جاءت واقعة “انتحار” موظف بإحدى الشركات الخاصة مؤخرا لتكشف الغطاء عن مصطلح “الاحتراق الوظيفي”. حيث باتت صراعات وضغوط العمل تشكل أحد أخطر المنعطفات الإنتاجية والاقتصادية.

وبحسب تعريف منظمة الصحة العالمية لـ”الاحتراق الوظيفي“. فهو “متلازمة أعراض ناتجة عن عدم التعامل الجيد مع ضغوط العمل المزمنة”. وتتصف بـ”فقدان الطاقة العملية والإرهاق والإحباط والسلبية والتشاؤم تجاه العمل وعدم الالتزام بالمهنية والإهمال”. وأدرجتها المنظمة ضمن قائمة التصنيف الإحصائي الدولي للأمراض. حيث سيتم الاعتراف بهذه المتلازمة عالمياً في عام 2022.

الاحتراق الوظيفي.. قنبلة موقوتة

وذكرت المنظمة ثلاثة أعراض أساسية لـ”الاحتراق الوظيفي”. وهي “الشعور بالإعياء واللا مبالاة حيال الوظيفة وتدني الأداء في العمل”.

وقد جاء رد الفعل لاحتراقه وظيفيا بأن أقدم موظف الواقعة الأخيرة على “الانتحار” حسبما تردد. وذلك بإلقاء نفسه من الطابق الثالث. تعبيرا منه عن رفض ما يتعرض له في بيئة عمله. وهذه الواقعة تؤكد ضرورة تحرك الجهات الرسمية لحفظ العلاقة التوازنية بين العامل وصاحب العمل وفقا لقانون العمل رقم 12 لسنة 2003 لتنظيم العلاقة بين العمال وأصحاب الأعمال.

الدكتورة بسمة سليم -إخصائي علم النفس- تقول إن ضغط العمل بجانب الضغوط الشخصية عامل أساسي في إعداد قنبلة موقوتة. وهي تكاد تنفجر في أي مرحلة. مشيرة إلى أن الموظف “المنتحر” اتخذ قراره بعد خروجه من مكتب المدير –حسبما تردد.

واقعة “نور”: لم نتثبّت من سوء التعامل

وهنا يقول المستشار مدحت الغمراوي -وكيل وزارة القوى العاملة بالقاهرة- إنه يتم التفتيش على المنشآت لضبط مخالفات أصحاب الأعمال تجاه الموظفين. وأضاف خلال مداخلة مع برنامج “الحكاية” أنه حال مخالفة صاحب العمل يتم فرض عقوبات عليه. لافتا إلى أنه يتم بحث شكاوى العمال ومعرفة متطلباتهم. وقال: “لم نتثبت من تعرض الموظف المنتحر لسوء تعامل من قبل المسؤولين بالشركة”. متابعا: “لما توجهنا لمقر الشركة وسألنا الموظفين لم يتقدم أحد منهم بشكوى أو تظلم من سوء المعاملة والعلاقة سوية بين الإدارة والموظفين”.

فيما عادت “سليم” لتقول لـ”مصر 360″ إن بيئة العمل لا بد أن توفر العائد النفسي والمادي والتقدير الذاتي. لافتة إلى أن غالبية الموظفين أصبحوا يعملون وهم مكبلون بالديون. وتابعت: “فقدان ميزان العائد يؤثر على الموظف بالاضطراب والتفكير في أن العمر يضيع هدرا”.

تحتاج الشركات والمؤسسات إلى تعيين إخصائي نفسي لتفريغ الطاقة السلبية –حسب “سليم”. وتوضح أن هذا الأمر ضروري لتحقيق الكفاءة المهنية. وأكدت أن ضغوط الرؤساء على المرؤوسين سبب لجوء الأشخاص للانتحار.

شركة “تيلي بيرفورمانس” بالتجمع الخامس ردت في بيان على واقعة “انتحار” أحد موظفيها الثلاثاء الماضي بسبب “ضغط العمل وسوء معاملته”.

وأشارت الشركة إلى أنهم “حاولوا مساعدة الموظف ومنعه من الانتحار. وتم استدعاء الإسعاف بينما هرع الطبيب الداخلي لمساعدته. ووصل المسعفون إلى مكان الحادث ونقلوه إلى أقرب مستشفى لكن لسوء الحظ لم يستطع الأطباء إنقاذه. وقد تواصلنا مع عائلته فورا لتقديم أكبر قدر ممكن من المساعدة وسنواصل القيام بذلك”.

