بدت ثورة “الياسمين” بشارة خيرٍ جاءت في موعدها مع القدر، تومئ إلى زمن عربي جديد، تطلَّع إليه مشرق العرب قبل مغربها، وقبل مضي عشر سنوات على “هروب بن علي” تبدَّى أن بشارة الخيرٍ انقلبت إلى نذارة شرٍ، كأن هذه المنطقة (التي حدها الشرقي في الخليج العربي وحدها الغربي في المحيط الأطلسي) ليس مكتوبًا لها أن تعيش تجربة يمكن أن تقود بلدًا عربيًا إلى أوضاع أكثر ديمقراطية، ومناخاتٍ أكثر اقترابًا من احترام حقوق الإنسان العربي وحرياته.

في البداية، بدا لنا أن “تونس” هي الاستثناء الذي يثبت القاعدة، منذ سمعنا وطربنا لصيحة الحرية والانعتاق ليلة انتصار الثورة في شارع “الحبيب بورقيبة” الخالي من أي حركة، بسبب فرض حظر التجول، تلك التي صرخ بها المحامي والحقوقي اليساري “عبد الناصر العويني” الذي كان قد عانى القمع سنوات حُكم  الطاغية “زين العابدين بن علي” مع غيره من الحقوقيين والمحامين والنشطاء والمثقفين، كان صوت “العويني”، وكلماته الصادقة التي تخرج من قلبه، كأنه يتحدث باسم الملايين التي سمعته يصرخ: “يا شعب يا عظيم، يا شعب يا باهي، يا شعب يا تونسي، دمكم ما مشاش خسارة، بن علي هرب، المجرم هرب، تحيا الحرية، تحيا الحرية، المجد للشهداء».

من وقتها ظلت قلوبنا تردد قبل عقولنا: “بسم الله الرحمن الرحيم: الإجابة تونس”.

**

منذ لحظة انتصار الثورة، وعلى مدار سنواتها العشر (رغم العثرات، والمعوقات، والتقاطعات، إلخ، إلخ) بدت التجربة التونسية قادرة على أن تُبدع نموذجها لهذه المنطقة المنكوبة بديكتاتورية حكامها وفساد نخبتها، وأن في استطاعة تونس أن تقدم إجابتها الأكثر نضجا على السؤال “الأعوص” في تاريخنا الحديث كله، سؤال التقدم على طريق الديمقراطية، والتشبث بعدم النكوص عنه.

كان يمكن أن تكون تونس منارة تؤشر إلى الطريق الذي يجب أن تحتذيه دول في المنطقة، وكان المأمول أن تقدم نموذجا للتقدم يقوم على الحرية والعدالة والمساواة والتسامح والقبول بالآخر، ينعتق فيه الشعب من كل صور الاضطهاد والكراهية والعنف، ومن العوز والفقر والظلم الاجتماعي.

ولكن رياح العرب لا تجري -عادة- بما تشتهي سفنهم الساعية للتقدم والحرية والديمقراطية، لنصحو على واقع مرير، يذخر بالصراعات على السلطة والتسلط ومحاولات التفرد بالحكم، بعد أن كانوا يرددون: «لقد هرمنا من أجل تلك اللحظة التاريخية»، حتى إذا جاءت بدا أن الجميع في تونس تواطأوا على «ياسمينتهم» وتركوها تذبل بين أيديهم وتحت سمعهم وبصرهم. وبكل أسف نستطيع القول اليوم: عفوًا الإجابة لم تعد تونس.

وتلك هي أول وأسوأ مفارقات الحالة التونسية منذ قيام الثورة حتى إجراءات الرئيس قيس سعيّد الاستثنائية التي بدأت في الخامس والعشرين من يوليو/تموز الماضي، والتي ألحق بها من جديد إجراءات تمعن في الاستثنائية يوم الإثنين الماضي.

**

من مفارقات الحالة التونسية -المحزنة أيضًا- أن الدستور الذي كان يعول عليه في تكريس الحالة الديمقراطية في تونس فشل في إدارة الحياة السياسية، وثبتت عدم كفاءته للقيام بهذا الدور، بل ربما ساهم في خلق رؤوس ثلاثة في النظام السياسي، ومن خلال الممارسة أثبتت التجربة أن الخلل الرئيسي في النظام السياسي الذي أقامه الدستور، ما يعني أن الحاجة إلى إعادة التأسيس صارت ملحة بل وواجبة.

هذا الوضع خلق مفارقة أخرى من مفارقات الحالة التونسية المفجعة: أن يقدم أستاذ القانون الدستوري (سواء بدافع رغبة في التفرد بالحكم، أم بواقع ما آلت إليه الأوضاع في البلاد) على أن يخرق الدستور، ويتحايل عليه، ويدعي في الوقت نفسه بأن إجراءاته اللادستورية تقع تحت عباءة الفصل 81 من الدستور، ولو أنه قرأه بعين دستورية لرأى رأي العين ضعف منطقه وهزال حجته.

