قبل أن يُنبّه المفكر الألماني كارل ماركس الغرب إلى أن “الدين أفيون الشعوب”، صارت مراعاة المشاعر الدينية إحدى ذخائر القادة العالميين لكسب محبة الشعوب النامية -كما يُطلق عليها- والتي كانت لفترة طويلة حظائر للاحتلال. بدأت بمجيء الإسكندر الأكبر إلى مصر مُعلنًا انتهاج ديانة آمون. ثم عبارات نابليون بونابرت أمام شيوخ ديوان القاهرة عام 1799، وحتى الإشاعة الشهيرة التي أطلقها محبو النازية حول “الحاج محمد هتلر”.
لكن للمفارقة، فإن الاستراتيجية التي اتبعها أعظم غازيين في التاريخ الحديث، تمتد الآن على يد سيد الثلوج الروسية التي أهلكت جيوشهما واحدًا تلو الآخر.
مشاعر المؤمنين
في مؤتمره السنوي، الذي يسبق عطلة أعياد الميلاد بالتقويم الغربي. الخميس الماضي. خصص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، دقائق للإعراب عن قناعته بأنه لا يمكن تبرير إهانة مشاعر المؤمنين بحرية الإبداع.
أجاب بوتين، سؤال أحد الصحفيين عما هو الخط الذي يفصل بين إهانة مشاعر أحد وحق الفنان في التعبير. بسؤال آخر هو: هل هناك أي علاقة بين تنزيل صورة للزعيم النازي أدولف هتلر إلى موقع “الفوج الخالد” المكرس للمحاربين القدامى في الحرب العالمية الثانية وحرية الإبداع؟
وأضاف: هل تمثل إهانة النبي محمد حرية الإبداع؟ لا أعتقد بذلك. وتستدعي مثل هذه الأمور ظواهر أخرى أكثر تشددا.
وتابع الرئيس الروسي: دعونا نفكر في هذه الناحية من القضية. يجب علينا توفير الحرية بشكل عام، لأن مستقبلًا محزنًا ومملًا ينتظرنا دونها. لكن يجب الإدراك أن هذه الحرية تتناقض مع أهدافنا عندما تعبث بحرية شخص آخر.
مفعم بالحماس
عمل بوتين من خلال خطاباته الحماسية الموجهة للجمهور الداخلي على تعزيز صورة روسيا في الخارج والتقليل من شأن التحديات الداخلية. ففي أبريل الماضي -وكان يواجه اضطرابات داخلية متزايدة تتعلق بسجن المعارض والناشط أليكسي نافالني- عمل في حديثه على إعادة توجيه انتباه المواطنين إلى القضايا الدولية ومكانة روسيا في العالم.
صاغ بوتين في خطابه صورة روسيا القوية والحازمة التي تتصدى لتعديات الغرب، توعد بـ”رد سريع وصعب” إذا تجرأ خصوم روسيا على تجاوز الخط الأحمر الذي رسمته.
وبالطبع كان جزءًا رئيسيًا من الخطاب انتقاد إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن. فقد كان يحتاج هذا في ظل الغضب الروسي بسبب الجولة الأخيرة من العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة، وبسبب تعليق الولايات المتحدة على حشد القوات الروسية على طول الحدود الأوكرانية.
وسعى بوتين من خلال لهجة خطابه إلى تعويض ما قد يدفع البعض إلى النظر لبلاده باعتبارها الحصان الخاسر. في إطار سباق القوى العظمى القائم وإعادة تأكيد وعده بإعادة روسيا إلى موقع العظمة. كذلك لاحظ المراقبون اهتمامه بالتفاصيل عند وصف الترسانة النووية الروسية، بما يمكن أن يعدّ تذكيرا صارخا بالقوة العسكرية الروسية. حسب ما ذكر موقع إنتلبريف.
وقد سلط الخطاب الضوء على القيم الروحية والأخلاقية المفترضة لروسيا وحاول وصف الغرب بالدونية. محاولًا محاولة إعادة توجيه انتباه الروس بعيدا عن سلسلة القضايا والتحديات المحلية التي تواجه البلاد. مثل جائحة كوفيد 19 التي وصف فيها البعض أداء الحكومة الروسية بأنه “كان كارثيًا”.
خطاب معركة
في خطابه بميونيخ عام 2007 وصف بوتين النظام الدولي بأنه النظام الذي حفل بعدد من الحروب لم يشهدها أو يتسبب فيها نظام دولي سابق على نظام القطبية المنفردة -قاصدًا هيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي- مؤكدًا أنها غطاء لاستخدام غير مبرر للقوة وتحقيق مصالح دول بعينها.