مصطفى فهمي -المدير التنفيذي للشركة- قال: “ما حدث لزميلنا صدمة لنا جميعا وندعو له بالرحمة ولعائلته وزملائه بالصبر”. وأضاف: “سلامة موظفينا أولويتنا. وسنوفر الدعم النفسي والمشورة لزملائه خلال هذا الوقت العصيب. ونتعاون حالياً مع السلطات المحلية ونجري أيضاً تحقيقاً داخلياً لفهم الظروف التي أدت إلى هذه المأساة. ونحترم رغبة الأسرة في الخصوصية ولن نقدم أي تفاصيل أخرى للجمهور”.

الكشف عن الواقعة

في بث مباشر عبر صفحتها بموقع “فيسبوك” أكدت روشان بغدادي -زميلة الموظف المنتحر- أن “نور” كان يقف بجانبها قبل انتحاره بدقائق.

وقالت إن سبب إقدام زميلها على الانتحار هو “معاملة مديره السيئة ورفضه استعمال نور المتكرر لدورة المياه. وهو الأمر الذي انتهى –حسب “روشان”- بـ”خصم من راتب الموظف وتهديده بالرفد”. وأشارت إلى أن “نور كان يمر بضائقة مالية”.

وقالت “بغدادي” -في مداخلة مع برنامج “الحكاية” للإعلامي عمرو أديب. إنها خلال وجودها بالشركة سمعت هرجا ومرجا قادما من بهو الشركة. وحين ذهبت إلى مصدر الصوت وجدت “نور عاشور” ملقى على الأرض وسط دمائه. وقالت إنها حاولت إسعافه ولكن باءت محاولتها بالفشل.

وتابعت أن الموظف “المنتحر” كان يعاني مرض السكر. وبسبب ظروف مرضه فإنه يحتاج إلى دخول الحمّام كثيرا. وتابعت: “لكن المدير كان يرفض دخوله دورة المياه ويأمره بمباشرة عمله”. وأكدت أن “المدير بيعامل الموظفين في الشركة زي الخرفان. أهم حاجة عنده يحقق التارجت المطلوب منه عشان المدير الأجنبي للشركة يصرف له بدلات لإنجازه العمل”.

وأوضحت النيابة في بيان لها أنها تلقت بلاغا بقفز موظف من الطابق الثالث بشركة خاصة بالتجمع الخامس بالقاهرة الجديدة، ووفاته خلال نقله للمستشفى فباشرت التحققات.

وانتقلت النيابة لمناظرة جثمان الموظف “نور الدين” وتبينت ما به من إصابات. وطالعت مقاطع سجلتها آلات المراقبة بالشركة أظهرت صعود المتوفى إلى الطابق الثالث وقفزه من علو.

كما سألت النيابة العامة شهودا على الواقعة وبعضا من أهالي المتوفى فأكدوا ذات الرواية.

وأمرت النيابة العامة بندب أحد الأطباء الشرعيين لتشريح جثمان المتوفى بيانا لما به من إصابات وكيفية حدوثها وصولا لسبب الوفاة. وكلفت الشرطة بالتحري حول الواقعة ومدى وجود شبهة جنائية بها من عدمه.

وأكدت النيابة أن تحقيقاتها في الواقعة حتى تاريخه لم تقطع بالأسباب التي دفعت المتوفى للانتحار. وتوصلت فقط إلى أنه ألقى بنفسه من علو بالشركة المذكورة. مؤكدة أنه لا صحة لما أثير مؤخرا من حدوث حريق أتلف ما سجلته آلات مراقبة الشركة محل الواقعة.

تخويف بكروت الخصم

حكت زميلة “نور” أنه كان “يمر بضائقة مالية وتعسر في 15 ألف جنيه بجانب ديون أخرى يسددها بدله السنوي. ولكن قرار المدير بفصله جعله يُنهي حياته”. وتابعت: “الشركة ماشية بنظام الكروت. أصفر وبرتقالي وأحمر وأسود ثم الرفد”. وحكت أنها تواصلت مع مديرتها لتعرّضها لنزيف من الضغط النفسي. لكن المديرة –حسب قولها- قالت لها إنها “ستحصل على كارت أحمر ثم أسود ثم رفد”.

وتشير الموظفة إلى أن كل هذه الضغوط المادية تحدث إلى جوار ضغوط إهانته من عملاء عبر المكالمات الهاتفية. وقالت إن على الموظف أن يستمر في عمله وتقبل الإهانات دون اعتراض بل عليه استقبال ذلك بابتسامة حسبما تأمره قواعد الشركة.

أشرف أحمد -مدير الموظف “المنتحر”- قال في تصريحات صحفية إن الأخير “كان يعاني مشكلات نفسية كثيرة قبل وفاته”. نافيا ما يتم تداوله من عدم السماح له بالدخول إلى دورة المياه وعدم صرف مستحقاته.  وأشار إلى أن “نور رسميا لا يعمل بالشركة لعدم استكماله بعض الأوراق طوال عامين ونصف مدة عمله بالشركة”. مؤكدا أن مستحقاته “كانت تصرف بشكل طبيعي”.

