هذا العنوان هو مطلع أغنية شهيرة شدت بها السّيدة “نجاة الصغيرة” من كلمات الشاعر محمد حمزة وألحان بليغ حمدي، وقد غنتها أولّ مرّة أوائل عام1970م، ولا أنوي هنا الحديث عن الأغنية، ولكنّ مطلعها الشّجيّ ربما يكون مناسبًا لواقعنا المضطرب، وحالة (اللَّخمة) التي أصابت تصوراتنا العامة عن الماضي، وجعلت منه حِصْنًا نحتمي به من تراجع الحاضر.. كانت نجاة تشدو قائلة:

“وفـ وسط الطريق ووقفنا وسلمنا وودعنا يا قلبي

ورجعنا فـ طريق وحدينا ودموعنا في عينينا يا قلبي”

قد لا تبدو المسافة كبيرة بين الموقف الحضاري العام والطريقة الخاصة التي نعشق بها أو نُحبُّ بها، كانت أغنية “نجاة الصغيرة” تتألم لهذه المسافة التي انتهت بالحب إلى الوقوف في “وسط الطريق”، ولا يعني هذا “الوسط” أن شيئًا ما قد أنجز بالفعل؛ فنصْفُ العِشْق عذاب، ونصْفُ اللقاء لا يُخمد الشوق في صدر العاشق، ونصف الثورة انتكاس وارتكاس، يجعل ما قبلها أفضل مما بعدها.

وليس أضرّ على الحقيقة من نصْف متعَلِّم أو نصْف مثقف، يتصور أن ما يعرفه هو الـ(حقيقة) الكاملة التي يجب على الجميع الالتزام بها، والعمل بمقتضاها.. ومن ثم فهو عاجز عن الرجوع إلى نقطة البداية، إلى فطرته السّوية حيث يمكن للإنسان الذي لم يتلق تعليمًا (وسطًا) أن يميز بين الخير والشر، والصواب والخطأ، وهو عاجز عن السير إلى غايته التي يحلم بها. إنه فَرِح بما لديه، مُكْتَفٍ بما عرف، وهذه هي البذرة الأولى للتشدّد والتّطرف، أو لا يمكننا الحديث عن مقدمات المتطرف وأرضه الخصبة بأفضل من ذلك..!

أستأذنك هنا في فتح قوس توضيحيّ (من الضروري هنا ألا تلتبس عليك هذه “الحالة الوسَط” من حيث هي العجز عن الفعل أو عدم الرغبة فيه أو حتى عدم القدرة عليه، بمهفوم الوسطية الذي تتحدث عنه الآية (143) من سورة البقرة: { وكذلك جعلناكم أمةً وسطًا} فصحيح أن الجذر اللغوي واحد “وَسَطَ” ولكن مفهوم الوسطيّة في القرآن يختلف؛ إذ هو تكريم وإقرار بامتياز هذه الأمّة وقدرتها على تحمل عبء الرسالة وشرف الدعوة، ليس من حيث هم جنس معيّن من الناس: أي العرب، وإنّما من حيث هم أمّة أُعيدت صياغتها وفق مقاصد هذا الدين الذي استقامت طريقته، وهذا يعني أنّ المفهوم يتسع لكل من ينضوي تحت هذا المعنى، مهما كان لونه أو عرقه أو جنسه.. الوسطية هنا إقرار باعتدال الأمة نتيجة اعتدال الدعوة نفسها، وحسن تقديرها لنوازع العقل والوجدان أو مطالب الحِسّ ومطالب الروح معًا..) أغلق القوس..!

نعود إلى حالة الوقوف في “وسْط الطريق” التي هي سلوك جماعيّ ناتج عن تشوّش في الرؤية وتنازعها واضطرابها، وهذه الحالة تفسّر لك لماذا تختلط في أعيننا القضايا وتضيع الأولويات، وتغيب فُرص الحوار أو الاتفاق حول مبادئ مرجعيّة عامة تشكِّل قاعدة انطلاق نحو الأمام.. وإذا صحّ أن مجتمعاتنا تعيش أسيرة رؤيتين ثقافيتين تتساعان لتشملا مختلف التّصورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية هما: الرؤية المدنية العلمانية التي تسترشد بالنّموذج الغربي، وتجعل منه – في أحيان غير قليلة – مقياسًا للنجاح والتقدم، ولذلك فهي تسعى– غالبًا- إلى تقليده والتّماهي معه، وذلك مقابل الرؤية التاريخية التُّراثية التي تعمل على محاكاة النموذج السَّلفي، نموذج الذّات الذي تشكَّل في لحظة ماضية وفي ظرْفٍ مختلف تمامًا..!

