في خطوات متلاحقة يسعى صندوق مصر السيادي لاتخاذ إجراءات محددة حيال مجمع التحرير، أطلق البعض عنها أن الصندوق يريد بيع المبنى، وآخرون قالوا إن الأمر مجرد محاولة لاستغلال المبنى بشكل استثماري، ومجمع التحرير ذلك المبنى العملاق الذي يقع في ميدان التحرير أكثر ميادين القاهرة شهرة منذ زمن بعيد، فقد سبق وأن اعتصم به المتظاهرون عام 1972 احتجاجاً على اعتقال مجموعة كبيرة من الطلاب السياسيين، وكتب الشاعر الكبير أمل دنقل عن ذلك أغنية الكعكة الحجرية، ثم كانت شهرة الميدان الكبرى لاحتضانه متظاهري ثورة الخامس من عشرين من يناير لسنة 2011، وبحسب ما تم نشره في العديد من المواقع الإخبارية والصحفية والمنصات الإلكترونية فإن صندوق مصر السيادي الذي آلت إليه ملكية مجمع التحرير مؤخراً، نفي وجود نية أو سعي لبيع ذلك المبنى العملاق، ولكنه وبحسب ما نشره موقع الوطن يسعى إلى تطوير المبنى وذلك بهدف جعله أكثر رواجاً.

ولكن كيف آلت ملكية ذلك المبنى للصندوق السيادي، إذ أن ذلك المبنى في حقيقته يعد من الأملاك العامة للدولة، وبالتالي فهو ملك جموع المصريين بحسب الدستور المصري، ويمثل جزءًا من الثروات العامة والطبيعية، ولكن لعدم وجود نظام قانوني يفصل في حدود الأموال المملوكة للدولة ملكية عامة، أو الأموال الملوكة لها ملكية خاصة، وهي ما يجوز للدولة التصرف فيها، وذلك لتسيير أمور الدولة، أو لأي أغراض أخرى تراها الدولة نافعة، وكذلك أيضاً لعدم وجود ما يجعل هناك سبلا لمراقبة تحويل الأموال العامة إلى أموال مملوكة للدولة ملكية خاصة، فقد صدر قرار رئيس الجمهورية رقم 459 لسنة 2020، والذي تم نشره بالوقائع المصرية في العدد رقم 33 مكرر “ح” بتاريخ 19 أغسطس سنة 2020، والذي تضمن زوال صفة النفع العام عن مجموعة من الأملاك العامة للدولة، وتحويلها بالتالي إلى أموال مملوكة ملكية خاصة للدولة، ثم تم نقل تلك العقارات لصالح صندوق مصر، وكان من بين تلك العقارات التي اشتملها ذلك القرار مجمع التحرير، وذلك وفق ما جاء بالمادة الثانية من هذا القرار الجمهوري، وهكذا تم تحويل ملكية مجمع التحرير وفق نصوص قانونية إلى صندوق مصر.

