(أكل الضفدع)

في المقال السابق حكينا قصة تنصيب عباس بعد وفاة والده الخديو توفيق، وعودته من النمسا، حيث كان يدرس العلوم العسكرية في أكاديمية الإمبراطورة تيريز، وقد كان الشاب الذي لم يبلع عامه الثامن عشر مشحونًا بكراهية الإنجليز بسبب ما فعلوه مع جده إسماعيل، وكذلك بكراهية أحمد عرابي وأنصاره في الجيش، بسبب ما فعلوه مع والده، وفي المقابل كان يتطرف في إعلان ولائه للخليفة العثماني والباب العالي، مؤكدا دائما على أصوله التركية وتربيته المتشبعة بلغة وميراث الأجداد، وفي أول مواجهة له مع الإنجليز أراد الخديو الشاب أن يعيد للقصر هيبته واستقلاله عن أوامر المندوب الإنجليزي ايفلن بارينج (لورد كرومر) وأن يطهر بلاطه من الوشاة والجواسيس الموالين للاحتلال، فاستغل مرض رئيس الوزراء مصطفى فهمي وأصدر قرارا بإقالته، من غير إبلاغ اللورد والحصول على موافقته، وبرغم فشل محاولة الخديو الشاب في تحقيق استقلال قراره عن الإنجليز، إلا أنه لم يستسلم تماما، واستمر الصراع.

(6)

مع الأيام تمرس عباس على لعبة الحكم، وتعلم فنون الشد والجذب مع الإنجليز، مؤكدا للعثمانيين أن صراعه مع الإنجليز هدفه الأول هو إبقاء مصر تحت سلطة الخليفة وليس الإنجليز، مكررا في كل مرة أنه تركي الأصل واللغة وأنه يحافظ على ميراث أجداده، وهو ما يتعارض مع إشارته السابقة عن الجذور الأجنبية لرئيس وزرائه مصطفى فهمي، واعتبارها سببا لعدم الولاء لمصر.

مركزية الباب العالي في تفكير العائلة الخديوية، نقطة مهمة تساعدنا على فهم السلوك السياسي والاجتماعي للنخبة الحاكمة منذ محمد علي وحتى الملك فؤاد، لهذا نتوقف عند قصة زواج الخديو عباس الثاني، باعتبارها استكمالا ضروريا لصورة وواجبات الحاكم، فعندما اضطر عباس للزواج لم يفكر في الكونتيسة الحسناء الجريئة التي قابلها في حفل الأكاديمية العسكرية بفينا، كانت المرشحة الأقرب هي الأميرة عزيزة حسن، حفيدة جده الخديو إسماعيل، لكن الوالدة باشا كانت تخطط لتزويجه من ابنة السلطان العثماني، فهي الأخرى مهتمى بدعم عرش ابنها عند الباب العالي، خاصة وأنها كانت حريصة على نسج شبكة علاقات قوية مع حريم قصر يلدز في إستانبول، خلال فترات إقامتها في قصرها الفخم في “بيبيك” على ضفاف البوسفور، وهو القصر الذي أصبح مقرا للقنصلية المصرية حتى الآن، لكن خطة الوالدة باشا فشلت لأسباب سياسية أكثر منها نسائية، فقد كان السلطان “المريض” يخشى من غدر الإنجليز هو الآخر، ولا يرغب في تقوية نفوذ عباس حتى لا يفكر الإنجليز في تنصيبه مكان السلطان على رأس تكتل إسلامي يرث سلطة الباب العالي.