ولعلّه لا يخفى عليك أن كلا الرؤيتين تنحاز إلى نموذج مجلوب من الخارج، أو مستورد، فهو لا ينبثق من الواقع أو من أسئلته وحاجاته، ومن ثم فهو لا يبتكر حلولًا لمشاكله. أضف إلى ذلك أنّ كل تصور يتعصب لنموذجه Paradigm أو يتطرّف له ويؤمن باكتماله، ويرى صلاحيته للتطبيق في كل زمان ومكان، وذلك على نحو ينتهي بهما معًا إلى حال من الاغتراب عن الواقع الذي يزعم كلُّ تصوّر أنه جاء لعلاجه والتّقدم به. فلا يختلف الأمر كثيرًا– على مستوى التقليد والاتباع – إن كان النموذج المرجوّ منقولًا عن الآخرين أو منقولًا عن تاريخ الذات الذي انقضى وانتهى.

لقد آلَ بنا هذا الموقف المتعاند- ولك أن تقول المتصارع، عبر قرنين من الزّمان، هما عمر النهضة– إلى تعميق الفجوة بين الرؤيتين أو النّموذجين؛ فالملاحظ أن كل رؤية تمكّن لنفسها وأنصارها وتتخندق بما يجعلها عصيّة على الحوار أو الوصول إلى مشترك ما، وأنّ كل رؤية في سجالها مع الرؤية النقيضة لها قد انتهت إلى أصوليّة طاغية ورجعيّة صمّاء، وهذا يعني أنها عجزت عن المراجعة والنقد وإعادة النظر في أدواتها التي فقدت القدرة على فهم الواقع، فضلًا عن قدرتها على تقديم البديل.. والنتيجة المباشرة لذلك، أن كلّ اتجاه باتَ عبئًا على الواقع ليس لدوره في تشويش الرؤية واضطرابها فحسب، وإنما لدوره في تعميق أسباب الانقسام والتراجع.

وإذا كنا قد انتهينا إلى هذا الحال من الأصوليّة العامة التي يلتقي فيها الخطاب التنويريّ مع الخطاب التراثي، فلعلّي لست مخطئًا إذا قلتُ: إن ما سبق هو البنية العميقة للتّطرف الذي يتخذ أشكالًا عِدّة، ليس من بينها التّطرف الديني فحسب، وإنما يمكنك الحديث عن تجليات متفاوتة ولا حصر لها من التطرف- بمعنى الإجبار الاجتماعيّ والسياسيّ- نمارسها ضد بعضنا البعض، أفرادًا وجماعات حتى غدت جزءًا من السلوك اليومي الذي قد ننتبه له، وقد يمرّ عفوًا دون انتباه من أحد.

وهذه الحالة (الوسط)، حالة العجز عن الفعل قد لا تحتاج إلى مزيد من البراهين والحجج، فخطورتها ثابتة من خلال تجاربنا الإنسانية اليومية البسيطة، فكم من أناس كانوا قاب قوسٍ أو أدنى من إنجاز النجاح وتحقيق الأهداف، ولكنهم تقاعسوا في الوقت الذي كان يجب فيه أن يتقدموا، وما ينطبق على الأفراد ينطبق على الأمم في مجموعها.. ولعلك تتذكر الأثر الكريم الذي يحذرنا من حال المُنْبَتّ، وكما تعلم فـ”إنَّ المُنْبَتَّ لاَ أرْضًا قَطَعَ وَلاَ ظَهْرًا أبْقَى”.. والمعنى أننا لم نصل في النهوض والتحديث إلى ما نريد، ولم ندخر قوانا ومواردنا دون إهدار..!

وإذا كان “وسط الطريق” لا يعني سوى التراجع والتطرف وانتشار الأمراض الاجتماعية، فلعلك  تتساءل: لماذا تراجعنا عن مسار التحديث أو ميراث جيل الأساتذة الذي شكّل حلم جيل الآباء الأوائل من الطهطاوي وعلي مبارك ومحمد عبده ومن اتبعوهم بإحسان حتى وصلنا إلى ما ترى وتشاهد؟

كيف يمكننا الخروج من “الحالة الوسط” إلى الحالة الحضارية التي تمكننا من الاتفاق على مبادئ عامة، يلتقي عليها الفرقاء على مختلف انتماءاتهم، مبادئ لا تتجاهل الواقع، ولا تتجاهل ما بيننا من اختلافات؟ هذا ما يجب علينا التفكير فيه، والقلق بشأنه.