(خلاصة المقال السابق)

كان الملك يشرب الخروف في كوب واحد…!

أخطائي في الكتابة كثيرة، لكن الكلمة التي استوقفتك في العبارة السابقة صحيحة، نعم.. إنها “الخروف”، وليس الخرّوب.. هكذا كنا نسمع في طفولتنا عن الملك فاروق، مرة لإظهار القوة والثراء والعظمة؟ ومرة للتحريض على الإسراف والترف على حساب شعب يعاني من مثلث الفقر والجهل والمرض..

لا أكتب هذه العبارة اليوم لمناقشة طُهر أو فساد فاروق، بل أكتبها لتأكيد فكرة “الخلاصة”.. القدرة على تكثيف خروف في كوب.. القدرة على وضع حقل كبير من الزهور داخل زجاجة صغيرة في قبو “الأرملة أرنولفي” كما في رواية “العطر- قصة قاتل” التي أشرت إليها في المقال السابق..

ولما كانت فكرة “الاستخلاص” هي محور المقال، فقد كتبت خلاصة عام 2021 في كلمة واحدة هي “الهراء”، وعاتبني المهتمون بالقش على تجاهل الكثير من الأحداث “العظيمة” التي شهدها 2021… عام تأسيس الجمهورية الجديدة، وإلغاء الطوارئ، وإعلان استراتيجية وطنية لحقوق الإنسان، وعودة السياحة الروسية، وعودة مرتضى منصور إلى رئاسة الزمالك… إلخ

اعتذرت لحمّالي الحطب، وسألتهم بكل أدب: كيف يمكنني وصف عام بدأ بحوار مجتمعي كاسح عن تورتة الأعضاء التناسلية في نادي الطبقة الثرية، وانتهى بحوار مجتمعي كاسح عن تأثير طلاق مصطفى فهمي على العلاقات العربية ونخوة الأمة ومستقبل الشرق الأوسط الجديد؟، مرورا بمعركة ياسمين عبد العزيز وخلاف رشوان توفيق مع ابنته وأسرار حلاقة شيرين عبد الوهاب واهتمام شريف عامر بمصير البطة شيماء؟!

إذا لم يكن هذا هو الهراء، فماذا يكون الهراء؟

السؤال نفسه يمتد إلى العناوين المذاعة عن إنجازات العام: من العاصمة الجديدة إلى الجمهورية الجديدة، مرورا بالاستراتيجية والكباري والمؤتمرات وتسويق العقارات وضربات مؤسسات الجباية تحت شعار مكافحة الفساد، فخلاصة ذلك أيضا هو “الهراء”، لأن خلاصة معنى الهراء: أن تقول ما لا تفعل، وهذا أكبر الفساد، والله أعدل وأعلم.

والآن نخطو خطوتنا التالية على الطريق…

(4)

توقفنا في المقال السابق عند حالة الشجن الغامض التي انتابتني عندما رأيت منحوتة “الضفدع الحزين” في قصر الخديو عباس حلمي الثاني على ضفاف البوسفور، بشكل عام كانت بقايا الوجود المصري في إستانبول بمثابة “بحيرة تأملات” بالنسبة لي: مشاعر النديم في المنفى، مشتركات اللغة والسحنة والأسماء، صوت الأذان بالطريقة المصرية، كثير من الطقوس في الأحياء الشعبية ووسائل المواصلات، القصة الغامضة للطالب محمود مظهر الذي قُتل في أثناء محاولة اغتياله للخديو عباس الثاني، وضياع الفدائي الهارب أحمد عبد الحي كيرة في المنفى، وما قيل عن تسلله حاملا مسدسه إلى قصر تشيبوكلي لينفي لعباس الثاني شائعات تكليفه باغتياله مقابل العفو عنه وتسهيل عودته لمصر، ثم العثور على “كيرة” مطعوناً بخنجر تحت سور القسطنطينية في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي!

