمؤسسات التقليدية في المجتمع الأفريقي.

وربما يكون ذلك أحد الأسباب التي أدت إلى تأخر وصول المد السلفي الأصولي إلى أفريقيا المسلمة. بيد أنه مع زيادة تيارات العولمة والاحتكاك بالعالم الشرق أوسطي في مرحلة ما بعد الطفرة النفطية وجدت تيارات الفكر السلفي طريقا ممهدا لأفريقيا.

في عام 1978 تم إنشاء جماعة إزالة البدعة وإقامة السنة من قبل الشيخ إسماعيل إدريس في نيجيريا. وقد سعت الحركة منذ البداية إلى التصادم مع الطرق الصوفية بسبب تحريمها زيارة قبور أولياء الله الصالحين والتبرك بأضرحتهم. وقد امتد نشاط هذه الجماعة ليصل إلى النيجر وبعض بلدان غرب أفريقيا. وهو الأمر الذي أثار جدلا فكريا ودينيا حادا بسبب موقف الحركة العدائي للصوفية ومشايخها.

وعلى الرغم من انقسام جماعة إزالة البدعة فإنها ظلت على موقفها الثابت الرافض للتصوف والطقوس المرتبطة به. مثل زيارة الأضرحة وحضور الاحتفالات والموالد الدينية. كما أنها قاومت أيضا ما اعتبرته النفوذ الشيعي المتزايد في أفريقيا.

وقد تنامى تأثير هذه الظاهرة السلفية في نيجيريا. خصوصا بعد ظهور جماعة “بوكو حرام” -وهي منظمة جهادية تستخدم العنف المسلح للوصول إلى أهدافها. وتحتضن مالي -وخصوصا في منطقة أزواد الصحراوية- أكثر العناصر السلفية تشددا وميلا للعنف.

رد الفعل الصوفي

لقد نُظر إلى التيار السلفي على أنه بمثابة عدو مشترك للخطاب الصوفي السائد في غرب أفريقيا. فبعد إصدار الشيخ أبوبكر جومي -أحد رواد السلفية في نيجيريا- كتاب “العقيدة الصحيحة”. جاء رد الطريقة التيجانية بواسطة الشيخ محمد ساني كافنجا -الذي ألف كتاباً أسماه “المنة الحميدة في الرد على فاسد العقيدة”.

أما الشيخ ناصيرو كبارا فقد تولى الدفاع عن القادرية من خلال كتابه “النصيحة الصريحة في الرد على العقيدة الصحيحة”. وقد اتبع المؤلفان استراتيجية واحدة في الدفاع عن الطرق الصوفية بشكل عام واعتبار كلام الشيخ أبو بكر جومي من قبيل “الجهل وعدم المعرفة”.

وأياً كان الأمر فإن هذه المؤلفات الثلاثة شكلت جوهر الخطاب الديني في نيجيريا في أثناء سبعينيات القرن الماضي.

ويلاحظ أن كلاً من ساني وكبارا قد لجأ إلى طرح قضايا عامة في الدفاع عن الصوفية وعدم التطرق إلى تفصيلات القضايا التي طرحها الشيخ جومي في نقده للتيجانية والقادرية. كما أنهما استعانا بمقتطفات من القرآن والحديث وأقوال بعض العلماء المعتبرين في الصوفية مثل ابن عربي والشعراني والحافظ المصري وأحمد التيجاني وإبراهيم نياس وغيرهم.

كما حرص كل منهما على وصف الشيخ جومي بأنه “يدافع عن الأيديولوجية السلفية المتزمتة ولا يصلح لأن يكون حكماً عادلاً على أفعال وممارسات الصوفية”.

