التطوير بالديون
(خلال آخر سنتين حصلت السكة الحديد على أكثر من 135.4 مليار جنيه قروض فهل شعر المواطن بتحسن الخدمة؟!)
عرضنا في المقالات السابقة لكيف بدأت خطة خصخصة السكك الحديدية وتحويل الهيئة إلى شركات والسماح لها بدخول شركات جديدة وشراكة مع القطاع الخاص، وعرضنا لبعض وقائع الفساد في الهيئة، وكذلك رؤية إصلاح السكة الحديد ومضمونها. ثم عرضنا لتعديل التشريعات المنظمة على طريق التفكيك والخصخصة وعرضنا لتكلفة خطة التطوير، وبحثنا عن الفئات التي تتحمل تكلفة التطوير. واتضح لنا بالبحث والتدقيق أن كل خطط التطوير السابقة والحالية تعتمد على الاستدانة ورفع تكلفة الخدمة ودخول القطاع الخاص كشريك. لذلك نركز في المقال الحالي على تأمل بعض الديون الخاصة بالتطوير لنعرف إلى أين تقود المديونية؟!!
البنك الدولي وتطوير السكك الحديدية
منذ عام 1982 طرح البنك الدولي رؤية عالمية لما سماه “إصلاح السكك الحديدية: دليل إصلاح أداء قطاع السكك الحديدية” وصدرت طبعته الثانية في سبتمبر 2017. ومن أهم ملامح خطة البنك الدولي الداعم للخصخصة، وأحد أكبر الدائنين للسكك الحديدية في مصر نجد الآتي:
عام 1982، خَلُص تقرير أولي شامل عن إقراض البنك الدولي لقطاع السكك الحديدية بعنوان “مشكلة السكك الحديدية” إلى الدور المهم الذي يمكن للسكك الحديدية أن تقوم به في قطاع النقل في كثير من البلدان. غير أن التقرير انتهى أيضاً إلى أنه خلال السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية أصبحت السكك الحديدية”.. إدارات عامة بطيئة الحركة، وتتطلب اليوم تغييراً هيكلياً واسع النطاق..”. وفي معظم الحالات كان التغيير بطيء الخطى، ويرجع ذلك جزئياَ إلى اللبس الناشئ عن تحديد أي الوظائف والمهام يجب إسناد إدارتها للدولة، وأيها يجب أن تسند للسكك الحديدية، كما يرجع إلى المفهوم غير الصحيح المترسخ في الأذهان، هو أن الاستثمار يمثل الحل الوحيد لجميع المشكلات.
وخلص التقرير إلى أنه ينبغي للحكومات: إزالة القيود المفروضة على وسائل النقل المنافسة، وفرض الضرائب المناسبة عليها، والحد من الدعم المالي المقدم للسكك الحديدية، وإعادة تنظيم الموظفين الحاليين بمنظومة السكك الحديدية، وتوظيف مهارات إدارية وتسويقية جديدة أكثر ملاءمة للعمليات التجارية، والتأكد من أن المشروعات الاستثمارية تهدف إلى تلبية احتياجات المستهلك المباشر أو متطلبات التشغيل، كي تؤتي ثمارها المنشودة. وانتهى التقرير إلى ضرورة أن يوجه البنك الدولي إقراضه لمنظومات السكك الحديدية التي تعتزم تحقيق تحول شامل على المستويين الإداري والتنظيمي. فقروض البنك ليست لوجه الله تعالي او لدعم التنمية وتطوير منظومة النقل لا سمح الله بل بهدف واضح محدد ومعلن وهو الخصخصة والمزيد من مشاركة القطاع الخاص ورفع أسعار الخدمات والتحول إلي شركات ربحية.
عام 1994، نشر البنك الدولي تقريراً عن إقراض البنك الموجه لقطاع السكك الحديدية، “تطور إقراض البنك الدولي لقطاع السكك الحديدية”. ودعماً للتحليل السابق، صدر تقريران آخران يهدفان إلى تحديد الإجراءات والأدوات المتاحة لإعادة الهيكلة – “تقنيات إعادة هيكلة السكك الحديدية” و”خيارات إعادة تشكيل السكك الحديدية”.
خطة “إجراءات داعمة” لإدراج التغييرات التشريعية والقانونية والإدارية اللازمة لتنفيذ إعادة الهيكلة المخطط لها. وتناول تقرير “خيارات إعادة تشكيل السكك الحديدية” الموضوعات المتعلقة بتفكيك الهيكل الذي ظل متجانسًا على مدى سنوات لمؤسسات السكك الحديدية، على سبيل المثال من خلال الاستعانة بمستأجرين يقومون بتشغيل الخدمة ويدفعون مقابل ذلك، أو مقابل فصل البنية التحتية – الاستعانة بجهة مستقلة لإدارة البنية التحتية على أن تدفع شركات التشغيل المشار إليها مقابل حق الاستفادة من ذلك.
