مازالت قضية “المرأة في الكنيسة” تشغل أذهان المسيحيين. إذ تطرح تلك القضية بقوة بالتوازي مع فتح الباب أمام نقاشات مجتمعية أوسع عن قضايا المرأة بشكل عام. إلا أن مسألة رسامة المرأة قسيسة قد حظيت بجدل أقل، فليس كل من يطالبون بفتح مساحات أوسع أمام المرأة في الكنائس التقليدية والمصلحة. يؤمنون بحق النساء في لعب دور القس حامل الأسرار في الكنائس التقليدية والمدعو لخدمة الرب في الكنائس المصلحة.

الموقف اللاهوتي بين الكنائس التقليدية والكنائس المصلحة

لا كهنوت للمرأة في الكنائس التقليدية وهو ما يفسره مارك فلبس الباحث في اللاهوت الأرثوذكسي. بقوله: “ترى الأرثوذوكسية الكهنوت على أساس أن مركزه المسيح وليس جسد الكنيسة المكون من أعضائها الرجال والنساء. فالكهنوت يكون في الكنيسة لأجل الكنيسة لكن لا يعتمد عليها ، بل فقط على المسيح ذاته”.

ويوضح الباحث في اللاهوت الأرثوذكسي: “فبينما ينتمي الكهنة إلى الكنيسة كأشخاص مؤمنين. إلا أنهم يتمايزون عن بقية الجسد بخدمة مصدرها المسيح رأسًا، تمامًا مثل الرسل الذين تم اختيارهم من بين التلاميذ لكن رتبتهم الرسولية ليس لها مصدرها من تلاميذ آخرين بل من المسيح ذاته. لذلك، فالأرثوذكسية ليست مخيرة لاختيار المرأة لممارسة سِرِّ الكهنوت كالإنجيلية أو الأنجليكانية. التي من الممكن أن تناقش ترسيمها قساً «كوظيفة»، فوظيفة القس الإنجيلي لا تحمل “رتبة” أو رسامة كهنوتية.

 

يشير مارك إلى أدوار أخرى يمكن أن تلعبها المرأة في الكنيسة الأرثوذكسية بعيدة عن سر الكهنوت. فيؤكد أن المرأة مثلها هو القديسة العذراء مريم أم المسيح، التي لم تكن كاهنة، ولا أيًا من قديسات الكنيسة الأولى. اللائي صِرن مثالًا للكمال المسيحي حينما بحثن كنساء عن الكهنوت المدعوات له. أي الكهنوت المُميِّز لهن، والمناسب للطبيعة الأنثوية التي خلقهن الله عليها. فالمرأة هي التي أعطت المسيح للعالم، قدمت المُخلص بجسدها عندما ولدته وأتخذ كيانه وحياته البيولوجية من جسدها. لذلك فعندما تُقدم أولادها للمسيح في المعمودية، وعندما تصير إشبينة لهم. عندما تُعلِّم الكلمة الحية لأولادها وبني جنسها تصير كاهنة لهم. هذه هي الحياة التي تُعلنها الكنيسة لكل شخص بما يتناسب مع واقعه الجندري.

المرأة المسيحية تبحث عن كهنوتها الخاص

ووفقا للرؤية الأرثوذكسية التي يطرحها مارك، تبحث المرأة المسيحية عن كهنوتها الخاص في واقعها كأم وشماسة ومُكّرسة. في وجودها العيني داخل الحياة التي خلقها الله فيها ودعاها لها، مضيفا: “تلك الرؤية الكنسية التي قد تكون في نظر البعض شديدة التخلف والذكورية. تُلهم الشخص الإنساني برسالته المسيحية المُميزة داخل واقعه المعيش. بدلًا من البحث عن مطالب تمحي روعة تنوع خليقة الله وجمال البحث الفريد لكل شخص عن دعوته وسبب وجوده”.

في المقابل فإن الكنائس المصلحة كالكنائس البروتستانتية والأنجليكانية قد اتخذت موقفا مغايرا في قضية رسامة المرأة قسيسة. وهو ما يعبر عنه الدكتور منيب يونان الرئيس السابق للاتحاد اللوثري العالمي ومطران القدس للكنيسة اللوثرية سابقا. بقوله: “ليس هناك فرق بين الرجل والمرأة والكتاب المقدس يساوى بينهما. وعلى الكنيسة أن ترجع لجذورها. وأن ترسم المرأة قسيسة إذا كانت مدعوة من الله، لأن الدعوة تأتى لإنسان وليس لرجل وامرأة. ونرى رسامة المرأة قسيسة جزءا من هويتنا اللوثرية، وفى كنائسنا اللوثرية هناك 40 أسقف سيدة. ونعرف أن هناك كنائس تختلف معنا، ولكن هذا شأننا الداخلى وتفسيرنا للكتاب المقدس”.