وإزاء الهجوم المتصاعد على المبادئ والمعتقدات الصوفية الذي أسهمت به جماعة إزالة البدعة وشيوخها في نيجيريا. قام الشيخ إبراهيم صالح بإصدار كتابه: التكفير أخطر بدعة تهدد السلام والوحدة بين المسلمين في نيجيريا. وهو الذي صدر في القاهرة عام 1982. ويعد الشيخ إبراهيم صالح واحداً من أبرز الكتاب المعاصرين في شمال نيجيريا. حيث كتب ما يقرب من المائة كتاب. ولد عام 1939 وهو ينتمي إلى قبائل الشوا العربية. وتمكن من حفظ القرآن ودراسة معظم العلوم الإسلامية على أيدي كبار علماء التيجانية في شمال نيجيريا بالإضافة إلى دراسته في السعودية ومصر.

وقد أطلق على الجدل الدائر بين مشايخ التيجانية في ذلك الوقت اسم جدل التكفير. نظراً لأن علماء جمعية إزالة البدعة اتهموا المتصوفة بالكفر. وعليه فإن كتاب التكفير يمثل خطاباً دفاعيا للصوفية للرد على آراء الشيخ ابو يكر جومي. إذ يسعى الشيخ إبراهيم صالح إلى تفنيد آراء جماعة إزالة البدعة التي تصف الصوفية بالكفر. ومع ذلك فإن تفنيد تلك المزاعم لا يستغرق وقتاً طويلاً من المؤلف الذي يخصص معظم صفحات الكتاب لشرح مبادئ الصوفية ومعتقداتها.

يقول إبراهيم صالح: إزاء التوتر المتزايد الذي شهدته المجتمعات المسلمة في نيجيريا والذي تسبب به ظهور جماعة إزالة البدعة وإقامة السنة ومؤسسها الشيخ جومي. فقد قررت الحديث من أجل الدفاع عن الصوفية وهو ما تم بوضع كتاب “التكفير”.

ويقول الشيخ صالح إنه اختار لذلك منهجاً حذراً وموضوعياً يعتمد على الصبر وبناء الحجة المنطقية. وقد رد الشيخ صالح على الاتهام بأن صلاة الفاتح التي يرددها التيجانية في أورادهم تعد أكثر أهمية من ترتيل القرآن. وقد استشهد بكلام الشيخ أحمد التيجاني نفسه في القول بأن قراءة القرآن تفوق أي ذكر آخر لله. ولكن هذا القول أدى إلى جدل واسع في دوائر الطريقة التيجانية ذاتها. حتى أن بعض المريدين والأتباع طلبوا من صالح الاعتذار بشأن ما ورد عن صلاة الفاتح.

ويبدو أن هذا الطرح الذي قدمه الشيخ صالح إنما كان يهدف إلى محاولة شرح معتقدات التيجانية وجعلها مقبولة من عامة الناس. بيد أن أبرز هجوم تعرض له صالح جاء من إبراهيم سيدي السوداني الذي وضع كتاباً أسماه ” السمّ الزعاف المضمن في كتاب التكفير لإفساد الطريقة والإتلاف” حيث شكك في انتماء الشيخ صالح للتيجانية الصحيحة واتهمه بأنه أقرب إلى التفكير السلفي الذي يحاول بشتى الطرق تدمير الطريقة التيجانية.

وبالإضافة إلى هذا الانقسام الداخلي الصوفي-الصوفي فإن الهجوم السلفي تركز على جواهر المعاني. وهو العمل الأساسي الذي تقوم عليه الطريقة. إذ يضم أقوال وأفعال مؤسس الطريقة الشيخ أحمد التيجاني. وقد حاول الشيخ صالح في سياق رده على هذا الاتهام بأن هذا العمل قد صدر في أكثر من طبعة غير أصلية وغير موثقة. بما يعني أنها غير معترف بها في الطريقة. ربما أدى ذلك التحليل إلى غضب الجيل القديم من مشايخ التيجانية في حين أيدته الأجيال الشابة ذات التعليم الغربي.