وبعد أن فشلت الخطة وطارت الأميرة عزيزة، رتبت الوالدة باشا (أمينة هانم إلهامي) زواج ابنها الخديو من “إقبال” ابنة إحدى الجواري في قصرها، ولم يكن هذا في نظرها نوعا من الزواج المورجاني (غير المتكافئ)، لأنها هي نفسها نتاج زواج أمير من جارية، على عكس الكتابات المغلوطة التي تتحدث عن عراقة نسبها وأصولها الملكية، وعاش الخديو مخلصا لزوجته الوحيدة “إقبال هانم”، كنوع من الوفاء لوالده توفيق الذي ألزم نفسه بالزواج من واحدة، وحرر القصر من المحظيات والجواري، كما كان في عهد سلفه إسماعيل، وقد امتدح عباس في مذكراته سلوك والده المتحضر الذي ينقل مصر إلى الحداثة الأوروبية، واحترام المرأة، وتماسك الأسرة، والاهتمام بتعليم وتربية الأبناء، وخلال سنوات قليلة كان الخديو قد أنجب من زوجته الوحيدة أربعة أطفال، حتى ذلك اليوم من صيف عام 1900، الذي سافر فيه عباس إلى باريس حيث التقى هناك فتاة الأكاديمية بالصدفة، وأترك الكونتيسة تحكي عن اللقاء كما سجلته في مذكراتها المنشورة في برلين منذ الثلاثينيات بعنوان “حياة الحريم”:

“بعد عدة سنوات من مقابلتنا الأولى في فينا، قابلت الأمير الشاب مرة أخرى، هذه المرة في باريس، كنت قادمة من سوق الزهور في “لا مادلين”، أحمل في يدي كمية كبيرة من الورود، دخلت قاعة فندق جراند للقاء صديقة، وفجأة ظهر أمامي الأمير المصري، لم يكن ذلك الشاب الخجول الذي رأيته أول مرة في “تريزيانوم”، لقد نضجت ملامح وجهه، واتخذت سمت الرجولة الشرقية، لكن عينيه الرماديتين ظلت لهما نفس البريق الأخاذ، كأن شمس مصر تشرق عليها، ابتسم كلانا، وكانت أول كلمة قالها لي: “في مصر الورود أكثر جمالا…” وكانت العبارة واضحة في معناها كدعوة ملكية لزيارة مصر..

(7)

وصلت الكونتيسة ماي إلى ميناء الإسكندرية، وجدت في استقبالها وفد تشريفات بقيادة فريدريك باشا، الذي كان قد رآها أثناء مصاحبته للخديو في باريس، وكان فريدريك إيدلر فون ثرنيسين ضابطا أوروبيا ولد في باريس وحارب مع الإنجليز في أكثر من جبهة في المكسيك والسودان، ثم اختاره عباس كخبير اقتصادي ومساعد خاص له في التعامل مع الأجانب وقيادة الجالية النمساوية ومصاحبته في سفرياته الخارجية.

حالة فريدريك باشا ليست فردية ولا استثنائية، كما أنها ليست مدعاة للوجاهة والتفاخر كما يفعل هذه الأيام ضحايا النوستالجي للحقبة الملكية من فقراء ومنتفعين على السواء، الذين يرددون أن مصر الجميلة قبل النظام الجمهوري كان الحلاق إيطاليا والبقال يونانيا والبواب سودانيا والجزار سويسريا والترزي أرمنيا والحلواني شاميا.. إلخ

ومثال فريدريك باشا يؤكد صحة هذا الكلام، وهذا لا يعني أنه أمر جيد، حتى بالنسبة للإنجليز، الذين غضبوا جدا من هذا الاعتماد على جنسيات أخرى خاصة المحيطين بألمانيا، فقد كانت الجنسيات المألوفة في القصر من قبل في حدود العرق التركي ومحيطه من أرمن وجركس، لكن مع تولي عباس الثاني فقد تحول القصر إلى مركز قوة للمسؤولين النمساويين والمجريين والسويسريين والألمان، ويكشف عباس في مذكراته عن بداية هذا الاتجاه قائلا: كنت أرغب في العودة إلى مصر بأسرع وقت عندما وصلني خبر وفاة والدي ذات ليلة في فينا، ولم تكن هناك وسيلة لذلك لأن السفينة المصرية ستصل بعد أيام، فأمر الامبراطور فرانسوا جوزيف بوضع واحدة من سفن اللويد النمسوية تحت تصرفي، ورافقني في الرحلة أربعة ضباط من الحرس الإمبراطوري واثنين من مستشاري البلاط، كان أحدهما أكاديمي سويسري عظيم يدرس لي القانون الدولي في الأكاديمية، وهو الدكتور لويس روييه، وتناقش معي عن نهضة مصر أثناء رحلة العودة على السفينة، وأدركت مدى فائدته لي، فاستأذنت الإمبراطور في السماح ببقائه معي في مصر كمستشار أول يشغل منصب أمين عام مجلس النظار، وقدم لي خدمات جليلة وفائدة عظيمة حتى وفاته..