هل تأثرت الكنائس المصلحة المصرية بموقف الكنيسة الأرثوذكسية؟

يعتبر السنودس الإنجيلي هو الهيئة العليا للكنيسة الإنجيلية المشيخية في مصر وهي أكبر الكنائس الإنجيلية تمثيلا بين 18 مذهب إنجيلي. ومن ثم فإن السنودس قد اتخذ قرارا منذ سنوات أقر فيه تأجيل طرح قضية رسامة المرأة قسيسة لعشرة سنوات قادمة فأغلق الحديث في هذا الملف.

ينطلق الجدل في السنودس الإنجيلي بين ثلاثة تيارات رئيسية الأول يؤيد رسامة المرأة قسيسة. ولا يرى في ذلك موانع لاهوتية ولا اجتماعية. بل يؤمن بضرورة اتخاذ تلك الخطوة التي سبقت فيها كنيسة لبنان الكنائس المصرية. أما التيار الثاني فلا يؤمن بوجود مانع لاهوتي وراء رسامة المرأة قسيسة ولكنه يرى أن المجتمع المصري لن يتقبل تلك الفكرة بوضعه الحالي. ومن ثم ينتهي هذا التيار برفض هذا الأمر، أما التيار الثالث فيرفض رسامة المرأة لأسباب لاهوتية. ويرى أنها لا تتفق مع تفسير الكتاب المقدس ومن ثم يغلق الباب أمام طرح هذه القضية تماما.

أمام هذا الرفض الإنجيلي لرسامة المرأة قسيسة رافعين شعار الأسباب الاجتماعية أو اللاهوتية أو كلاهما. فإن العودة إلى واقع المسيحيين في مصر قد يفسر الأمر. فغالبية المسيحيين المصريين من الأقباط الأرثوذكس. إذ يمثلون ما يقرب من 93% من الأقباط بينما تتوزع الـ7% الباقية بين بقية الطوائف. ومن ثم فإن الكنيسة القبطية ككنيسة تحكم المجال العام المسيحي في مصر قد يؤثر موقفها على باقي الكنائس الأخرى. وهو الأمر الذي يختلف في دول عربية أخرى لا تسيطر على غالبيتها كنائس تقليدية ولا تحتكم إلى تقاليد اجتماعية.

هل تستجيب الكنيسة القبطية لضغوط التنويريين؟

في المقابل يقول مارك الذي يتمسك بموقف كنيسته الرافض لكهنوت المرأة: “لا تستمد الكنيسة الأرثوذكسية طقوسها وترتيباتها من الناس. ولا تُقررها بُناءً على الاستحسانات أو الانطباعات الشخصية. أو تماشيًا مع أية رؤى أو أجندات أو أنماط تفكير تحاول فرض ذاتها عليها قسرًا، لأن حياة الكنيسة هي من الله. ولا تسعى لاستعطاف الناس. مشددا: لا يجب على الكنيسة الاستجابة لأي ضغط أو إلحاح لبعض المجموعات. التي لا تدين بالفكر الأرثوذكسي فالكنيسة لا توجد بالكيفية التي يهواها التنويرين أو النسويات. الكنيسة لها حياة وتاريخ هما التقليد المقدس، ومواقفها جميعها يجب أن تنبع من تقليدها كونه عصارة حياتها وخبرتها.

يردد مارك ما قاله قداسة البابا تواضروس عن رسامة المرأة: “هذا مرفوض في الكنيسة القبطية تمامًا. هذا الأمر لا يُناقَش، ولا يُقرَّر، ولا هو مقبول، ولا هو في التفكير.. كهنوت المرأة برا الموضوع خالص”. مضيفا: “لأنه لدينا شهادة واضحة من القديس إبيفانيوس أسقف سالاميس (القرن الرابع الميلادي) ضد الهراطقة. الذين ينادون برسامة المرأة للكهنوت السرائري. إذ يقول (من الأزمنة الأولى لا نجد إمرأة خدمت خدمة كهنوتية، بالرغم من أننا نرى في العهد الجديد نساء نبيات أو من الأنبياء)”.

وفي الوقت نفسه، يفرق الباحث في اللاهوت بين قضية النظر إلى المرأة باعتبارها جسد وبين القبول برسامتها قسيسة. فيطرح قائلا: “رسامة المرأة من الدعاوى اللاكنسية والتي لا تقل سُميِّة عن الإدعاء الذكوري الجاهلي. الذي ينسب قرار منع المرأة من الرسامة إلى أسباب بيولوجية بمعنى أن المرأة لا تستطيع القيام بواجبات الكهنوت أو أنها دنسة مثلًا في فترات الحيض أو الإنجاب”. مضيفا: “على العكس، تُعلم الأرثوذكسية بأن الله لم يخلق شيئا نجسًا، وهي تمثل تجليا مُقدسا للخليقة (الحسنة جدًا). ولا هي ناقصة في أصل طبيعتها، بل إن ترتيب الكهنوت هو للرجال كونه امتداد للوجود التاريخي ليسوع المسيح الذي كان رجلًا، ورئيس الكهنة الأعظم. فالكاهن هو الممثل للمسيح في رسالته الخلاصية.