من المستحسن أن يتقدم القارئ ببطء في رواية “إفلات الأصابع“، فمع كل فقرة جديدة يبرز: حدس، تأويل، روابط، معارف، فلسفات، وخبرات متباينة، ولذلك فعلى القارئ أن يتمهل في الانتقال من فقرة إلى أخرى.
نزل بحر وسيف المنحدر الترابي خارجين من القرية الخالية. وبدأ بحر يحكي لسيف، للمرة الأولى، شيئًا عن ماضيه: “زرنا جدتي.. أنا وأبي وأمي، أقصد أننا زرنا قبرها، أقصد أنه مدفن العائلة كلها.. وسمعت للمرة الأولى حكاية (تنظيف المقبرة).. حين تزدحم (المقبرة) بالعظام كل حين، يتم جمع تلك العظام ودفنها بعيدًا في الجبل. وأصابني الذهول، فلمَ المقبرة وبناؤها وحراستها والدفن والكفن إذا؟.. هكذا أعجبتني، حين كبرت، فكرة حرق الجسد ونثر رماده. وتذكر سيف حكاية قديمة عن الموتى إذ يغادرون بعد رحيل الزوار ويجلسون مستندين إلى شواهد قبورهم ويتحدثون”.
هذه الجمل الكثيفة عن الموتي والمقابر والدفن والعظام تبرز مجددا انشغال النص بالموت والمواقف المتباينة لشخصياته منه، ما قد يستدعي، كحدس، مقاربة بعض أفكار هايدجر، كما طرحها كْلاوْس هيلْد في مقاله “العالم والأشياء: قراءة لفلسفة مارتن هايدجر” (ترجمه عن الألمانية: إسماعيل المتصدق)، فهو يستخلص من أفكار هايدجر واقع “إنّ وجودنا في كليته، مهدد من قبل إمكانية العدم. فضمن الإمكانيات التي هي أمامنا، هناك دائما إمكانية قصوى أيضا: الموت؛ وهي إمكانية قصوى، لأنـها تهدد بأن تجعل كل الإمكانيات الأخرى غير ممكنة، وبـهذه الكيفية تجعلنا نستشعر أن وجودنا في كليته هو كون- ممكن. إن الخطر الدائم الذي يـمثله الموت قـد يمكن أن ينبهنا إلى أن نستجمع أنفسنا من التشتت في الوضعيات الكثيرة لحياتنا، إلا أننا نتهرب من أن نواجه تعرضنا للموت بسكينة وثبات، ولـهذا فإننا نسقط في الوضعيات، أي نستسلم لـها كما يستسلم مدمـن على المخدرات أو الكحول للجرعة أو الزجاجة التالية التي يحتاج إليها فـي هذه اللحظة بالذات”.
هذا الحدس يتعزز بوضع الفقرتين التاليتين، إحدهما بإزاء الأخرى: يلخص بحر موقفه تجاه مسألة الموت و”تنظيف المقبرة”، بقوله: “وعرفت أن خلايا الجسد والأعضاء تتجدد كلها، وأنني الآن لست ذلك الطفل المندهش في المقبرة ولا المراهق الخجول في المدرسة ولا المغامر على حافة الموت في شبابي، وأن نظارتي الحمراء تلك التي بقيت معي منذ 20 عاما أقدم من أي من أعضاء جسدي، وهي تنتمي إلىّ بأكثر مما ينتمي أنفي أو قدمي”.
ويستخلص هيلْد من أطروحات هايدجر أنه “لا يمكن أن ينوب عني في موتي أي أحد، فهنا أكون أنا هو أنا ذاتي، بحيث لا يمكن أن يعوضني أحد. كل ما هو غريب يسقط عني لكي يبرز ما هو خاص بي، ما هو أصيل في ولا يمكن استبداله، وحين لا أهرب مما هو خاص بي، أي بما هو أصيل فيّ، من كوني أنا ذاتي، يصبح وجودي “أصيلا”. مع العزم، أي مع الجرأة على القلق تتحقق “أصالتي”. إن ما يعوق الإنسان في حياته اليومية عن أن ينفتح، بكيفية معبر عنها، للعالم كبعد قبل- موضوعي للظهور هو انعدام الأصالة، الزيف أو السقوط”.
****************
يحكي بحر ويتذكر سيف، كأن بحر أداة سحرية تظهر إلى السطح ما هو مخفي، مطمور من حياة سيف. يتذكر سيف علياء، ويضع علامة زمنية تبدو دالة على لقاء بينهما “كنا نجلس في شرفة مطعم لم يبد أنه سمع عمت يجري في البلاد”، لا يوضح شيئًا لكشف تلك الصيغة المبهمة، لكن القارئ يستشعر أن حدثًا جللاً قد وقع، وأنه غريب أن يكون هناك مكان لا يستشعر ذلك.