بحثت عن تفاصيل قتل “كيرة” وسنواته الأخيرة الغامضة، لكن هذا موضوع آخر قد نعود إليه لكشف غوامض تاريخنا الملفق وتحريره من الروايات الموجهة، لكن يكفي الآن أن أشير إلى تشككي في قصة لقاء “كيرة” و”عباس” بالكيفية التي أوردها صبري أبو المجد بصياغة صحفية منقولة دون تحقيق، كما رددها مصطفى أمين “بطريقته الخاصة في كتابة التاريخ”، بخاصة لو كانت الأحداث متعلقة بحزب الوفد، فحتى عام 1922 لم يكن “كيرة” قد خرج من مصر هاربا من محاكمات الجهاز السري لثورة 1919، الذي نفذ عمليات اغتيال متعددة شملت مسؤولين مصريين متعاونين مع الاحتلال، ومسؤولين إنجليز أيضا أشهرهم السردار لي ستاك، بينما محاولة اغتيال “عباس” وقعت في صيف 1914، وقبل نهاية العام تم خلع الخديو بقرار من وزير الخارجية البريطاني، واندلعت الحرب العالمية الأولى وغادر “عباس” تركيا متنقلا بين دول أوروبية عدة، وكانت زياراته إلى تركيا قليلة وسرية وسريعة حتى باع قصره لبلدية إستانبول ولم يعد إليها حتى مات في جنيف، حيث كان يقيم، ببساطة شديدة لأن دولة الخلافة نفسها كانت قد انتهت وحل محلها دولة جديدة لا مكان فيها لعباس وزمنه القديم، لقد ذهب “عباس”، لكن الضفدع بقي على جدران قصره الصيفي ليذكر المهتمين بالجوانب السرية المسكوت عنها في حكايته المتكررة في تاريخنا: تعارض بين حاكم وسلطة أقوى، يتم خلعه، لجوء إلى سلطة أخرى، ثم منفى، وغربة، ومساومات، وضياع، حتى ينتهي زمن قديم ليفسح الطريق لزمن جديد، بصرف النظر (الآن) عن تقييمنا أيهما أفضل: القديم أم الجديد؟

(5)

هل كان عباس الثاني يعلم بأمر “الضفدع” في قصره؟ وهل كان يدرك أي رمزية له، أم أنه كان مجرد حلية للزينة والفخامة وضعها مهندسه الخصوصي أنطون لاشاك، أو مهندس التصميم ديلفو سيمانتي؟

شغلني سؤال: من وضع الضفدع في القصر؟

بعد فترة طويلة من البحث والتقصي في وثائق الفترة، وجدت الإجابة عند الزوجة الثانية للخديو، وهي أميرة أوروبية مثيرة للجدل وللتأملات تُدعى “ماريانا توروك هون زندرو” أو “الكونتيسة ماي” كما يناديها المقربون، وبرغم أنها ولدت في مدينة فيلادلفيا الأمريكية، فإنها من عائلة نمساوية عريقة، لكن حياة “ماي” ليست بالبساطة التي نستطيع فيها كتابة معلومة قاطعة، ثم نمضي مستريحين متصورين أننا قلنا الحقيقة، لأن الوقائع والأيام أثبتت أن “ماي” فضاء ممتد وغامض أوسع من الحقيقة المحددة، فهي حسب أدق التحريات ليست ابنة الكونت هو زندرو إلا بالاسم، بل ابنة مخترع مجري* كان شريكا للمخترع الأمريكي الشهير إديسون يدعى تيودور بوشكاش، وتيودرور هي نفسها “تيفادار” حسب اللغة التي تنطق بها الاسم، وقد تزوجت والدتها الكونتيسة صوفي من هذا المخترع (الذي اشتهر في أوروبا خلال تلك الفترة في مجال الهواتف والإذاعة) بعد انفصالها عن الكونت النمساوي..