هكذا كانت دوائر الحكم في مصر تدار بمنطق الشركات المحكومة بخبرات أجنبية، تتغير بحسب المدرسة والجنسية التي تروق للحاكم، سواء مكان دراسته أو نزهاته أو علاقاته السرية، بالإضافة إلى خريطة انحيازاته لمراكز القوة المؤثرة في العالم حينذاك، وكانت ميول عباس الثاني تتوزع بين الولاء العائلي والسياسي للأستانة، وإعجاب بالمدرسة الألمانية حيث قضى طفولته يدرس في سويسرا، وقضى صباه يدرس في النمسا حتى تولى عرشه، لذلك كانت الغلبة في قصره لأفراد من هذه الجنسيات، بداية من القيادة الثانية في الجيش (البارون هوجو فون فليشكير) إلى الخادم الخاص (فريدريك)، مررورا بالطبيب الخاص (كاوتسكي بك)، والصيدلي (برونو بيتر)، وطبيب الأسنان (جوزيف بيلنسكي) ثم هنرييت هورنيك، ومهندس القصور أنطون لاشاك ومساعده يلفو سيميناتي، ومربي الكلاب ومنسقو الزهور والحرس الخصوصي الذي استقدم للإشراف عليه زميل قديم له في أكاديمية تريزيانوم يدعى “كليمينت أرفاري”.. وعكس الحاشية التركية القديمة والخبرات الإنجليزية والفرنسية في عهود سابقة، كانت أغلبية بلاط الخديوي عباس الثاني من الناطقين بالألمانية، خاصة أبناء الجنسيات السويسرية والنمساوية/المجرية، وها قد وصلت “أوجيني الجديدة” لتتوج النفوذ الجرماني في بلاط الخديوي الشاب..

(8)

تحولت زيارة الكونتيسة إلى إقامة دائمة في مصر بعد أن رشق كيوبيد سهمه في قلب الخديوي العاشق، حتى أنه لم يأخذ في اعتباره حساسية “الحلف المحافظ” الذي قام بتشكيله ليكون سندا له في مواجهة لورد كرومر والإنجليز، وبدأت الشائعات تتناثر في بيوت الطبقة الأرستقراطية والجاليات الأجنبية، وكان عباس متخوفا من ملاحظات الباب العالي الخاصة بمرافقة الكونتيسة له في سفرياته، فأرسل عباس من يوعز لهم بأنها مجرد محظية، لكن الأمور في القاهرة كانت تمضي في مسار آخر، كانت الكونيسة قد فرضت حضورها في القصر من خلال تنكرها في ملابس الرجال (في شخصية سكرتير شاب للخديو يدعى علي بك) لتكون قريبة من الحبيب العاشق، ومن الحاشية التي تدير كل التفاصيل في القصر، وكان أغلبهم من الجرمان المتعاطفين معها..

تكشف الكونتيسة في مذكراتها صورة للعلاقة الرومانسية بينها وبين الحاكم العاشق فتقول: كنت أتغزل في وسامته فيبتسم، لكنني لم أكن أجامله، كنت أتحدث عن مشاعري بصدق، كانت عيونه الرمادية جذابة ويعجبني بريقها الذكي، أما حواجبه فكانت تثير في نفسي الريبة، وكنت أقول له: إن أجمل شيء فيك هو فمك، بسيط كفم الأطفال برغم الشارب المخيف.. كنا نختلف في القليل ونتفق في الكثير، كنا نحب الكلاب معا، ونجري وراء بعضنا في ممرات القصر، وعندما نجلس في الحديقة نلفظ بذرة الكريز من فمنا بالنفخ، لنعرف أينا سيقذفها الى مسافة أبعد، وكان الخدم في قصر مسطرد حيث أقيم يندهشون صامتين، ويبتسمون خلسة وهم يسمعوننا نضحك بعد أن نرتشف القهوة بصوت عال كالعامة، وفي العصاري كنا نتشارك “الدندرمة” التي يحبها، والتي لم أمانع في تناولها معه دائما، برغم تحذيرات “مايسكي” مدربة الرشاقة الخاصة بي من تناول السكريات والجيلاتي..

