على غير الصورة النمطية التي قدمتها لنا المكتبة الغربية قامت حواء الأفريقية بدور بارز في تطور مجتمعاتها من خلال إبراز مهارتها السياسية ورؤيتها الاجتماعية. قد تبدو صورة المجتمع الذكوري الذي يحكمه الرجال هي المهيمنة على غالب التاريخ المكتوب أو المحكي في أفريقيا إلا أن النساء تمكن من غزو الفضاء العام والقيام بأدوار قيادية بما في ذلك الوصول إلى قمة الهرم السياسي. وحتى في الفضاء الخاص لها كزوجة وأم في مجتمع يؤمن بتعدد الزوجات كانت تمثل ركن هذا الفضاء الركين. اتخذت حواء في هذا المجال صفات ثلاث، فهي “ست الدار” إذا كانت هي الزوجة الأولى، بيدها مقاليد كل شيء يتصل بتدبير أمور البيت. وهي “أم الأرض”، إذا كانت الزوجة الثانية حيث تذهب للجمع والحصد وتأتي لأسرتها بما تجود به الطبيعة من خيرات. أما الزوجة الثالثة فهي “أم النار” حيث كان يقع على عاتقها إعداد الطعام وطهوه لجميع أفراد الأسرة. ولعل هذه الصورة تختلف تماما عما كانت تعانيه المرأة الأوروبية من تهميش واضطهاد وصل حد إنكار أن لها روحا إنسانية مثل الرجل وذلك طوال فترة العصور الوسطى. تبعا لمعجزة الغرب في اليونان القديمة. ألم تُحرم النساء في الديموقراطية الأثينية من ممارسة حقوقهن السياسية شأنهن شأن العبيد والأطفال؟!

اليونسكو ونساء أفريقيا الخالدات

وقد قامت اليونسكو بتقديم نموذج عملي يصلح لأن يكون جزءا من منهج دراسي وتعليمي لطلاب المدارس من خلال إلقاء الضوء على دور المرأة الأفريقية في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. نجد في أقصى الشمال الغربي في المغرب أواخر القرن الخامس عشر السيدة الحرة ابنة أمير شفشاون على ابن راشد وأميرة تطوان المغربية. ومما يدعو إلى التأمل والاستغراب أن التاريخ الأفريقي شهد جيشا كاملا من النساء في مملكة داهومي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. غالبًا ما يتم تجنيدهن في سن المراهقة، حيث تعيش المجندات في القصر الملكي، معزولات عن المجتمع. تم تكريس حياتهم للتدريب على الأسلحة وخوض حروب الفتح وحماية الملك.

بحلول نهاية القرن التاسع عشر، أمكن حشد أربعة آلاف مقاتلة في أوقات الحرب والصدام. تم تقسيمهن إلى وحدات مختلفة، كل منها بزيها الخاص وعلمها وأغانيها ورقصاتها. ولعل ما يثير الاهتمام كذلك أن هذا الدليل المهم لنضالات المرأة الأفريقية تضمن قصة أم المصريين هدى شعراوي، وهي رائدة في مجال حقوق المرأة. ساعدت في تنظيم مبرة محمد علي الخاصة بتقديم الخدمات الاجتماعية النسائية، عام 1909، والجمعية الفكرية للمرأة المصرية عام 1914. واستكملت نشاطها النسوي من خلال مشاركتها في النضال  الوطني في مصر. كما أسست الاتحاد النسوي المصري في عام 1923، وكانت الرئيسة المؤسسة للاتحاد النسوي العربي، وتحدثت على نطاق واسع عن قضايا المرأة واهتماماتها في جميع أنحاء العالم العربي وأوروبا.

نوليوود والملكة المحاربة

احتفت نوليوود التي تمثل السينما النيجيرية بالملكة أمينة من خلال إطلاق فيلم يحمل اسمها ليصبح واحدا من أكثر الأفلام متابعة على قائمة شاشة نيتفلكس. ونوليوود – لمن لا يعرف- تمثل اليوم ثاني أكبر صناعة سينما في العالم بعد بوليوود الهندية وتتفوق على هوليوود. وبالمناسبة تنتج نوليوود نحو 2500 فيلم سنويا وتسهم بنحو ثلاثة مليارات في إجمالي الناتج المحلي النيجيري. كانت الملكة أمينة من زاريا  أول امرأة تصبح السارونية، أي ملكة، في مجتمع يهيمن عليه الذكور. وسعت أراضي شعب الهوسا في شمال نيجيريا إلى درجة لم تبلغها قط طوال تاريخها. ونظرا لاعتماد التأريخ على التقاليد الشفوية المتواترة فقد اتخذت ذكرى الملكة أمينة أبعادًا أسطورية في موطنها الأم في بلاد الهوسا وخارجها. لقد خلدت نيجيريا الحديثة ذكرى الملكة أمينة من خلال نصب تمثال لها وهي تمتطي صهوة جوادها وفي يدها رمح في وسط لاغوس.