يرسم سيف ملامح شخصية ونفسية لعلياء، ويقدم معلومات عن سيرة حياتها تظهرها متفردة، تمتلك مواهب ومهارات تكاد تنتمي إلى الأساطير. ويظهر نفسه إزاء تفردها هذا وكأنه في موقف ضعف “وفي تعرفي المنبهر على تلك العجائب، وربما بسبب تعرفي على ذلك العالم المسحور، لم أستطع أن أحكي لعلياء عما كنت أواجه في تلك الأيام”.
ثم يفصّل سيف في ذكر واقع “مخجل”، واقع الصحافة، والسياسة، وواقعه الشخصي، فهو إذا كان يتوقع أن يستدعيه رئيس تحرير المجلة لكي يوقع على عقد تعيينه، يتفاجأ بالمدير يخبره “سيكتب كل صحفي في المجلة كلمة إلى الرئيس في عيد ميلاده.. وأنتظر منك يا سيف، من موهبتك الكبيرة، أن تكون أجمل زهرة في ملف الوفاء وتحمل المسئولية؟”.
*************
يواصل بحر الحكي، وسيف يستمع، ولا يعلق إلا نادرًا. كانا ينتظران الطبيب أشرف (غالبًا، هو طبيب مستشفى العلايلي فنحن كقراء لا نعرف من الرواية طبيبًا سواه)، ويذكر سيف ملمحًا دالاً على طبيعة المقابلة المنتظرة “لم نكن جالسين في عيادة بل في كافيتريا محطة بنزين على طريق سريع في مدخل القاهرة، هكذا أصر الرجل الخائف كما قال بحر). وحينها بادره: “الكرامة أثقل ما في الإنسان. وزنها، الكرامة، حوالي 80 كيلوجرامًا أو أقل قليلا”.
ويخبره عن الحقيقة الأولى عن الخارجين من حبس السياسة: “بعد أحضان الأهل الأولى يتبخر الفخر سريعًا ولا يبقى سوى اللوم الصامت على أوقات الفزع التي تحملوها من جراء فعلك”.
هذه اللوحة “تمثل الخير الروماني Roman Charity. وهي قصة رومانية، تتعلق بامرأة تُدعى “بيرو” كانت تُرضع سرا والدها “سيمون” في السجن بعدما حُكم عليه بالإعدام جوعاً. والقصة مسجلة في كتاب (9 كتب من الأقوال والأفعال التي لا تنسى)، للمؤرخ الروماني فاليريوس ماكسيموس (عاش في القرن الأول الميلادي). وقد رسم اللوحة الفنان الفرنسي جول جوزيف لوفيفر (1836- 1911)، وهي من ضمن مقتنيات متحف “مركز مولان الوطني”، في مدينة بوردو، جنوبي فرنسا، ومولان؛ الذي يحمل المتحف اسمه، هو جان مولان (1899- 1943) أحد قادة المقاومة الفرنسية للاحتلال النازي لفرنسا، أما موضوع “الخير الروماني” فقد ذكره المؤرخ الروماني بليني الأكبر (23-79)، الذي ركز على تفسير “معنى” إرضاع الابنة لوالدها في ظل مثل تلك الظروف، التي قد تناقض “القيم”، معتبرا أن فعل الابنة وفاء بحق الأبوة، والحق في الحياة، معا، بعد ذلك، لاحظ المؤرخون أن عصر النهضة الرومانية شهد انفتاحا كبيرا حيث كان يتم تصوير المحارم دون رقابة أو خجل. وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر، صوَّر العديد من الفنانين الأوروبيين المشهد، من بينهم الهولندي بيتر بول روبنز (1577- 1640) الذي وصف القصة بالرائعة فرسم من خلالها العديد من الإصدارات التي تُجسد الفتاة، ونفس الأمر قام به الفنان الإيطالي كارافاجيو عام 1606 عندما ضَمَّنَ لوحة تجسد قصة الخير الروماني في لوحاته الشهيرة التي عُرفت باسم سبعة أعمال للرحمة. أما اللوحات الكلاسيكية الجديدة والحديثة، التي تستلهم القصة، فتميل إلى أن تكون أكثر هدوءا وتحاول عدم إبراز ثدي الفتاة. في القرن العشرين، استلهم الروائي الأمريكي جون شتاينبك القصة، ضمن روايته الشهيرة “عناقيد الغضب” التي صدرت عام 1939
ما دفع (بحر) إلى حبس السياسة علاقة “حب” فاشلة أخرى تضاف أغيرها من العلاقات الفاشلة والمبتروة التي تعرفنا عليها، علاقة فشلت حتى قبل أن تصل إلى العتبة الأولى: البوح، أو التلميح، وهو فشل يضاف إلى: فشل (أحمد) حتى في التوصل لخطيبة مرشحة، وكارثية نهاية زفاف (على)، والعلاقة الملتبسة (بالنسبة لنا حتى الآن) بين سيف وليلى، والعلاقة التى لا تزال مفتوحة بين سيف وعلياء.