وشهدت بداية التسعينيات ظهور قوتين إضافيتين تدعمان تغيير منظومات السكك الحديدية بقوة، الأولى هي توجيه المفوضية الأوروبية رقم 91/440 الذي مثَّل الخطوة الأولى في عملية طويلة تهدف إلى فصل البنية التحتية لمنظومة السكك الحديدية عن منظومة تشغيلها، ومطالبة جميع المشغلين بدفع رسوم استخدام غير تمييزية. واستهدفت المفوضية دك “حصون” السكك الحديدية، لفتح سبل المنافسة في سوق النقل، وفي منظومة السكك الحديدية بما يصب في صالحها في نهاية المطاف. ورغم سنوات كثيرة من مقاومة هذا التوجيه وما يترتب عليه، استطاعت المفوضية أن تدفع ببطء منظومات السكك الحديدية في البلدان التابعة للاتحاد الأوروبي إلى فصل البنية التحتية، وفتح المنافسة في أسواق الشحن ونقل البضائع ونقل الركاب لمسافات طويلة، وكذلك أسواق نقل الركاب في الضواحي والأقاليم.
وكانت القوة الرئيسية الثانية هي توسيع نطاق دور القطاع الخاص في خدمات السكك الحديدية. وفي مطلع التسعينيات، كانت السكك الحديدية للشحن في الولايات المتحدة وسكك حديد بلدان وسط المحيط الهادئ وكندا، هي السكك الحديدية الوحيدة التي يملكها ويديرها القطاع الخاص في الأمريكتين. وفي نهاية التسعينيات، أصبحت كبرى السكك الحديدية المخصصة لشحن ونقل البضائع في الأمريكتين تخضع للتشغيل بواسطة القطاع الخاص، أو عن طريق الخصخصة (مثل الشركة الوطنية الكندية) في بعض الأحيان، ولكن الشكل الأكثر شيوعاً كان عن طريق منح حقوق الامتياز (مثل الأرجنتين وشيلي والبرازيل والمكسيك وبيرو وبوليفيا وغواتيمالا)، كما منحت حقوق امتياز تشغيل السكك الحديدية في ضواحي الأرجنتين وريو دي جانيرو، ومترو الأنفاق في بوينس آيرس وريو دي جانيرو. وساند البنك الدولي عملية منح حقوق الامتياز المشار إليها، وذلك من خلال القروض الممنوحة لإصلاح الأصول المهملة لسنوات طويلة، والأهم من ذلك أن هذه القروض شكلت دعماً للقوى العاملة وإمكانية تكيفها مع المستجدات. وتم تطبيق النهج نفسه في الكثير من البلدان الأفريقية.
لذلك لعبت قروض البنك الدولي ورؤيته المنشورة والمعلنة دور رئيسي في تفكيك وخصخصة السكك الحديدة.
بعض نماذج لقروض السكك الحديدية
استطعنا حصر عدد من القروض التي حصلت عليها السكك الحديدية المصرية خلال عامي 2020- 2021 كنماذج فقط، ولا تشمل حصرًا شاملًا بكل قروض الهيئة ورصدنا منها:
- أكبر صفقة في تاريخ السكة الحديد، حيث تسلمت الهيئة الموافقة النهائية من بنك اكزيم المجرى على دخول القرض المقدم من البنك لتمويل شراء 1300 عربة، حيث يمول البنك المجرى بالاشتراك مع بنك اكزيم الروسي قيمة الصفقة بالكامل والمقدرة بـ1.165 مليار يورو (20.6 مليار جنيه) (اليوم السابع 15 أبريل 2020)
- بضمان وزارة المالية منح بنكا مصر والأهلي قرضًا بقيمة 3 مليارات جنيه بغرض تمويل مشروعاتها في مجال كهربة الإشارات وشراء قطع الغيار الخاصة بتطوير أسطول الجرارات، وغيرها من الاستثمارات الأخرى. (المال – 26 أبريل 2020).
- قرار رئيس جمهورية مصر العربية رقم 68 لسنة 2020 بالموافقة على اتفاقية تسهيل قرض بأجل بين الهيئة القومية لسكك حديد مصر وبنك كندار لتنمية الصادرات، وذلك بمبلغ 226 مليون يورو (4 مليارات جنيه). (الجريدة الرسمية -14 مايو 2020)
- القرار رقم 265 لسنة 2021 بشأن الموافقة على اتفاق تمويل تنموي بين جمهورية مصر العربية وبنك التنمية الأفريقي بشأن مشروع تحديث سكك حديد مصر 172 مليون دولار (2.7 مليار جنيه). (ايكونومست 1 يوليه 2020)
- قرار رئيس الجمهورية رقم 144 لسنة 2020 بالموافقة على اتفاق الهيئة القومية لسكك حديد مصر وبنك الاستثمار الأوروبي بشأن الدراسات التكميلية لتحديث خط طنطا – المنصورة- دمياط بقيمة 1.5 مليون يورو (26.5 مليون جنيه). (الجريدة الرسمية العدد 39 في 24 سبتمبر 2020)
- قرض من البنك الدولي بقيمة 440 مليون دولار (6.9 مليار جنيه) لدعم شبكة السكك الحديدية وتحديث أنظمة الإشارات وتحديث المسار بإجمالي 763 كيلومترا من شبكة السكك الحديدية المصرية البالغ طولها 5000 كيلومتر. (رويترز 7/3/2021)
- وافق مجلس النواب على قرار رئيس الجمهورية رقم 250 لسنة 2021 بشأن الموافقة على اتفاق تمويل تنموي بين جمهورية مصر العربية والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، بشأن مشروع التطوير والسلامة بسكك حديد مصر بـ430.03 مليون دولار (6.7 مليار جنيه).