هذا الجانب من رؤية روسيا للعالم أعاد بوتين تثبيته في خطبه التالية أمام الجمعية الاتحادية. لم تختلف عناصر الخطاب كثيرًا، ولكن تغيرت اللهجة والكلمات فكانت أشد وأقوى. حتى أن بعض التعليقات وقتها وصفت الخطاب بأنه “خطاب معركة”.
وفي 2014، تحدث الرئيس الروسي لمدة 70 دقيقة بلهجة عنيفة عن دول الغرب. التي وصفها بانها “راحت ترتدي ثياب النازية لتعزل روسيا وتحجزها وراء الأورال”. وقال: نعلم تمامًا كيف انتهت المحاولة النازية الأولى، التي ستكون أيضًا مصير المحاولة الثانية.
وبينما تناول بوتين تطوير الجيش الروسي والعقبات التي يضعها الغرب أمام هذا التطوير. كان حازمًا في التنبيه إلى أنه لن يدخل في سباق تسلح. في إشارة بالغة الذكاء الى السباق الذي فرضه الرئيس ريجان على الاتحاد السوفييتي في الثمانينيات من القرن الماضي وانتهى بانهيار الاقتصاد السوفيتي.
بعدها توجه بالقول إلى المسؤولين الأوكرانيين ودول الجوار الذين اشتعلت بينه وبينهم أزمة القرم. وصف مكانة شبه جزيرة القرم بالنسبة للشعب الروسي بأنها تماثل مكانة المسجد الأقصى بالنسبة للشعوب الإسلامية وجبل الهيكل المزعوم لدى الصهيونية. ثم قال: لم نعد نعرف مع من نتكلم في هذه الدول، أنتكلم مع حكومات دول مستقلة أم مع السادة والرعاة في الخارج؟
وأكد: الرسالة هنا هي لا وجود لروسيا -الوطن أو القوم أو الحضارة- بدون القرم.
ترك ذلك الخطاب في نفوس المهتمين بالشأن الروسي أصداء شتى. أهمها التصاعد في المشاعر القومية، خاصة بعد مزجها بالدين -المسيحية الأرثوذكسية الروسية- وبالعرق السلافي. وقد كان كفيلًا بأن يخلق ثقة أكبر في النفس الروسية، ويقضي على شعور الدونية المتجذر ضد الغرب.
خداع وقح
لم تعد لعبة بونابرت وهتلر تصلح لأيام بوتين. فالخطاب الحالي للزعماء لابد وأن يحمل لكل مقام مقالًا. تتنوع لهجته ما بين الاستمالة والغطرسة والثقة في قدراته أمام الخصوم.
وقد اعتاد الرئيس الروسي أن يعقد المؤتمر الصحفي لـ “حصاد العام” في شهر ديسمبر، يوم الخميس الثالث أو الرابع، وهو تقليد اتبعه منذ عام 2001، انقطع فقط في الفترة التي شغل فيها منصب رئيس الوزراء (من مايو 2008 وحتى مايو 2012).
وكان مؤتمر الخميس الماضي هو السابع عشر لبوتين. وهو واحد من مناسبتين تصفهما وسائل الإعلام الروسية بأنه “يلتقي فيها مع الشعب” ومع وسائل الإعلام.
هكذا، في الحديث نفسه الذي أشار فيه إلى التسامح. صعّد الرئيس الروسي لهجته بقوة تجاه حلف شمال الأطلسي والغرب عموماً، بسبب الوضع في أوكرانيا. وقال إن موسكو “لن تسمح بتهديد أمنها وستعمل على مواجهة التحديات الجديدة”.
وأضاف أن بلاده تعرضت لـ “خداع وقح” من جانب حلف الأطلسي -حسب وصفه- عندما وعد بعدم التوسع شرقاً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
وبعد أن استعرض ثقته لمواطنيه، خاطب بوتين الغرب بقوله: تطالبونني بضمانات! أنتم من يجب عليه إعطاءنا ضمانات. أنتم! الآن وفوراً. وليس الثرثرة لعقود. مع مثل هذا الحديث اللطيف حول الحاجة إلى ضمان الأمن للجميع يقومون بكل ما يخططون له. هذا ما يدور حوله الأمر. هل نحن نهدد أحداً؟
لهجة المحاربين
في كتابه “ما قبل اندلاع الحرب الباردة”، قال أندريا جراتشيف، المتحدث الرسمي السابق باسم الرئيس السوفيتي الأخير ميخائيل جورباتشوف، إن “بوتين، والعديد من الروس يرون أن تلك الحرب لن تنتهي مع الولايات المتحدة”، قاصدًا الحرب الباردة.