إذن تبقى المشكلة الأساسية مع النصوص القانونية، وذلك بشكل مبدئي، فكيف لها أن تسمح دونما أي رقابة للسلطة التنفيذية أن تقوم بنقل أو تحويل ذلك العقار أو غيره من ملكية عامة أو ذات نفع عام إلى ملكية خاصة للدولة بما يمكنها في ذات القرار بنقل مليكتها إلى صندوق مصر السيادي، إنه الخلل التشريعي الذي يجعل السلطة التنفيذية متحكمة في مسارات عديدة من الحياة بشكل أوسع، وبشكل أخص بما يتناسب مع المال العام الذي نتحدث عنه، فللأسف لا يوجد نص قانوني أو دستوري يمنع السلطة التنفيذية من ممارسة تلك التصرفات، أو يحد من مقدرتها على التصرف في المال العام، ونزع صفة النفع العام عنه وقتما تريد، وتحويله بالتالي إلى مال خاص للدولة، دون حتى عرض على مجلس النواب أو الشيوخ ولو من قبيل استطلاع الرأي وأخذ المشورة، وقبل أن نطالب بمراجعة للتشريعات ووضع حدود قانونية لتصرفات السلطة التنفيذية في المال العام، سيبقى أمر الرقابة البرلمانية غير المفعلة على تصرفات السلطة التنفيذية، حيث تعد الرقابة على المال العام والمساءلة عن كيفية إنفاقه أو التصرفات التي ترد عليه أحد أهم الأسس التي تقوم عليه النظم الديمقراطية، فالمساءلة وإطلاع الرأي العام على كيفية استعمال الدولة أو تصرفات وحداتها على المال العام يمثل قيمة من القيم الحقوقية للمجتمع وللفرد، فالرقابة من قبل المجلس النيابي تمثل الوظيفة التي تسعى بها للتأكد من سلامة تنفيذ آليات المحافظة على المال العام وحسن إدارته وعدم تبديد تلك الثروات التي تشاركنا فيها الأجيال المقبلة، ونجاح الرقابة البرلمانية رهن بتوافر الإطار القانوني اللازم لتفعيل قدرته، ورهن الإمكانيات المادية والبشرية التي يجب أن تكون طوع يد النواب حينما يفعلون وظيفتهم في المراقبة على تصرفات السلطة التنفيذية، ومما لا شك فيه أن جدية تلك الرقابة البرلمانية يتوقف بشكل رئيسي على كيفية تشكيل البرلمان ومدى وجود قوى معارضة داخله، ومدى وجود تكتلات حزبية، ولا تتفعل تلك الرقابة بشكل جيد حينما يكون أعضاء البرلمان موالون للسلطة التنفيذية الحاكمة، إذ على الرغم من كون الرقابة على تصرفات السلطة التنفيذية هي الوظيفة الثانية لأعضاء المجلس النيابي، والتي لا تقل قيمتها عن الوظيفة الأولى وهي التشريع.

لكن كيف تتكون تلك الرقابة على تصرفات السلطة على المال العام والبرلمان ذاته هو الذي أقر قانون صندوق مصر أو الصندوق السيادي، وأقر تعديلاته التي كان أهمها ما تم استحدثه بموجب القانون رقم 197 لسنة 2017 المعدل لقانون الصندوق السيادي، والذي منح الصندوق سلطة سيادية مترامية الأطراف، إذ منع الطعن على التصرفات التي يجريها الصندوق أو تعاقداته، والواقع العملي المترتب على هذا التعديل التشريعي هو ألا ترفع الدعاوى ببطلان العقود التي يبرمها الصندوق أو التصرفات التي يتخذها لتحقيق أهدافه، أو الإجراءات التي اتخذت استنادًا لتلك العقود أو التصرفات إلا من أطراف التعاقد، دون غيرهم، وذلك ما لم يكن قد صدر حكم بات بإدانة أحد أطراف التعاقد أو التصرف في إحدى الجرائم المنصوص عليها في البابين الثالث والرابع من الكتاب الثاني من قانون العقوبات، وكان العقد أو التصرف قد تم إبرامه بناءً على تلك الجريمة.

إذن تبدو المشكلة في النصوص القانونية بشكل رئيسي على الرغم من كون الدستور المصر قد أكد على حماية المال العام، وصون الملكيات الثلاثة، لكن تظل المشكلة قائمة حال عدم وجود نصوص قاطعة الدلالة في إطار أو حدود ومكنة السلطة التنفيذية في امر المال العام. أو تضع الحدود الفاصلة فيما يجوز للسلطة التنفيذية أن تقوم بنزع صفة النفع العام عنه وتحويله بالتبيعة إلى مال خاص للدولة، وكذلك التصرفات الجائز حدوثها في تلك الأحوال.

وبشكل عام لابد من التنويه إلى أن الصناديق الخاصة أو الاستثمارية إنما وضعت بشكل أساسي لاستثمار الفائض من الأموال في ميزانية الدولة وتنميتها، ولم توضع لاستنزاف المال العام، بل للحفاظ عليه وتطويره وتنميته.