ولدت أمينة حوالي عام 1533 في زاريا لأسرة ثرية نتيجة تجارة المعادن والقماش والملح والخيول والمعادن المستوردة. عندما توفي والدها عام 1566، مُنح التاج لشقيق أمينة الأصغر، كرامة. على الرغم من أن عهد والدها اتسم بالسلام والازدهار، إلا أن أمينة اختارت مع ذلك قضاء وقتها في صقل مهاراتها العسكرية مع محاربي سلاح الفرسان. أدى ذلك إلى ظهورها في النهاية كقائدة لسلاح الفرسان، وخلال هذه الفترة جمعت ثروة كبيرة وحصلت على العديد من الأوسمة العسكرية. عند وفاة شقيقها بعد 10 سنوات من الحكم، نضجت أمينة لتصبح محاربة شرسة ونالت احترام جيش الززاو، لذلك تمكنت من تولي حكم المملكة. وخلافة أخيها. كان سياق قيادة الملكة أمينة في نيجيريا  خلال هذه المرحلة مقبولا، حيث لم يشعر الرجال بالتهديد عندما تبوأت النساء مناصب كبرى، حيث كان من المفهوم عادةً أنهم يستحقون ذلك إما بسبب العمر أو القرابة أو الجدارة، وليس النوع.

في وقت حكم أمينة، كانت زازو تقع على مفترق طرق ثلاثة ممرات تجارية رئيسية تتجه لشمال أفريقيا، وتربط الصحراء بالأسواق النائية لأراضي الغابات الجنوبية وغرب السودان. أدى صعود وسقوط شعب الصونغاي الأقوياء والأكثر هيمنة، وما نتج عن ذلك من منافسة للسيطرة على طرق التجارة، إلى اندلاع حرب مستمرة بين شعب الهوسا والمستوطنات المجاورة لهم خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر. في المنافسة المستمرة على السلطة بين دول الهوسا، حققت زاريا هيمنة لفترة من الزمن تحت حكم الملكة أمينة.

توصف الملكة أمينة بأنها مهندسة الجدران الترابية الحصينة حول المدينة، والتي أصبحت نموذجًا أوليًا للتحصينات المستخدمة في جميع ولايات الهوسا. قامت ببناء العديد من هذه التحصينات، التي عُرفت فيما بعد باسم “أسوار أمينة”، حول العديد من المدن التي تم غزوها. العديد من هذه الجدران لا تزال موجودة حتى يومنا هذا. كان الجدار يقوم بدور حيوي مهم في تطوير الحياة الحضرية الأفريقية. فقد وقفت حائلا أمام الزحف العشوائي الذي لا يمكن السيطرة عليه من جهة، كما وفرت الأمن النفسي والجسدي للسكان من جهة أخرى. وفي أوقات عدم الاستقرار، كانت توفر الحماية من السرقة أو التدمير. أما في وقت السلم، فكانت بمثابة بوابات  للتحكم في الدخول والخروج.

تمكنت الملكة أمينة بلا شك من صياغة وبناء موروث ثقافي يتعارض مع جميع الصور النمطية للقيادة النسائية في المجتمعات الأفريقية الأبوية، حيث يؤثر سياق عدم المساواة الذي تواجهه المرأة في جميع جوانب المجتمع تقريبًا. هناك أدلة مهمة على أنه سُمح للنساء بتقديم مساهمات كبيرة في البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لمجتمعاتهن في مرحلة ما قبل الاستعمار، وإن لم يكن بنفس نفوذ الرجال. استخدمت النساء ثغرات متأصلة في هياكلهن الاجتماعية لاكتساب مستوى معين من السلطة والحفاظ عليه. تغير هذا إلى حد ما مع ظهور التفسيرات الحرفية للإسلام، وتبعات الحكم الاستعماري، مما تسبب في معاناة النساء من نكسات مهمة. قد تستمر العقبات التي تواجه النساء في جميع أنحاء أفريقيا، لكن الموروثات والأمثلة من النساء  الخالدات مثل أمينة تشير إلى الإمكانيات الموجودة أمام النساء الأفريقيات لإعادة تشكيل مصائر مجتمعاتهن وأوطانهن.

