بات من الواضح أن الاعتماد على إعلان 21 نوفمبر/تشرين الثاني، بين كل من عبد الفتاح البرهان ود. عبدالله حمدوك، للمضي قدما بالفترة الانتقالية السودانية قد باء بالفشل الكامل، خصوصا مع استمرار قدرة الشارع السوداني على رفض الاتفاق والتظاهر ضده والمطالبة بتسليم السلطة للمدنيين، وذلك على الرغم من كل الدعم الدولي والإقليمي الذي حظي به هذا الاتفاق.
ولعله يكون من المؤشرات الدالة في مشهد الذكرى الثالثة للثورة السودانية، هو اختراق الحواجز الأمنية على بعض الجسور الواصلة بين أم درمان والخرطوم، وذلك بسماح من قوات الجيش، بما يعني أن الحالة الراهنة في السودان جعلت مستويات من المؤسسة العسكرية السودانية خصوصا القطاعات الشبابية متعاطفة مع الحركة الجماهيرية السودانية التي هي ضد القائد العام للجيش، وربما يكون لهذه المؤشرات ما بعدها داخل المؤسسة العسكرية السودانية.
اقرأ أيضًا: قراءة في استراتيجيات البرهان
المؤشر الثالث في مشهد ذكرى الثورة هو حالة توازن الضعف بين المكونين المدني والعسكري، إذ أنه على مدى عامين لم يستطع أي من المكونين أن يحسم الموقف السياسي لصالحه، ويقود السودان نحو خارطة طريق تضمن استقراره، والمضي قدما في مواجهة تحدياته على الصعيدين الأمني والتنموي.
مفردات المشهد السوداني الحالي تشير إلى أن عبدالله حمدوك غير قادر على تشكيل الحكومة كما أفصح عن ذلك بنفسه تحت مظلة رفض إعلان 21 نوفمبر/تشرين الثاني، وغير قادر على تجاوز القوى السياسية بعد أن أخطأ خطأ كبيرا بقبوله العودة لمنصبه دون التشاور مع القوى السياسية السودانية، وذلك بتقدير موقف أن الضغط الدولي قادر على حل الإشكالية مع المكون العسكري.
أما على صعيد المكون العسكري، فإنه لم ينجح في تمرير انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول، كما أن قبوله كطرف منفرد بالسلطة أصبح بعيدا بعد رفض الداخل والخارج والأطراف الإقليمية لهذا الانفراد الذي مازال يعرض المكون العسكري لضغوط كبيرة عبر آلية الرباعية التي تضم كل من الولايات المتحدة وبريطانيا، وكل من الإمارات والمملكة السعودية.
وبطبيعة الحال يبدو هذا المأزق لافتا في الذكري الثالثة لثورة سودانية عظيمة، اندلعت في ديسمبر 2018 لتقتلع نظام حكم بمرجعية إخوانية دون عون خارجي ولا مخططات إقليمية، حيث كان الدافع ولايزال التخلص من حكم شمولي فاسد، والانتقال نحو ديمقراطية.
ويبدو أن الخروج من نفق السيولة السياسية السودانية يحتاج إلى إرادة سياسية متجاوزة تفاعلات الأطراف خلال الفترة الماضية بكل سلبياتها، ويتطلب إدراكا من الجميع أنه في حال فقدان سيطرة مركز الدولة -أيا ماكانت رموزه أو شخوصه- القدرة على قيادة التفاعلات والتأثير فيها، فإن المتوقع هو بلورة تحالفات بين القبائل والحركات المسلحة من كل الاتجاهات لتتكون حالة الصوملة في السودان، ولعل الحالة في دارفور شاخصة بالنموذج الدامي فخلال عام 2021 وقع في الإقليم 200 صراع مسلح، طبقا للمنسق الرئيسي لمفوضية اللاجئين في دارفور، توبي هاروارد، الذي قال إن بعض هذه الصراعات قد أخذ منحى عرقيا، وذلك بفعل انتشار السلاح من تشاد وأفريقيا الوسطى، وبات اللجوء إلى تشاد فعل شبه يومي يمارسه السودانيون من دارفور.
في هذا السياق، فإن التوقف عن شيطنة الأطراف بعضها لبعض يبدو ضروريا، والاتجاه نحو وحدة الموقف المعارض من جانب قوى الحرية والتغيير أصبح مطلبا ملحا في ضوء انقسام الشارع السوداني بين متطلبات أمنه ببقاء مؤسسة الدولة، وكذلك تطلعاته بشأن الانتقال الديمقراطي والتخلص من طبيعة النظام السياسي الشمولي. وعلى ذلك فإن بلورة موقف وبرنامج سياسي للمرحلة القادمة هو فرض عين من المطلوب إنجازه بالسرعة المطلوبة، بعد أن تعطل كثيرا وبات ينتظره الجميع.
اقرأ أيضًا: ملاحظات حول اتفاق البرهان حمدوك
وعلى نحو مواز، قد يكون طرح آليات العدالة الانتقالية والدفع بها على أرض الواقع خطوة أساسية مطلوبة من القوى السياسية أي تحالف الحرية والتغيير، وذلك بالتوازي مع أي برنامج أو ميثاق سياسي، ذلك أن الاستسلام لأفكار الانتقام لدماء الشهداء بشكل مطلق يساهم في تمترس المكون العسكري خلف مواقف متشددة، ويساهم في تركيزه على البقاء في السلطة مهما كان الثمن المدفوع على المستوى الوطني.
في هذا السياق، ربما تكون مهام صياغة توافق وطني سوداني عبر صفقة تعتمد على آليات العدالة الانتقالية، بين الأطراف المتصارعة في قمة السلطة الراهنة هو ملقى على عاتق مبادرات محلية من جهات أو أفراد مشهود لها بنزاهة سياسية، وقدرة على التأثير خصوصا في نطاقي المكون العسكري لإقناعه بممارسة تراجع محسوب من المشهد السياسي بما يحجم من السيولة السياسية وممارسات التراشق القائمة، وكذلك لجان المقاومة وتجمع المهنيين، وهما المكونين الأكثر تشددا في تحالف الحرية والتغيير متأثرين برومانسية وطنية قد تنجح في حشد الشارع والتحريض ربما حتى على القوى السياسية، ولكنها لا تنجح بالتأكيد في الحفاظ على مركز الدولة قائما بصلابة في وجه احتمالات صوملة السودان.