- قرار رئيس جمهورية مصر العربية رقم 250 لسنة 2021 بشأن الموافقة على اتفاق قرض بين جمهورية مصر العربية والبنك الدولي لإعادة الإعمار والتنمية بشأن مشروع التطوير والسلامة بسكك حديد مصر بمبلغ 362 مليون و900 ألف يورو (6.4 مليار جنيه).
- خاطبت الهيئة القومية لسكك حديد مصر، عدد من البنوك المحلية، بغرض تدبير قرض بقيمة تصل 15 مليار جنيه، لمقابلة نفاقاتها الاستثمارية في مجال كهربة الإشارات وشراء قطع الغيار الخاصة بتطوير أسطول الجرارات، وغيرها من الاستثمارات الأخرى. (أموال الغد 25 سبتمبر 2021)
- تنفذ هيئة السكة الحديد حاليا عدد 5 مشروعات تحديث نظم الإشارات بخطوط السكة الحديد الـ 14 بتكلفة 9.8 مليار جنيه. (اليوم السابع 19 أكتوبر 2021)
- قرار الرئيس عبد الفتاح السيسي، رقم 265 لسنة 2021 بالموافقة على اتفاق قرض بين جمهورية مصر العربية وبنك التنمية الإفريقي بشأن مشروع تحديث سكك حديد مصر بمبلغ يتجاوز 145 مليون يورو (2.6 مليار جنيه). (الشروق – 18 نوفمبر2021)
- قرار رئيس الجمهورية رقم 364 لسنة 2021، بشأن الموافقة على الاتفاق بين الحكومة المصرية والحكومة الفرنسية ويهدف الاتفاق إلى اتخاذ إجراءات تعاون بين الطرفين في مجال النقل بالسكك الحديدية، والنقل الحضري، والطاقة، ومعالجة المياه، والأغذية الزراعية، فضلا عن تطوير هذه المشاريع لتسهيل نقل التكنولوجيا، بالإضافة إلى التطوير المهني للعمالة الماهرة وغير الماهرة، وذلك بقروض يبلغ إجماليها نحو مليار و764 مليون يورو (31.2 مليار جنيه). (أخبار اليوم 18 أكتوبر 2021)
بذلك يكون إجمالي القروض التي حصلت عليها مصر لتطوير السكك الحديدية خلال آخر سنتين والتي تم حصرها فقط تزيد على 135.4 مليار جنيه بخلاف باقي القروض لمترو الأنفاق والقطار الكهربائي وباقي مشروعات الطرق والنقل، وهو ما يمثل عبئًا كبيرًا على الجيل الحالي والأجيال القادمة. فهل شعر المواطن بتحسن جاد وحقيقي في خدمة النقل بالقطارات؟! ولماذا تتراجع أعداد مستخدمي القطارات في التنقل؟!
إذًا تعتمد خطة التطوير على القروض المحلية والخارجية من ناحية وعلى الاستعانة بالقطاع الخاص والتوجه إليه من خلال اتفاقيات الشراكة بين القطاعين العام والخاص وحقوق الامتياز تنفيذاً لتوصيات البنك الدولي، إذ تسمح التعديلات التي أدخلت على القانون الخاص بإنشاء الهيئة القومية لسكك حديد مصر، وأقرها البرلمان في مارس 2018 للهيئة بالتعاقد مع شركات القطاع الخاص لإنشاء وإدارة وتشغيل صيانة مرافق السكك الحديدية. وعلى المواطن المستخدم للسكك الحديدية تحمل تكلفة القروض والهدف الربحي للقطاع الخاص بغض النظر عن دخله وبما يخفض من أعداد مستخدمي السكك الحديدية فحتي الآن. وفي نهاية ديسمبر 2021 لا يزال هناك تأخيرات على جميع الخطوط ولازالت الحوادث المتكررة. وبالتالي يتحمل المواطن المصري تكلفة ما يسمى بإصلاح السكة الحديد، والذي يمثل عببئًا على الجيل الحالي والأجيال القادمة.