الطريق إلى نانا سامية

على الرغم من هذا التاريخ والدور البطولي الذي قامت به حواء الأفريقية إلا أنها تعرضت في مرحلتي دولة الاستعمار وما بعد الاستعمار لعمليات تهميش واضطهاد لا يمكن إنكارها إما بسبب عوامل ثقافية أو حتى سياسية.  بيد أن نضالات المرأة الأفريقية لم تتوقف يوما أمام هدف التحرر والانعتاق من أي قيود بالية تحاول التمييز بين بني البشر. تحكي لنا قصة جين الزوجة الكينية التي طردها زوجها من منزل الزوجية بعد أن اكتشف أنها تعرضت للاغتصاب من قبل جندي بريطاني بعض جوانب هذه التراجيديا الاجتماعية . ذهبت إلى مكان كانت تعلم أنها ستكون آمنة: قرية تديرها النساء بالكامل، حيث لا يسمح فيها بتواجد الرجال. إنها قرية أوموجا (الوحدة باللغة السواحيلية)  في مقاطعة سامبورو التي تأسست في عام 1990 كملاذ لنساء سامبورو اللائي تعرضن لاعتداء جنسي وتم استبعادهن وتجريدهن من أي مطالبات بممتلكاتهن أو أطفالهن، وكذلك الفارين من زواج الأطفال أو تشويه أعضائهن التناسلية من خلال عمليات الختان. واليوم، أصبحت النساء قي قريتهن آمنات وعلى وشك الحصول على سند ملكية لقطعة أرض للرعي من قبل حكومة المقاطعة -وهو حق لم يكن لهن أبدًا خارج القرية- ويعملن كمصدر إلهام للمجتمعات المجاورة على البدء أيضًا في منح حقوق الأرض للنساء.

لم يقتصر نضال حواء الأفريقية على هدف الملاذ الآمن الذي يوفر لها الحماية من الاضطهاد حيث أبت إلا أن تصل إلى قمة الهرم السياسي في دولة ما بعد الاستعمار. ففي  الوقت الذي عجزت فيه المرأة في الولايات المتحدة أن تصل إلى قمة السلطة في البيت الأبيض نجد أن حواء الأفريقية فعلت ذلك في عدد من الدول الأفريقية. لقد تمكنت نائبة رئيس تنزانيا سامية حسن المعروفة شعبيا بلقب نانا سامية، أي ماما سامية من تبوء منصب رئاسة الدولة بعد الوفاة المفاجئة لجون ماجوفولي في مارس 2021 . ومع ذلك فقد سبقها في ذلك المنصب عدد من النساء الرائدات. لقد صنعت الليبيرية إيلين جونسون سيرليف التاريخ عندما أصبحت أول رئيسة منتخبة في القارة عام 2005. كانت خبيرة اقتصادية وموظفة دولية، كما فازت بولاية ثانية في عام 2011 وحصلت على جائزة نوبل للسلام في العام نفسه. وفي ملاوي أصبحت جويس باندا أول رئيسة لملاوي في عام 2012، حيث تم تصعيدها من منصب نائب الرئيس إلى هذا المنصب بعد وفاة الرئيس موثاريكا.غادرت البلاد في عام 2014  بعد أن خسرت الانتخابات الرئاسية ولاحقتها تهم فساد، ولكنها عادت لاحقًا إلى ملاوي بعد أربع سنوات في المنفى. وفي جمهورية أفريقيا الوسطى تم انتخاب المحامية كاثرين سامبا بانزا في عام 2014 كرئيسة انتقالية عندما كانت البلاد تعاني من حرب أهلية عنيفة. وقد شغلت هذا المنصب حتى عام 2016. إلى جانب ذلك هناك رئيسات يتقلدن منصبا شرفيا لرئاسة الدولة، ففي موريشيوس، تم انتخاب عالمة الأحياء المشهورة عالميًا أمينة غريب فقيم من قبل الجمعية الوطنية في عام 2015، لتصبح أول امرأة تشغل هذا المنصب إلى أن استقالت عام 2018 بعد تورطها في فضيحة مالية. و في إثيوبيا، تم انتخاب الدبلوماسية ساهلي وورك زودي رئيسة للبلاد في عام 2018 من قبل البرلمان، مما جعلها أيضًا أول امرأة تتولى هذا المنصب الفخري في إثيوبيا.

إن هذا الميراث الحضاري الممتد لنضالات المرأة الأفريقية يمهد الطريق للفتيات الصغيرات ليصبحن قائدات في مجتمعاتهن. إنه مصدر إلهام. نسمع كل يوم عن إنجازات النساء الأفريقيات – من العمل اليومي في الخطوط الأمامية ضد جائحة كورونا إلى تبوأ مناصب التأثير والمسؤولية- في هذا الوقت المهم من تاريخ نظام التجارة العالمي، أصبحت نغوزي أوكونجو، وزيرة المالية النيجيرية السابقة، والمديرة المنتدبة السابقة لمجموعة البنك الدولي أول امرأة على الإطلاق وأول امرأة أفريقية  تتولى رئاسة منظمة التجارة العالمية. كما أصبحت مونيك نسانزاباغنوا، النائب السابق لمحافظ البنك المركزي الرواندي، أول نائبة لرئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، حيث تتولى ملف  تنفيذ الإصلاحات التي تشتد الحاجة إليها للحفاظ على مسيرة أفريقيا المستمرة نحو مزيد من التضامن والتكامل. وهكذا سوف تصبح هذه النماذج المنيرة من النساء الأفريقيات الخالدات عبر العصور مصدر إلهام في معركة التخلص من أسباب الجمود والتخلف التي عطلت مسيرة المجتمعات الأفريقية.