وفي عام 1986 نشر إبراهيم صالح كتاباً ثانياً في بيروت أسماه “المغير على شبهات أهل الأهواء وأكاذيب المنكر على كتاب التكفير”. إذ يمثل هذا الكتاب مرحلة مهمة في إطار تطور أدب الرسائل بين الإخوان الصوفية. فقد تبنّى المؤلف استراتيجية هجومية لاذعة كما يظهر من العنوان. وذلك للرد على صاحب السم الزعاف الذي وصفه في المغير بأنه جاهل وملحد. وتتضح معالم المشروع الفكري للشيخ إبراهيم صالح في كتاب المغير. حيث إنه أكد ضرورة تخليص الصوفية من الدخلاء الذين شوهوا مبادئها ومعتقداتها. وهو الأمر الذي ألحق بها عظيم الضرر. وعليه يمكن اعتبار إبراهيم صالح -الذي حظي بسمعة طيبة في بلاده باعتباره من شيوخ التيجانية المعاصرين- بأنه من دعاة إصلاح الصوفية وتنقيتها من البدع والخرافات التي علقت بها.

وعلى سبيل المقارنة فإن الطريقة القادرية احتفظت بتماسكها الداخلي ولم تشهد أي انشقاقات كما حدث في التيجانية. ربما يعزى ذلك إلى عوامل عدة. أهمها: أن القادرية أقل عدداً من حيث الاتباع في الشمال النيجيري. كما أن قيادة القادرية ظلت واحدة ومتجانسة. كما أن الارتباط التاريخي بحركة الجهاد الإسلامي في سوكوتو جعل الهجوم عليهم أمرا غير مفيد سياسياً. وأخيراً فإن القادرية -على عكس التيجانية- لا توجد بها نصوص جامدة مثيرة للجدل.

وأيا كان الأمر فإن الطرق الصوفية -كما بينا في كتابنا عن الخطاب الإسلامي في أفريقيا طبعتي دار الهلال والأهرام- امتلكت ولقرون عديدة تأثيرا كبيرا في غرب أفريقيا. ونيجيريا على وجه الخصوص. بيد أنها في الآونة الأخيرة عانت تحديات كبيرة تحت تأثير الحركات الإصلاحية الحديثة. ويشير واقع الحال أن هذه الطرق لا تزال عميقة الجذور في المجتمعات الأفريقية ولا يتوقع لها أن يزول سحر تأثيرها على وجدان الأفارقة في الأمد القريب. ليس فقط لأنها تحسن استقبال وإدماج المهاجرين المسلمين في المدن البعيدة عن منازلهم. ولكن أيضا لأنها تقوم على تلبية الاحتياجات الروحية للمسلمين. وعلى سبيل المثال يقدم شيوخ هذه الطرق التمائم الدينية وغيرها من أنواع العلاج من الأرواح الشريرة والأعداء والمرض والعقبات التي تحول دون النجاح في الحياة. ومن الملاحظ أن الطلب على هذه الخدمات في ارتفاع متزايد بين صفوف الأفارقة المسلمين والمسيحيين على السواء. خاصة في أوقات الأزمات الاقتصادية والسياسية الحادة. وربما يفسر ذلك شعبية الطب التقليدي والروحي. وقد يلجأ بعض الدعاة المسلمين إلى استخدام بعض الطقوس المسيحية مثل الرقص والغناء لاجتذاب الجمهور.

ما بعد السلفية

على أنه خلال الفترة الماضية ظهر تيار سلفي مهادن يخفف حدة نقده للتيارات الإسلامية الأخرى غير السلفية. بل ويعتبر نفسه وريثا لحركات الجهاد الصوفية التي شهدتها غرب أفريقيا في القرن التاسع عشر. على سبيل المثال يعد من الصعوبة بمكان تصنيف شخصيات إسلامية مؤثرة مثل محمود ديكو -رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في مالي- على أنهم “سلفيون”. فيما يتعلق بآراء ديكو الخاصة فإنه يقينا لا يزال يتسق مع الملامح الأساسية للسلفية.