دخل بحر حبس السياسة من باب سها، فتاة كانت تعجبه ولم يجرؤ على أن يكلمها قط “والواقع أن ما أعجبني حقا كان ساقيها”، رأي بحر سها في صفوف المظاهرة الأولى.
ساقا سها قادته إلى حبس السياسة، لكنها قادته قبل ذلك إلى عالم عرف فيه تصنيفه كأحد محبي الأقدام الأنثوية. ويشرح مفهومه عن “أخوة الميول الجنسية”: “لا الأبراج ولا الأعراق ولا الجغرافيا تمثل التنوعات الصحيحة للبشر، بل الخريطة غير المكتوبة للميول الجنسية”.
هكذا قادت ساقا سها (بحر) إلى المشاركة في مظاهرة، قادته بدورها إلى الحبس، وهناك اكتشف مسألة وزن كرامة الإنسان: “تركونا عراة أو نصف عراة وأنامونا على بطوننا.. ثم جاء الضابط ووضع حذاءه فوق رقبتي ووقف بكل ثقله فوقي فانغرس وجهي في التراب الطيني.. هذا الثقل فوق رقبتي ليس وزن الضابط تشده الجاذبية وتطحنني بينهما، هذا وزن كرامتي الغضة تجسدت في وزنه السبعيني الثمانيني، كرامتي غير المستهلكة بعد.. ثم ألهمتني الرائحة الكريهة في المكان شيء آخر: المرحاض لا يصير شرفة.. هكذا، تحت هذا الإلهام الذي جاءني تحت حذاء الضابط، قررت إن عشت، إن خرجتُ من هناك، أن أغادر المرحاض، أن أتركه إلى بلاد آخرى..مجنون من يحلم بتحويل المرحاض إلى شرفة، مجنون أكثر من يحاول”.
**********
في جزئين: شحاذون ونبلاء، احترس زهور، أجواء فانتازيا، ممزوجة بسمات كفاكاوية، وظلال واقعية مما فعلته محاولات الأثرياء والحكومة في محاولة “إعادة التأهيل”.
أعادوا منطقة كما كانت في الزمن القديم، قطعة من أوروبا.. مما أبعد تلقائيا رواد الطبقة الوسطى الذين هيمنوا عليها في زمن انحدارها.. دمعت عينا أحد الأثرياء من ممولي إعادة التأهيل، وهو يرى الحيّ العظيم يعود إلى ألقه.. ولكن أحد المسؤولين الذين انضموا حديثا إلى الحكومة، وكان عائدا لتوه من برلين، لنقص فادح: الافتقار إلى أهم ما يميز شوارع أوروبا: فنانو الميادين. صدر تكليف سري، وبدأ هؤلاء الشحاذون المهرة الموهوهبون عملهم. ويما تعرض عازف كمان رائع لمشكلة بسيطة: نظر موظف الحي في بطقة تعريفه وطلب بطاقته الشخصية.. وقال: صورة من هذه؟، زملاء العازف انكروه جميعا..قال الموظف: لا تعد إلى العمل قبل أن تحصل على صورة تشبهك.
قبل أن يذهب بنا الراوي (سيف) إلى مسألة الزهور، يمدنا بالمزيد عن عجائب علياء، التي لم تتوقف عند أصوات الكون التي تسكن حنجرتها: تشعر بالبرد فينتقل إلى سيف، بالإيحاء، ذلك الشعور، “تسألني: هل ستمطر؟.. وما إن جلسنا نأكل حتى سمعنا طرقات القطرات على زجاج النوافذ”، تكرر “بعصبية: لنخرج- من مقهى- وحال خروجهما تندلع مشاجرة هائلة”.
********
وتستوجب فقرتان مكثفتان للغاية، تتناولان علياء، العودة إلى فرويد، وإلى ناقديه، وتلاميذه سواء منهم الذين طوروا، أوعارضوا، أطروحاته.
ينقل لنا سيف رد علياء على تعليقاته على مثل تلك الوقائع: “كنت أقول لها أن مثل هذه الحوادث لن تحدث معي أو لن تفاجئني على الأقل ما دامت معي..فتضحك وتقول إنني أجعل الأمر يبدو كالسحر فأقول لها وماذا يمكن أن يكون غير ذلك”. ويزيد من توضيح روددها على تعليقاته، تقول أنها: “صادف أنها لم تتغير كما تغيّر البشر بعد أن ارتكبوا جريمة الحضارة، ما زال جسدها كجسد أجداد “ما قبل التاريخ”- يا لوقاحة المصطلح، تقول- يشعر بما ينبغي أن يشعر به كل جسد: الخطر، كي يتفاداه، والسعادة، كي يتهيأ لها، فلا يفسدها”. لم تكن تقرب غالبا سوى الثمار والخضروات “قلت لها إن إنسان الكهوف والغابات لم يكن يجد غضاضة في الافتراس، فتقول: ذاك كان الرجل، كان متوحشا وسيظل، أما جداتي النساء فكنّ يجمعن ويلتقطن الثمار من مائدة الطبيعة الكريمة”. وكانت علياء تبدو في ملابس متهدلة دومًا من قمصان رجالية واسعة.