التقى “عباس” بالكونتيسة لأول مرة في حفل نظمته أكاديمية الإمبراطورة تيريزا في النمسا، وهي أكاديمية شهيرة تأسست في فيينا لتربية أولاد الملوك والأمراء وتعرف باسم “تيريزيانوم” وتكتب في الوثائق الخديوية القديمة بالنطق الإنجليزي: “تريسيانوم”، حيث كان “عباس” زميل دراسة للكونت جوزيف شقيق ماي، وحدث التعارف الأول بسبب هذه الزمالة، وبعد فترة قليلة غادر “عباس” الأكاديمية عائدا إلى مصر في مطلع عام 1892 لوراثة عرش والده الخديو توفيق، الذي توفي في 7 يناير من ذلك العام، وأذكركم بقصة مفاصل الزمن التي أشرت إليها في المقال السابق، حيث دراما اللقاء بين البدايات والنهايات وما ينتج عنهما من تحولات، وألفت نظركم إلى أن “عباس” عاش وحكم بين قرنين، وتولى وخلع وتوفى في مفاصل الأعوام..

كان “عباس” صبيا لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره، وهذا يعني أنه لا يصلح للحكم دون “مجلس وصاية”، وهو أمر لم يكن يروق للإنجليز، لأن مجلس الوصاية يفتح الباب لسيطرة رجال الباب العالي على القصر في مصر، وكالعادة هناك دائما حل عندما تلتقي مصلحة أصحاب السلطة ورجال الدين، فقد كان “عباس” من مواليد 14 يوليو 1874، وتولى الحكم فى 16 يناير 1892 بعد أن سارع الباب العالي بإرسال فرمان يؤكد أحقيته في وراثة العرش، ليسبقوا الإنجليز في تأكيد شرعية الحاكم الجديد ويؤكدوا مع ذلك على تبعية شؤون الحكم في مصر لإستانبول، لكن الإنجليز لم يعجبهم تدخل العثمانيين، فتجاهلوا فرمانهم وبدؤوا في فرض وصايتهم على الحاكم الجديد بترتيبات مختلفة، وأبلغوه أن يتمهل لأنهم طلبوا من الباب العالى إرسال قرار بالموافقة على تنصيبه، بينما كان الفرمان في جيب عباس، بعد ذلك حدثت مشاورات مع عدد من الشيوخ لحل مشكلة سن الخديو دون مجلس وصاية، واقترح الشيوخ حساب عُمر “عباس” بالسنوات الهجرية، لكنه لم يكمل أيضا 18 عاما في منتصف يناير، فاستقر الأمر على تولية الصبي دون تنصيب رسمي، وتم تنظيم لقاءات بروتوكولية مع سفراء الدول وممارسة بروتوكولات شكليه تشير إلى أنه الحاكم، مع تأجيل حفل التنصيب الرسمي إلى 26 مارس فحينها سيكون الخديو الجديد قد أتم 18 عاما من عمره!!

كان عباس يتابع كل ذلك وتفكيره مشغول بكيفية إثبات الولاء للباب العالي، للحصول على دعم السلطان له ضد الإنجليز: الذين تسببوا في آلام وعذاب جدي “إسماعيل العظيم” بعد أن أجبروه على التنازل عن العرش ونفوه إلى إيطاليا، كما كان مشحونا بكراهية “المتطرف أحمد عرابي” وبقايا الضباط القريبين منه في الجيش: لقد تسبب في فقدان هيبة والدي توفيق “الطيب الكريم”، حيث يقول “عباس” في مذكراته المعنونة بـ”عهدي.. مذكرات خديو مصر الأخير”: فحركة عرابي لم تكن قد أخمدت بعد، وكان يكفي وقوع إحدى الحوادث لكي تظهر من جديد، أما بالنسبة للإنجليز فقد قرر الخديو الجديد أن يبدأ عهده بأكل الضفدع*، ففي أول لقاء مع لورد كرومر ابتلع طريقة الغطرسة في توجيه التعليمات في صيغة نصائح، وحسب صياغته للموقف قال: “كانت مقابلتنا الأولى عادية، ونظرا لسني الصغير اعتبر ممثل إنجلترا أن من حقه أن يعطيني توجيهات ونصائح، وقبلتها مع بعض الغضاضة… لأن الطرفين لم يكونا متعادلين: كنت وحيدا دون تأييد، وكان اللورد مدعوما بدبلوماسية مستنيرة ووزارة في لندن تثق به، وممثل بريطانيا العظمى لدى الباب العالي، أما أنا فلم يكن ورائي سوى الفراغ، ولم يكن مسموحا لي بعمل أي إعلام، بينما كان تحت تصرف خصمي البرقيات والصحافة، وبالنسبة لي إذا نشرت الصحافة الفرنسية شيئا عني، كان الإنجليز يتهمونني بأنني المحرك لهذا، ويعتبرونه “عدم خضوع لا يمكن التسامح فيه…”، وكان لورد كرومر يكرر على مسامعي قصص ذكريات أليمة حدثت مع أجدادي ويهددني تلميحا وتصريحا بنفس المصير إذا لم أخضع وأنفذ تعليماتهم..