(9)

مرت الشهور الأولى لزيارة الكونتيسة ماي في توثيق التعارف ونشوء عاطفة جامحة يصعب السيطرة عليها، لكن تفاصيل العلاقة ظلت محصورة بين قصر مسطرد الذي خصصه الخديو لإقامة حبيبته بعيدا عن العيون، وبين قصر المنتزه بالاسكندرية الذي راق للكونتيسة، لأنها كانت ترى هناك عباس الحبيب وليس عباس الحاكم المحاصر بالبروتوكولات والتقاليد والحسابات والمهام، وبعد العام الأول بدأ الملل يعكر سعادة الفتاة الأوروبية بسبب الحصار المفروض عليها في قصر مسطرد، الذي كان عباس يستخدمه كحديقة حيوان يجمع فيها هدايا الأمراء والأثرياء من كلاب وببغاوات وحيوانات أخرى، ولما كانت ماي شخصية متأملة ذات ميول فنية، ربما خطر في بالها ذات ليلة من ليالي الوحدة أنها تعيش في قفص مثل بقية الحيوانات التي يأتي الخديو لزيارتها والاستمتاع بها والاطمئنان على “مقتنياته”، وبدأت صورتها عن نفسها تحرضها على وسيلة لكسر تقاليد الحياة في الحرملك، فقد كانت تتابع كل ما يحدث تجاه المرأة باعتبارها “حريم”، ولهذا اختارت الكلمة عنوانا لمذكراتها، وخصصت الجزء الأكبر منها لتفاصيل حياة النساء وراء الحجب..

وفي أثناء إحدى زيارات الخديو لها، عرفت أنه سيغيب عنها عدة أيام، لأنه سيسافر إلى الجنوب لافتتاح مشروع جديد ومهم هو خزان أسوان، وأترك ماي تحكي ما حدث:

صممت أن أحضر حفل افتتاح قناطر النيل في أسوان، حبكت الطربوش على رأسي جيدا، وجربت الإنحناء عدة مرات من دون أن يقع الطربوش، وإذا وقع فلا ضرر، لأنني قصصت شعري، وحشوت أكتاف بدلة الردنجوت بالقطن للظهور في جسد رجالي، وملأت مقدمة الحذاء الكبير بالورق، أما أصابع يدي فكانت مقبولة كأصابع للرجال بسبب عزفي على البيانو، وتحملت الياقة العالية التي كانت تضايقني كثيرا طول فترة التنكر..

رتبت أموري مع الخدم الخاص، وفوجئ بي الخديو داخل القطار فتملكته الدهشة، لكنه لم يغضب، بل شعر بالفرح لحضور “سكرتيره الخاص”، وقال لي: إذا خاطبك أحد لا تتكلمي يا حبيبتي، حتى لو وجهت كلامي إليك، وافقت على الفور، فخير لي أن يعتقد الناس أنني سكرتير أخرس من أن يظنوا أنني أحد الأغوات إذا سمعوا صوتي الرقيق، خاصة وأن الانحناء للخديو دون رد، مقبول كمزيد من الاحترام، لم يعلم بسر تنكري إلا “تورنسين باشا” والدكتور كاوتسكي بك والخادم فردريك، لمساعدتي إذا احتجت أي شيء..

وصلنا إلى الأقصر، حيث الاستقبال بالزينة والرايات وحشود المستقبلين تهتف “أفندي مزجوق يشا” أي يعيش أفندينا، وكانت بانتظارنا ثلاث سفن: واحدة للخديو وحاشيته، وواحدة للدوق البريطاني أوف كنوت، وواحدة للوزراء والمسؤولين، كان المنظر بديعا على الشطآن، السفينة تبحر وسط مجرى النيل العظيم وعلى الضفتين خضرة ممتدة، وناس اصطفت لتحيي الخديو بمحبة ظاهرة، تأثرت بالمشهد، وانحنيت على يده وقبلتها، نظر إلي الخديو نظرة اندهاش، فقلت له همسا: “أفندي مزجوق يشا” ففهم ما أريد، عدت إلى النظر للمنظر خارج السفينة وهمست في سري: ليتني كنت رجلا يا مولاي لأعيش حرة في خدمتك وخدمة بلادك..

