لا يستهدف هذا المقال الحديث فيما ينتظرنا -نحن المصريين- العام الذي بتنا على مشارفه، ولا التنبؤ بما سيأتي بعد، ولا الإحاطة بالتطورات الداخلية، والتي تجري في الإقليم والعالم من حولنا والتي ستؤثر على حركة المواطنين وتطلعاتهم نحو العيش الكريم، فالمستقبل ليس ثابتًا ويتسم بعدم اليقين الشديد.

هدف المقال إذن هو الحديث عن بعض العوامل التي لا يتم الالتفات إليها كثيرًا في نقاشنا العام، والتي يمكن أن تأخذ العالم في اتجاه أو آخر، وهي كثيرة حصرتها إحدى الدراسات في عشرة اتجاهات تشكل عالم الحاضر والمستقبل، وبما يمثل 12 مخاطرة وفرصة طرحها مجلس الاستخبارات الوطني الأمريكي على قادتهم.

أولاً: التعايش مع الوباء

بعد مرور عامين شاقين على انتشار الوباء، يبدو أننا رأينا كل شيء. ولكن ربما لم نر شيئًا بعد. ففي غياب اللقاحات، كان سيحدث ركود عالمي أعمق بكثير، ولكن هل سيتم تعلم الدروس من التوزيع الجائر للقاحات؟ هل سيكتسب العالم النامي القدرة على التصنيع لضمان التوزيع الأسرع للقاحات في المرة القادمة؟ وهل يمكن اغتنام الفرصة لبناء المزيد من المرونة العالمية. لا سيما بالنسبة لأولئك الذين ليس لديهم الوسائل اللازمة لمواجهة مثل هذه الكوارث؟

هذه مجرد أسئلة أظهرتها الظواهر الكثيرة التي كشف عنها الوباء: فاليوم يوجد المزيد من عدم المساواة، ليس فقط بين البلدان المتقدمة والنامية. ولكن أيضًا داخل العديد من هذه البلدان نفسها. هذه هي الأزمة الاقتصادية العالمية الكبرى الثانية خلال أكثر من عقد بقليل.

عدم الأمان الوظيفي ظاهرة أخرى. فسيظل مستقبل العمل مضطربًا، لا سيما بالنسبة لغير المهرة وشبه المهرة. كما دفع الوباء أرباب العمل في بعض الصناعات إلى زيادة الاستثمار في الروبوتات والأتمتة بدلاً من توظيف العمال وتدريبهم. حتى قبل أزمة الفيروس التاجي.

ظاهرة ثالثة، كان من الممكن أن يكون الوباء حافزًا لإعادة ولادة التعاون العالمي. لكنه كشف بدلاً من ذلك مدى تأثر الهياكل المتعددة الأطراف في العالم. وثبت معه أن هذا هو الوقت المناسب لتولي الدولة القومية المسؤولية. حيث أغلقت البلدان الحدود،  وفرضت عمليات الإغلاق، ورعاية مصالحها الخاصة.

ثانيًا: التكنولوجيا سيف ذو حدين

إذا خرج العلم من الوباء فائزًا، كانت التكنولوجيا في المرتبة الثانية. فبدون أجهزة الكمبيوتر والاتصال، يمكن أن تؤدي عمليات الإغلاق إلى توقف معظم النشاط الاقتصادي.

سيتأثر مستقبل العمل والتعليم بالتطورات التكنولوجية. خاصة في ظل الدمج بين الجوانب الشخصية وعن بعد.

الإنترنت ووسائل الإعلام الاجتماعية التي تعتبر حيوية للغاية في الحفاظ على النشاط الاقتصادي أطلقت العنان للقوى التي تهدد الديمقراطية.

من ناحية أخرى، تدعم المنصات الرقمية الجديدة حرية التعبير وتوفر إمكانات جديدة للمشاركة الديمقراطية، وتوفر الوصول إلى معلومات متنوعة. كما تولد منصات التكنولوجيا الجديدة فقاعات المعلومات والاستقطاب. وأيضًا تزيد من فعالية المعلومات المضللة.. يشكل خطاب الكراهية ونظريات المؤامرة خطرًا متزايدًا على الثقة المدنية والنظام السياسي الديمقراطي.

بالنسبة للقادة الاستبداديين، يمكن أن يشكل التوسع في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات فرصة لمزيد من المراقبة والتلصص على المواطنين. لكنه في نفس الوقت يمثل تهديدًا لهم؛ لأنه يساعد في تزويد المواطنين بأدوات قوية للتعبئة.

يشعر الخبراء وصناع السياسات على حد سواء بالقلق من أن التقنيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الحيوية، و5G، أو الأنظمة الجديدة مثل إنترنت الأشياء (IoT) أو الحوسبة السحابية، ستؤدي إلى تفاقم انعدام الأمن عبر الإنترنت، من خلال الكشف عن نقاط ضعف جديدة وتوفير أدوات إضافية للجهات التي يمكن أن تنشط ضد الأنظمة القائمة.