**

والحق أن “قيس سعيّد” الأستاذ في القانون الدستوري كان يرى في النظام السياسي الذي ابتدعه دستور 2014 أنه عبارة عن «صحن تونسي» يصعب تصنيفه، لأنه “يأخذ من كل نظام سياسي بطرف”، وهو يردد اليوم ما قاله بالأمس، ففي خطابه الأخير وصف دستور 2014 بأنه جاء “لضرب الدولة من الداخل، ضرب مؤسسات الدولة، كل جزء من اختصاصات الدولة يعتقد أنه دولة داخل الدولة”.

وهو من لحظة إقرار الدستور، وربما قبل أن يفكر في الترشح للانتخابات الرئاسية كان يرى أن الاطراف السياسية لم تعمل على إقامة توازنات جدية بقدر محاولتها «افتكاك» صلاحيات معينة حسب ما يتوافق مع رؤاها السياسية، وقد انتهت هذه المحاولات إلى الإبقاء على بعض الصلاحيات لرئيس الجمهورية، بينما بقي مركز الثقل الحقيقي بيد الحكومة، وتبقي السلطة الحقيقية بيد البرلمان ورئيس الحكومة مما يجعله نظامًا هجينًا أقرب للنظام البرلماني.

وكان “سعيّد” يرى نقصًا في النص على حل بعض المسائل “بالتشاور بين رئيس الحكومة ورئيس الدولة”، مع إغفال النص على كيفية حل الإشكال إذا لم ينجح التشاور بين الطرفين، وكان دائم الإشارة إلى أن هذا الأمر سيكون له (إذا حصل تعارض بين الرئاستين) أثر سلبي على مؤسسات الدولة.

وكان أستاذ القانون الدستوري يرى أن الدستور يطرح إشكالًا حين فصل السياسة الخارجية والدفاع التي تم تضمينها في صلاحيات رئيس الجمهورية عن السياسات العامة للدولة التي ستكون بيد رئيس الحكومة، رغم التداخل الحادث بين هذه السياسات، وأنه لم يتضمن كيفية تقريب وجهات النظر بين الطرفين في تطبيق هذه السياسات المرتبطة ببعضها؟

وهي أمور واجهها كلها “قيس سعيّد” حين صار رئيسًا للجمهورية، وسط صراعات حزبية بائسة لم تلتفت إلى الأوضاع الاجتماعية التي يعاني منها الشعب التونسي، وبدا له أن النخبة الحاكمة صارت عبئًا على استمرار الدولة في أداء أدوارها على الوجه المفترض.

**

إجراءات الرئيس “قيس سعيّد” الجديدة بالإبقاء على تجميد البرلمان والاستحواذ على  السلطتين التنفيذية والتشريعية بين يديه يعني أنه ينوي المضي في طريقه رافضًا أي نقاش مع الأحزاب السياسية ومكونات المجتمع المدني، ويكاد يكون أغلق أبواب الحوار الوطني في خطابه الإثنين الماضي، في الوقت الذي راح يعزز فيه قبضته على السلطة، وانفراده بها، ورغم مشاعر القلق التي تنتاب حتى فصائل مؤيدة له، لم تتأثر شعبية الرئيس كثيرًا، وهو الذي لم يخفِ منذ البداية نزعته الشعبوية، وضيقه من التجربة البرلمانية الحزبية، وكان قد أعلن ذلك بكل صراحة في برنامجه الانتخابي الرئاسي، مما حشد له تأييدا شعبيا كاسحا لم يتوقعه هو نفسه.

**

يعترف ممثل حملة “مواطنون ضد الانقلاب” إنهم ليسوا ممن يعتقد بأن تونس قبل 25 يوليو كانت في جنة، هذا الاعتراف ربما يفسر السبب وراء أن إجراءات «قيس سعيّد» وجدت تأييدا شعبيا، واعتبر قطاع كبير من «التوانسة» أنّ إجراءات الرئيس جاءت استجابة لنداءاتهم بضرورة الإصلاح، بل رأى كثيرٌ منهم فيما يسميه بعض القوى السياسية انقلابًا عملا ثوريا وشعبيا بل ودستوريا أيضًا.

لكن المشكلة أن الأزمة التونسية أكثر تعقيدًا، وحتى لو سلمنا -جدلًا- بأن قرارات “سعيّد” يمكن أن تُصلح أحوال النظام السياسي، لكن المؤكد لدينا أن تونس تبقى في حاجة ماسة وملحة لإصلاحات كبيرة وشاملة، وتحتاج أكثر ما تحتاج إلى مناخ ديمقراطي يتضمن الحوار والتفاعل والتشاركية من أجل إصلاح المنظومة السياسية والقضائية وكل المنظومات الاقتصادية والاجتماعية المهترئة والتي فاقمت من أزمات تونس المالية والاقتصادية ووضعتها على حافة الإفلاس.