ارتفعت حدة التناقضات في نفس الحاكم الشاب، خاصة بعد أن لمس بنفسه أن مرؤوسيه الصغار أنفسهم لا يحترمون رأيه ولا قراراته، وبعد قرابة العام من توليته شعر أنه محاط بجواسيس مصريين يعملون لصالح الإنجليز، فقرر إقالة وزارة مصطفى فهمي، المدعوم من المندوب السامي، لإحداث تغيير كبير في شبكة النظار والموظفين المتعاونين مع الاحتلال، ولم يتحدث “عباس” عن الصراع الشخصي والنفسي الذي دفعه لاتخاذ القرار الذي أغضب اللورد المخيف، لكنه تذرع بمرض “فهمي” وعدم قدرته على متابعة مسؤولياته، وحاول استمالة الخلافة في الخارج وشيوخ الأزهر والجمهور المتدين في الداخل، فقال إن “مصطفى فهمي لم يترك أي فرصة لكي يسخر فيها من الإسلام، ويحارب الباب العالي”، وأضاف “عباس” عبارة عجيبة عن “فهمي” في مذكراته قال فيها بالحرف: “أما اتجاهه الوطني فلم يكن له جذور، ولم يكن من أصل مصري، وكان أسلافه قد أتوا من كريت.. كان شخصية تخدم رغبات أعداء البلاد، وتعطي مقررات سلطتها للمشروعات الإنجليزية”، مع العلم أن “عباس” كتب مذكراته بالفرنسية لضعف لغته العربية التي لم يكن يعتبرها لغته الأم كما قال في نفس المذكرات، بل قال: “فكرت في اختيار حسين فخري باشا، لكي يحل محل فهمي، وكان جركسيا… أجد فيه متعاونا مخلصا لبلاده، معاديا للسيطرة الأجنبية”، ومن الواضح أنه يقصد بالبلاد هنا الديار التركية التي ينتمي إليها هو وفخري، وما مصر إلا أرض تابعة للباب العالي يديرها موظفون أتراك مخلصون للسلطة في الأستانة!

لكن على كل حال، تعثر استمرار “فخري” وتم تغييره بعد ثلاثة أيام فقط بمصطفى رياض باشا، لأن فهمي باشا (وهو بالمناسبة والد صفية زغلول زوجة سعد زغلول) كان يمر بظروف صحية صعبة..

ما يعنينا هنا أن “عباس” خاض معركة “أكل الضفدع” بجسارة مؤقتة، وبرغم فشل المحاولة الأولى للمواجهة، فإنها صنعت له سمعة شعبية، دعمها بتشكيل ودعم أحزاب وصحف جديدة تخدم توجهاته، لكن المحصلة لم تكن في صالحه، لذلك انكمش أمام ضغط كرومر المتواصل، وتراجع عن كثير من القرارات التي اتخذها منفردا دون مشورة اللورد، حتى إنه قبل بعودة وزارة فهمي مرة أخرى بعد شفائه..

(يتبع)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إشارات:

* العنوان يفتح بابا للتساؤل: هل أكل عباس الضفدع أم أكله الضفدع؟، لا داعي للتسرع في تقديم إجابة، لا بد أن تنتظر حتى نكمل فصول الصراع

* تعبير التهام الضفدع يرمز إلى إقدام الشخص على بدء العمل بأصعب مهمة يخشى منها، لكي يشجع نفسه ويتخلص من مخاوفه، وقد اتخذ الكاتب “بريان تريسي” من هذا التعبير عنوانا لكتابه الشهير الذي يتضمن نصائح للبدء بالأعمال المهمة مهما كانت صعبة وثقيلة على النفس.