وعن كروت الإنذارية يوضح “أشرف” أن شيفت أي موظف 9 ساعات ولهم ساعة راحة”. وتابع: “لو خد ساعة وربع أو ساعة ونص بياخد كارت أصفر عشان نقوله أنت خدت راحة أكتر من المحددة”. وأكد أن هذا الكارت لا يترتب عليه أي خصومات مهما تعددت الإنذارات. مشيرا إلى أن طبيعة العمل لدى الشركة غير ما تحدث به البعض: “الأستاذ نور الله يرحمه لم يشتكِ أبدا من نظام العمل بالشركة”.

أصوات أخرى

لا توجد إحصاءات رسمية حول أعداد الملتحقين بوظيفة الكول سنتر في مصر. والتي كان “نور” يعمل بها في شركته”. إلا أن آراء وتقارير الخبراء تشير إلى أنها أكثر وظيفة تتصف بـ”التغير الدائم في كوادرها”. فضلا عن أنها تستقبل الأعداد الأكبر من الخريجين سنويا.

محمد فتحي -27 عاما- يشرح طبيعة عمل الكول سنتر. يقول: “يختلف من شركة لأخرى. فأنا أتلقى مكالمات عن طلبيات دواء نظرا لتخصصي في إحدى الصيدليات. وعملي هنا أقل ضغطا مقارنة بمجالات الكول سنتر الأخرى”.

العمل “الأقل ضغطا” من وجهة نظر “محمد” يسبب له مشكلات صحية. حيث يعاني آلاما شديدة بالرقبة والأذن. يقول: “أعمل 9 ساعات منها ساعة بريك مقسمة على 4 مرات”. وتابع: “أنا مش بعيد عن فكرة الخصومات في كل شركة أشتغل فيها”. وأوضح: “إنْ تأخرت في الرد على مكالمة أو طالت مدة مكالمة يتم الخصم من الحافز الشهري”.

يروي “محمد” أنه استمع إلى حكايات عديدة تتعلق بالضغط النفسي على الموظفين خاصة الطلاب الذين يتلحقون بذلك العمل نظرا لاحتياجهم إيه ماديا. “شغل كتير 8 ساعات متواصل أمام مرتب ضئيل. بيحاسبونا على الوقت الذي قمت فيه بالرد على العميل ومدة المكالمة. وإن أخطأت في قول صباح الخير بدلا من مساء الخير”.

ضحايا عالم السماعة في الكول سنتر

تقول “ريهام” إحدى العاملات بشركات “الأوت سورس” إنها تخيلت أن ما تراه على شاشات التليفزيون من “عالم السماعة” يبدو حقيقيا. لكن تلك النظرة تبدلت بعد التحاقها بالعمل: “اتصدمت بعد تدريب شهر في الشركة أن الراتب 2500 جنيه مقابل 6 أيام أسبوعيا و9 ساعات يوميا. والإجازة يوم واحد بس وليس يومين. وساعة راحة”.

يختلف وضع “ريهام” عن “هشام” الذي يضطر إلى تبديل أوقات “شيفتات” عمله أسبوعيا. فبدلا من 9 لـ7 مساء يكون عليه العمل من 1 ليلا لـ10 صباحا: “أعاني من مرض الضغط نظرا لكثرة العمل والضغط العصبي لأنه ليس هناك مفر من العقاب وتحقيق الخصومات. بجانب التعرض لاضطرابات في الساعة البيولوجية مع تلقي بين 150 و200 مكالمة يوميا”.

أما “هدير” -تعمل بإحدى الشركات التابعة للأبحاث التسويقية- فقالت إن طبيعة العمل لدى الشركة هي بالحضور صباحا في العاشرة حتى السادسة مساء. وتضيف: “خلال ساعات العمل تلك لا يتم السماح لنا بالحصول على بريك أكثر من 5 دقائق بين المكالمة والأخرى. مع الحصول على بريك لمدة نصف ساعة في منتصف اليوم”.

تستكمل “هدير” معاناتها: “باتعرض في عملي عبر السماعة إلى التحرش والأذى النفسي. ولا يكون بإمكاني وقف ذلك لأن الشركة مالهاش دعوة بالحاجات دي”. وتابعت: “3 أخطاء في الشهر كفيلة بإنهاء علاقتك بالعمل” بجانب الأعراض المرضية التي تعرضت لها: “آلام بالظهر والرقبة والأذن غير الضغط العصبي”.