**

مشكلة الرئيس “قيس سعيّد” أنه يبدو واعيًا للمشاكل التي يعاني منها النظام التونسي، ويبدو مستوعبًا للآمال التي تعلقها أغلبية التونسيين في رقبته، ولكنه لا يبدو ممسكًا بمشروع سياسي وطني جامع، وقد جاءت إجراءاته التي تتحرك ببطء وبدون خطة واضحة لتضفي عليه صفة الحاكم الذي يسعى إلى الانفراد بالحكم، ويعصف بالأوضاع التي كان يمثلها «الشكل الديمقراطي» الذي كان قائما قبل قرارات 25 يوليو/تموز.

طالت الإجراءات الاستثنائية سنة أخرى فوق الشهور الستة الماضية، والمستقبل القريب مفتوح على كل الاحتمالات وسط انقسامات حادة حول تلك القرارات، إضافة إلى تركيز الرئيس على إصلاح الجانب السياسي وإهماله باقي المجالات خاصة الاقتصادية والمالية والاجتماعية الأمر الذي يجعل الشهور القليلة المقبلة حُبلى بالمجهول.

**

واحدة من مفارقات الحالة التونسية تتمثل في المصير الذي انتهت إليه تجربة حزب “النهضة”، وهي مفارقة تجعلنا نطرح أسئلة إجبارية على من يعنيهم الأمر: لماذا يخلق حكم “الإخوان” (بعد عام واحد في مصر، وعشر سنوات في تونس) كل هذا الغضب الشعبي تجاههم، وكل هذا الاستياء من حكمهم، بما يدفع الشعوب إلى القبول بأيّ مصير، مهما بدا سوداويا ومأساويا في سبيل الخلاص من حكمهم؟

أليس طبيعيًا أن يُساءل “الإخوان”، وأن يسألوا أنفسهم: لماذا يسهُل الانقلاب عليهم؟ بل لماذا تصبح الانقلابات عليهم عملا ثوريا، ويصبح حكم الفرد مطلبا شعبيا بعد تجربتهم القصيرة في الحكم.

حين تواتيهم الفرصة يسارع “الإخوان” في محاولات مستميتة وبئيسة لكي يقضموا أي بلد تمكنهم الظروف من التمكين فيه، لم يستوعبوا دروس انتكاستهم المستمرة على هذا المنهج، ولا وعت قياداتهم أنهم أضعف من أن يهضموا بلدًا في معدة التنظيم.

كان أمام إخوان تونس تجربة ما جرى لإخوانهم في مصر، ولكنهم ساروا على الدرب الذي لا نهاية له غير أن يُحذفوا من المعادلة، كان مفترضًا أنهم تعلموا من أخطاء الغير حتى لا يقعوا فيها، ويوفروا على أنفسهم أن يدفعوا أثمانًا باهظة دفعها غيرهم، لكن “الإخوان” لا يتعلمون حتى من تجاربهم، سواء القريبة الحالة بين أيديهم، أم البعيدة التي تلطخ تاريخهم.

وتلك مفارقة عجيبة، أن تقع الجماعة (تحت أي مسمى، سواء النهضة في تونس، أم الحرية والعدالة في مصر) في الأخطاء نفسها التي وقعت فيها من قبل، وأن تكرر الخطأ نفسه بنفس حذافيره، ومن دون أي استفادة من دروس التاريخ.

**

من أسوأ المفارقات التي تشترك فيها الحالة التونسية مع كل الأحوال العربية التي واكبتها في الثورة على الطغيان والظلم الاجتماعي والقهر السياسي، تتمثل في الضعف والتشرذم الذي يعتري القوى والتيارات السياسية الرئيسية التي أظهرت الوقائع بتفاصيل تكاد تكون متطابقة عجزها عن طرح البديل المقبول شعبيًا لأنظمة استبدادية يسود الفساد كل جنباتها.

لقد جرت في ربوع الوطن العربي على مدار العقود الست الماضية إجراءات ممنهجة لإصابة تيارات الأمة وقواها الحية بداء العقم السياسي، وتفكيك قدراتها على طرح بدائل للواقع المزرى والأحوال البائسة في شتى أقطار العرب.

واليوم نرى على الأرض المدى الذي نجحت فيه تلك السياسة التي ابتدعتها الأنظمة الديكتاتورية في إفساد الحياة السياسية، حتى أعلن موت السياسة في كثير من هذه البلدان، قبل أن تنفجر الشعوب في صرخة وجع، وندهة أمل عبر الانتفاضات الشعبية العارمة التي سميت ربيعًا عربيًا لم يقوى موسمه الأول على الاستمرار في وجه عواصف اجتاحته، ورياح خماسينيه انقضت عليه.

يبدو كأن الأقدار لم تكتب في مطوياتها أن تكتمل لنا صحوة، أو تمتد بنا الطرق إلى التقدم، أو تتعافى أمتنا من أشد الأمراض المتوطنة فتكا بها، تلك التي تصادر حاضرها، وتحاصر مستقبلها، وعلى رأسها جميعا فيروس الاستبداد، وسرطان الفساد.