وأضاف جراتشيف أن تلك الحرب الجديدة “ستخلق نوع من الفوضى يصعب التنبؤ بها، على عكس الحرب الباردة السابقة التي كانت تعد بمثابة شكلا من أشكال الاستقرار لميزان القوى في العالم”.
بعد عقود، وفي عام 2018، خلال خوضه انتخابات رئاسية جديدة، رصد المحللون “لهجة المحاربين”، التي ينتهجها الرئيس الروسي في خطاباته. والتي فسّروها بأنها “تغذي مخاوف عدم انتهاء الحرب الباردة”. حسب ما ذكرت صحيفة “ألزاس” الفرنسية.
وقتها، تحدث بوتين أمام برلمان بلاده، بأن روسيا لديها أسلحة فتاكة لا تقهر. وأنه سيستخدم كل الوسائل الضرورية لتحييد نظم الأسلحة الغربية. لكنه أشار إلى عدم رغبته في حرب باردة جديدة.
وأشارت الصحيفة الفرنسية، إلى أنه على الرغم من أن تلك التصريحات التي أدلى بها قبل نحو أسبوعين من الانتخابات الرئاسية. موجهة إلى شعبه لكسب أصواتهم، إلا أنها أثارت مخاوف الدول الغربية. واصفة الرئيس بوتين بأنه “أصبح عرّابًا لتلك الحرب”.
ولفتت الصحيفة إلى أن تلك الحرب الباردة “لن تنتهي أبدًا”. مشيرة إلى أنه من الخطأ اعتبار مضمون ذلك الخطاب مجرد خطاب انتخابي لكسب الأصوات، وأن تأثيره سيذهب بمجرد الانتهاء منها.
الفترة نفسها شهدت لقاء مع الصحفي الروسي المقرب من الكرملين، فلاديمير سولوفيوف. ضمن الفيلم الروسي “النظام العالمي 2018”. والذي تناول جوانب من حياة القيصر أظهر فيه الجانب الإنساني. أمّا الفيلم الوثائقي “بوتين” الصادر في الفترة نفسها، فقد أكد فيه الرئيس للمذيع التلفزيوني المقرب من الكرملين ديمتري كيسليف أنه لن يعيد شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا تحت أي ظرف كان.
وأجاب الرئيس بحزم عما إن كانت هناك أي ظروف قد تدفعه إلى التخلي عن القرم “ماذا؟ هل جننت؟ لا توجد ظروف من هذا النوع ولن توجد قط”.
ثعلب الشمال
في كتابه “ثعلب الشمال”، الصادر عن دار نشر “بيتر” في سان بطرسبرج وموسكو. تناول المؤلف ألكسندر كازاكوف أبعاد الاستراتيجية التي اختارها الرئيس فلاديمير بوتين لبلاده منذ تسلم السلطة في الكرملين مطلع القرن الحالي.
جاء عنوان كازاكوف مشتقا من الكنية التي أطلقها نابليون بونابرت على الفيلد مارشال ميخائيل كوتوزوف قائد القوات المسلحة للإمبراطورية الروسية في مطلع القرن التاسع عشر. فقد لقى على يدي كوتوزوف أكبر هزيمة في التاريخ في عام 1812.
أمّا بوتين، فكانت مهمته وما حدده لنفسه وفريقه من استراتيجية عمل، تكمن في ضرورة استعادة الدولة الروسية لموقعها السابق على خريطة الساحة العالمية، وهو ما يمكن القول إنه نجح في تحقيقه قبل حلول عام 2020. فقد كان القيصر يتمنى لو عاد به الزمن ليمنع سقوط الاتحاد السوفيتي 1991.
لم ينس بوتين، ومعه الملايين من كبار السن مُعاصري المجد الأحمر، اللحظة الكبرى لشعوره بالهزيمة عند انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي. ففي عام 2005. وصف -خلال لقاء مع أنصاره في مدينة كالينينجراد- انهيار الاتحاد السوفيتي بأنه “أكبر كارثة جيوسياسية” في القرن العشرين. واستغل هزيمة الاتحاد السوفيتي لألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية لإشعال النزعة الوطنية والمساعدة في خلق شعور جديد بالكيان الروسي.