اعتمد فرويد في أطروحاته (الطوطم والتابو، عقدة أوديب) على المادة الإثنولوجية المنجزة في القرن التاسع عشر، وكثيرا ما هُوجِم بشدة ورُفِض من جانب الإثنولوجيين، وعلى الوجه الأخص فإن ممثلي الأنثروبولوجيا الوظيفية يرون أن عقدة أوديب لم تكن عالمية شاملة. وعلى وجه الخصوص رصدهم أنها لم تكن موجودة في الثقافات ذات المرجع الأمومي. وقد كان مالينوفسكي- العالم الإثنولوجي البولندي الأصل- أكثر من وجَّه النقد له. فعقدة أوديب (بحسب فرويد) تفترض العداء بين الابن والأب، بينما في المجموعات البدائية التي تعيش على أساس النسب الأموي يجد مالينوفسكي عداء الأبناء موجهًا إلى الخال، ففي هذه المجتمعات يصبح الخال الأب الاجتماعي. وبعبارة أخرى فإن العداء يكون موجهًا إلى الأب البيولوجي أو الاجتماعي، ومن ثم تسقط أسس نظرية فرويد؛ لأن العداء عند فرويد مرتبط بالجنس، ولا توجد مثل هذه العلاقة بين الأم والخال.
ويبحث بول. أ. روبنسون في كتابه “اليسار الفرويدي” (ترجمة: عبده الريس، وتقديم إبراهيم فتحي) تقليدًا خاصًا في تاريخ التحليل النفسي، ويقدم تعريفًا بمدرسة التفسير التي يطلق عليها “التقليد الراديكالي” من خلال تحليل ثلاثة هم أكثر ممثليها أهمية: فلهلم رايش، وجيزا روهايم، وهربرت ماركيوز.
ويلفت، روبنسون، إلى أن رايش أكد أن هناك نمطين أساسيين من الأسرة: النظام الأمومي المتسامح، والنظام الأبوي السلطوي. ولذلك فلم يوجد سوى بنيتين اثنتين للشخصية، تمتلكان أهمية تاريخية، الشخصية المتعلقة بالأعضاء التناسلية للمجتمع الأمومي القادرة على تقرير حقيقي لمصير الذات، والشخصية العصابية للمجتمع الأبوي التي كان موقفها السياسي الرئيسي هو الخضوع”، وأن النظام الأمومي كان التنظيم الأسري “لأي مجتمع طبيعي”.
أما روهايم فقد أدخل تحولا متميزا على فرضية فرويد، يتمثل في اقتراحه بأن الحيوان المستهلك في وجبة الطوطم لم يكن ممثلا للأب إلا على نحو ثانوي، فعند مستوى أكثر أساسية- المستوى الخاص بالعمليات النفسية الأولية- كان الطوطم يمثل الأم، وأكل الحيوان يمثل إزاحة أعلى لمضاجعة الأم.
أما عن أصل السحر، فقد جعل، روهايم، علاقة الأم بالطفل محورًا لنظريته؛ فقد شرح في مقال له نُشر بعد وفاته بعنوان “أصل السحر ووظيفته” كيف انبعث المبدأ السحري الأصلي والثابت من الأفكار القوية المسيطرة لدى الرضيع الذي تُشبع رغباته المعبِّرة الكلامية وما قبل الكلامية من خلال تجاوب الأم؛ وعلى هذا النحو يمكن تفسير التعاويذ. وقد خرج، روهايم، عن قالب النموذج التطوري؛ وبالتالي ابتعد عن رؤية فرويد، ورأى أن السحر قوة نفسية تحررية، وأنه ليس امتدادًا للبدائية، وإنما عنصر أساسي من عناصر الفكر و”المرحلة المبدئية لأي نشاط”.
*******
ثم يخبرنا سيف: “استيقظت، علياء، في منتصف ليلة، وايقظني صوتها مرعوبّا وهي تردد: شيء سيحدث، شيء سيئ سيحدث.. “أي حلم؟” قالت مستنكرة: لم أحلم بشيء، ما شأن الأحلام بالمستقبل؟ أتؤمن بهذه التخاريف؟..ليست نبوءات بل إحساس، وهو لم يكذب عليّ قط”.