ثالثًا: إعادة التفكير في العولمة

كان من الممكن أن يكون الوباء حافزًا لإعادة ولادة التعاون العالمي، لكنه كشف بدلاً من ذلك عن مدى توتّر الهياكل المتعددة الأطراف في العالم.

لقد فقد العالم النامي الكثير من فوائد العولمة على الأقل في الوقت الحالي، جاءه الوباء من خارجه، ولم يتلق اللقاح، وتأثرت أوضاعه الاقتصادية، وتدهورت مستويات معيشة مواطنيه نتيجة التضخم ومشاكل سلاسل التوريد… إلخ

أظهر الوباء العالم أنه ذي سرعتين “من يملكون” و”من لا يملكون”. وانزلق جزء كبير من الطبقة الوسطى العالمية الصاعدة مرة أخرى إلى براثن الفقر نتيجة للوباء وتداعياته الاقتصادية، مما يقضي -ربما- على إنجاز هام للبشرية في العقود الأخيرة.

رابعًا: انعدام الأمن الغذائي

يؤدي مزيج من الوباء والطقس القاسي والصراع العنيف إلى تفاقم انعدام الأمن الغذائي. فوفقًا لبرنامج الأغذية العالمي، هناك خمسة عشر مليون شخص آخرين معرضون الآن لخطر المجاعة، مقارنة بما كان عليه قبل ظهور الوباء في عام 2019.

في نوفمبر الماضي، حذر برنامج الأغذية العالمي من أن 45 مليون شخص على شفا المجاعة في 43 دولة، مع ارتفاع تكاليف الغذاء والنقل التي ترهق ميزانيات العائلات ومنظمات الإغاثة على حد سواء.

كانت الكارثة الإنسانية في أفغانستان، التي تعد الآن موطنًا لأسوأ أزمة غذائية في العالم، أحد الدوافع الرئيسية للزيادة هذا العام.

قال البنك الدولي إنه خلال العقد المقبل فإن النظم الغذائية بحاجة إلى “تحول” يتراوح بين 300 و350 مليار دولار سنويًا لتقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري وحماية البيئة مع إطعام سكان العالم، الذين من المقرر أن ينمو إلى عشرة مليارات بحلول عام 2050.

خامسًا: تغير المناخ

زادت انبعاثات الكربون العالمية بنسبة 60 في المائة منذ التوقيع على بروتوكول كيوتو في عام 1997. كما إن اتفاقية تغير المناخ الصادرة عن مؤتمر الأمم المتحدة السادس والعشرين (COP26) لهذا العام في جلاسكو- لا تخفف من المخاوف بشأن مخاطر المناخ المتسارعة.

إن تغيير أو احتمال تحقيق هدف الحد من ارتفاع متوسط درجة الحرارة إلى أقل من درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل العصر الصناعي، أمر يصعب الجزم بتحقيقه. قبل قمة جلاسجو: توقع قادة العالم جدية جديدة في COP26، مع اتفاقهم النهائي الذي دعا إلى “التخلص التدريجي” من الفحم والاتفاقيات المنفصلة، التي تهدف إلى خفض إزالة الغابات وانبعاثات غاز الميثان، ووضع قواعد عالمية لتجارة الكربون،  وتعزيز الولايات المتحدة- تعاون الصين في مجال المناخ. على الرغم من هذا التقدم. كانت جميع التعهدات غامضة بشكل واضح.

أصدرت وكالة الطاقة الدولية خارطة طريق مفصلة للوصول إلى صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2050. الأمر الذي سيتطلب إنهاء مشاريع النفط والغاز الجديدة بحلول العام المقبل، جنبًا إلى جنب مع زيادة الاستثمار في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح ثلاث مرات إلى 4 تريليونات دولار ومضاعفة الاستثمار في الشبكات الذكية أربع مرات بحلول نهاية هذا العقد. مثل هذا التقدم ممكن تقنيًا. ولكن غير محتمل جدًا من الناحية السياسية في ظل غياب عمل دراماتيكي جديد يتجاوز بكثير ما تم الاتفاق عليه في COP26.

هذه العوامل الخمس تتفاعل وتتقاطع مع تطورات أخرى. أبرزها: صراع أمريكي صيني وعالم منقسم دون حرب باردة، تعاني فيه الصين من اضطرابات اقتصادية تؤثر على استقرار العالم، كما تعاني فيه أمريكا من أزمة في ديموقراطيتها، وسعي أوربي لاستقلال استراتيجي خاصة في مجالي الدفاع وتكنولوجيا المعلومات، وتقلب في أسعار النفط، وأخيرًا وليس آخرًا، مزيد من دول تنزلق جيئة وذهابًا من الحالة الهشة الراهنة إلى الفشل حيث يحيط بنا الآن ليبيا واليمن وسوريا والصومال. كما تقترب بلدان أخرى من فشل الدولة إن لم تكن تعاني بالفعل: جنوب السودان، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وتشاد، والسودان، وأفغانستان. ومما يثير القلق أن دولاً كبيرة مثل إثيوبيا ونيجيريا ليست بعيدة جدًا عن الركب، وانهيارها سيؤدي إلى اضطرابات إقليمية كبيرة.