وتشمل هذه الملامح التفسير الحرفي للنص والإصرار على اشتقاق فتاوى مباشرة من القرآن والسنة بدلاً من إطار المدارس الفقهية السنية الكبرى. ولكن فيما يتعلق بسلوكه السياسي يمكن تصنيف ديكو بشكل أفضل على أنه يمثل تيار “ما بعد السلفية” -وهو تيار ناهض من علماء المسلمين وجدوا أن الخطاب السلفي والحركية السلفية ضيقة للغاية عندما يتعلق الأمر بمواجهة المجالات الاجتماعية والسياسية المعقدة. وخاصة من حيث التعامل مع التيار الصوفي.

وعليه فإنه إذا كانت السلفية تمثل خطابا أساسيا موجها نحو إصلاح غيرهم من المسلمين غير السلفيين. فإن ما بعد السلفية تقلل أهمية هذا العنصر لصالح المواقف التي تسهل التحالفات السياسية والاجتماعية مع المسلمين الآخرين.

أضف إلى ذلك. تعمل المتغيرات الأخرى لما بعد السلفية على إقران الخطاب الديني السلفي بنظرة أوسع نطاقًا للروحانية الصوفية الإسلامية. ولعل تلك النظرة تستحضر ما كتبه آصف بيات وأوليفر روي عما بعد الإسلاموية. حيث إن التناقضات الداخلية والضغط المجتمعي ولّدت بحثًا عن النفس داخل الأوساط الإسلامية بحلول التسعينيات. وعليه بعد مرحلة من التجريب تُستنفد جاذبية الإسلاموية وطاقتها ومصادر شرعيتها حتى بين مؤيديها المتحمسين.

وعلى أي حال فقد أجبرت العادات والمعتقدات الأفريقية السلفيين على التكيف. في غانا يمكن للسلفيين السماح بقدر غير معتاد من الحرية للنساء للعمل علنًا. وكانت هناك مقاومة ضد تعصب الجيل الأول من السلفيين والهجوم على العادات المحلية التي تبنى السلفيون فيما بعد نهجًا أقل صرامة تجاهها. تخلت السلفية عن بعض الطقوس الصوفية مثل الرقص. لكنها تسامحت في بعض الطقوس الأخرى بما في ذلك الجنازات المنضبطة للمتصوفة.

ومع ذلك فإن هذه التكيفات نادرة ومحدودة. السلفية بشكل عام أقل استيعابًا للتنوع الديني من الصوفية التي تطورت في أفريقيا بما يتماشى مع الظروف والتفضيلات المحلية على مدى مئات السنين.

بهذا المعنى ورغم وجود حركات إصلاحية على النمط السلفي الأفريقي سبقت الحركة السلفية العالمية فإن السلفية هي منتج “مستورد” في السياق الأفريقي أكثر من الصوفية التي أضحت مرادفا للإسلام الأفريقي. رغم ذلك كله انتشرت السلفية بشكل كبير عبر أفريقيا على مدى العقود العديدة الماضية.

الأسباب وراء مكاسبها عديدة ولكن أهمها تقلص طبيعة العالم بفضل العولمة وهو مجمع دولي تعليمي-ديني- غير حكومي تغذيه أموال التبرعات المعلومة أو مجهولة المصدر والظروف المحلية التي ارتبطت بتراجع الدولة عن وظيفتها الإنمائية في العديد من البلدان الأفريقية. وهو ما أسهم في تحدي سلطة النخب الدينية التقليدية. ومن المرجح أن تدفع مرحلة ما بعد السلفية بهذا المعنى إلى إعطاء قوة دفع كبيرة للجماعات الراديكالية العنيفة التي تحاول تحقيق حلم دولة الخلافة الكبرى. وهو المشترك الأسمى لمعظم التيارات الحركية ذات الإسناد الديني في أفريقيا.