تلاشت ثورة 25 يناير 2011م بأسرع مما يتوقع أخصب العقول قدرةً على الخيال. تلاشت وتركت خلفها أحلامًا لذيذة انقلبت كوابيس مُزعجة. وهي في ذلك لا تختلف عن كثير من الثورات، سواء في تاريخ مصر أو في تاريخ العالم.

كل ثورات مصر شهدت انتكاسات، وكل ثورات العالم كذلك. لكن بقي من هذه الثورات أنها: حددت ملامح المستقبل، وكانت نقطة بداية لتاريخ جديد، ثم كانت -حتى وهي تتلاشى- ترسل أضواءً لما بعدها من مراحل. بما في ذلك مراحل الانقلاب عليها من خارجها أو مراحل فشلها وتمزقها من داخلها.

صحيح أن ثورة 25 يناير 2011م لم تكن أكثر من ثمانية عشر يومًا، منها أربعة أيام كانت وليدة المصادفة المباغتة. ثم أربعة عشر يومًا تحت حماية الجيش. لكنها تظل أخطر لحظات عرفها تاريخ مصر على إطلاقه، وذلك من عدة زوايا:

– لم يسجل تاريخ مصر الحديث قبلها اجتماع هذه الحشود من المصريين.

– كذلك لم يسجل مثل هذا التوافق اللحظي المؤقت بين الشعب وحماة النظام (الجيش والأمريكان).

– كذلك لم يسجل مثل ذلك الانقسام الحاد داخل النظام بين حرس قديم متهالك وحرس جديد ليس له سند داخل الدولة ولا في صفوف الشعب.

– ثم هي استوعبت واستلهمت الروح التي تجمع بين كل ثورات المصريين. وفيها السؤالان الخالدان: ملكية مصر لمن؟ ثم حكمها لمن؟

– ومن ثم كانت سابقة -في تاريخنا الحديث- أن يخلع الشعب حاكمه ثم يحاكمه.

“أن يخلع الشعب حاكمه ثم يحاكمه” هذه هي الوديعة الكبرى التي أضافتها ثورة 25 يناير للتاريخ، فمن هذه الزاوية هي قيمة خالدة مضافة للزمن لا يمكن محوها من ذاكرته ولا من تكوينه ولامن ملامحه، ومن هذه الزاوية كذلك يستحيل على ما أعقبها أن يمحوها مهما بلغت موهبته وقدرته سواء في تشويهها معنويًا أو استئصالها ماديًا”.

هذه الفكرة الموجزة -أن يخلع الشعب حاكمه ثم يحاكمه- ستظل ترسل أنوارها وتلقي أضواءها على كل ما سيتلوها من حقب ومراحل تتوالى على مدار القرن الحادي والعشرين.

************************

كل ثورات المصريين مرهونة بنوع الطبقة الاجتماعية القائدة، ومدى نضج هذه الطبقة، وفقًا لما أحرزته من تطور اقتصادي وموقع اجتماعي، وما لديها من خبرات في القيادة والتنظيم والتفاوض والحوار والتوفيق بين مصالح الطبقات المختلفة.

مصر الحديثة قادتها -على التوالي- الطبقتان الارستقراطية ثم الوسطى.

– الأرستقراطية المصرية نشأت بإحسانات من محمد علي وسلالته، ولعبت على التناقضات بين الحكام والاستعمار والشعب. لم تملك فضائل الأرستقراطية الأوروبية عند المنشأ ولا عند الاضمحلال. فمثلما نشأت بقرارات خديوية تلاشت بعد مائة عام بقرارات جمهورية. ولم يكن ضباط يوليو 1952م في حاجة إلى أكثر من تحرك مباغت في ليلة صيف لإيداع الطبقة بكاملها في مستودعات التاريخ.

هذا بينما نشأت الأرستقراطيات الغربية في استقلال عن إحسانات الملوك، وتطورت مصالحها في صراع مع مطامح ومطامع الملوك، ففتح ذلك طريقًا طويلاً جدًا في بناء الديمقراطيات عبر قرون عديدة من مطلع الألفية الثانية حتى مطلع القرن الأخير منها. لعبت الأرستقراطيات الغربية -نبلاء وأشراف وإقطاع- دورًا تاريخيًا عظيمًا في وجه استبداد الحكام حتى وهم يحكمون بالحق الإلهي، فانتزعوا منهم البرلمانات والدساتير وحقوق الإنسان والحريات العامة وما يصونها من ضمانات.

– وما يُقال عن الأرستقراطية المصرية يقال مثله عن الطبقة الوسطى المصرية. فإذا كانت الأولى نشأت من إحسانات السلالة العلوية ثم دعم الاحتلال، فإن الثانية نشأت على مرحلتين: هما النصف الأول ثم النصف الثاني من القرن العشرين، واستفادت من كلا العهدين. لكنها بقيت تحت سقف الدولة سواء في العهد الملكي أو في العهد الجمهوري.

لم تنشأ الطبقة الوسطى المصرية -مثلما نشأت الأوروبية- من المبادرة الفردية والقطاع الخاص والتصنيع ونشأة المدن. لكنها نشأت في كنف الدولة وما أتاحته من تعليم وتوظيف بالدرجة الأولى.

************************

مثلما فشلت الأرستقراطية فأصبح الجيش هو الحل، كذلك أخفقت الطبقة الوسطى، فكان الجيش هو الحل. لقد كان الجيش وما يزال هو الحل لفشل الطبقتين معًا.

صورة هذا الفشل ترتسم إذا قرأنا المشهد في نقطتين على سبيل المثال:

– الأولى: كيف كانت مصر قبل مائة عام ثم كيف هي الآن؟

– الثانية: كيف كانت مصر قبل عشر سنوات ثم كيف هي الآن؟

************************

الجواب في مقال الأربعاء المقبل بإذن الله.