(10)

فرح الخديو بوجودي بجانبه، واطمأن على التزامي بالبروتوكولات ومهارتي في التصرف، فسمح لي بمرافقة الدوق كنوت وزوجته في رحلة الأقصر، وأفسح لي مجال حركة أوسع، حتى أنه كان ينسى أحيانا ويعاملني برقة ومحبة تلقائية في أوقات العمل الرسمي، ففي هذه الزيارة حضر أحد الوزراء لإطلاعه على أمر هام، ووقفت أمام الخديو ويدي مضمومة على بطني حسب البروتوكولات باعتباري سكرتيره الخاص، وطال حديث الخديو مع الوزير، فالتفت ناحيتي فجأة وسألني بصوت ودود: حبيبتي.. ألم تشعري بالتعب؟

تخيلت حجم صدمة الوزير (إذا كان قد سمع بوضوح، وأصابتني حالة من الوجوم خوفا على سمعة الخديو، وعلى كل حال انتهت الزيارة بنجاح وحانت لحظة العودة، التي تحولت إلى لحظة مؤلمة بالنسبة لي، لأنها تشعرني بالفراق والوحدة في قصر معزول، وإحساس الانتظار الممل برغم رفاهية الإقامة في القصور، وقد شعرت بذلك من قبل بعد عودتي من سفرياتنا إلى الإسكندرية، حيث نقضي الوقت بكل حرية وانطلاق ومرح بين رأس التين والمنتزه الذي الذي أفضله على غيره من القصور..

وفي طريق العودة كنت أسرح في أفكاري أو أنشغل بالقراءة، وكلما جاء للاطمئنان علي! في عربات الحريم، كنت أزيح الكتب لأفسح له مكانا بجواري، فكان يتعجب لدرجة الغيرة من اهتمامي بالكتب، وأحيانا من شرودي وتأملاتي.

ما أكثر ما سألتني فيم تفكرين؟

وقد تكرر سؤالك في ذلك اليوم ولم أقل لك شيئا، لكنني سأكتبه الآن: كنت كعادتي في رحلات العودة إلى القاهرة أتمنى لو أن القطار أخذ يصغر ويتناقص حتى يصير عربة واحدة ليس فيها إلا أنا وأنت، بدون أي شيء آخر، حتى ماضيّ وماضيك قبل أن نتعارف..

وصل القطار، وسمعتك بالكاد وأنت تقول: سرحانة في إيه يا حبيبتي؟ لقد وصلنا، وبعدها تغير كل شيء: نزلت إلى موكبك نحو سراي القبة، ونزلت أنا بدونك إلى السيارة التي تقلني إلى سراي مسطرد..

أصبحت حياتي مثل مسافر كلما قطع خطوة على الطريق ترك فيها قطعة من نفسه، وكل فترة يلتفت إلى الوراء لينظر إلى أجزاء نفسه الملقاة على طول الطريق، ويسمع أصوات أشلائه وهي تناديه، لا لكي يعود، وإنما ليأخذها معه كأجزاء حية تصاحبه من الماضي إلى الحاضر ثم إلى المستقبل أينما يسير.. يا إلهي كيف يستطيع الإنسان أن يبدأ حياة جديدة؟، وكيف يتصرف في حياته القديمة؟، هل يمحو القديم كما يفعل الصبي في لوح “الكتّاب” أم ينسى كل الماضي كأن اللوح فارغ ليس عليه أي كتابة؟

يبدو أن الحياة لا تدون حروفها إلا على نفوس لها خاصية الاحتفاظ بالكتابة.. نفوس من قماش يمتص الحروف بحيث يصعب محوها، لكن كيف للإنسان أن يتحمل كل هذا ويمضي إلى حيث لا يعلم..

أطوف في غرف القصر وأتساءل: هل كل هذا مجرد جماد؟ أم أنه جزء حي من حياتي؟، لا شك أن هذه الوسائد الحريرية تحفظ القصص وسوف ترويها مع الأيام…

كانت تأملات وأمنيات الكونتيسة نذيرا بتحولات كبيرة في حياتها وفي حياة الخديو، نتعرف عليها في المقالات المقبلة..

(يتبع)