“البداية” فيلم يحكي قصة مجموعة بشرية متنوعة سقطت بهم الطائرة في واحة وسط الصحراء، يحاولون التأقلم مع المكان، وتأسيس مجتمع جديد، يلعب أحدهم معهم لعبة “ملك وكتابة” على ملكية الواحة، يشاركونه من قبيل التسلية، لكنه حين يفوز، يحول اللعبة إلى حقيقة، ويقنعهم أن هذه الواحة ملكه وحده، منحها الله له، ولا يحق لأحدٍ منهم أن يأكل من “بلحها” إلا بإذنه، واستخدم في فرض سطوته وسلطته المسدس الذي في يده، ثم كان الدين هو السلاح الآخر الذي راح يثبت به سلطته على الواحة، معتمدًا على جهل أغلبيتهم ونفاق بعضهم وشراء البعض الآخر، ببضعة تمرات.
الرأي الآخر تجسد في المثقف رسام الكاريكاتير اليساري الذي رفض اللعبة ونتائجها، وراح يحذر الجميع من التسلط والاستبداد، ولكن الديكتاتور يقرر التخلص من عدوه مستغلًا الدين وجهل المواطنين، يقول لهم في مشهد ثري بالدلالات: “الأرض دي أرضي، ربنا أعطاها لي، والشخص ده عاوز يسمم أفكاركم، ده كافر، مالوش ملة، أقولكم إيه تاني؟ طب ده ديمقراطي، وعمره ما ها يورد على جنة”، فيرد المواطن الملعوب في وعيه مستنكرًا ومستغفرًا: “ديمقراطي؟، معقول؟، يا ساتر استر يا رب، ديموقراطي، لا لا يا ولاد لا، ما توصلش لحد كده أبدًا”.
**
البداية في الواقع كانت من لحظة إنهاء عصر الخلافة الراشدة، وبدء توريث الحكم، وكان “الحسن بن علي بن أبي طالب” تنازل عن الخلافة حقناً لدماء المسلمين، وبايع “معاوية بن أبي سفيان” على ما بايع المسلمون عليه أبا بكر، وعمر، وأن يسير بسيرتهم، وأن الأمر يعود للمسلمين لاختيار خليفتهم بعد وفاة “معاوية”، وهو ما لم يحدث، حيث انتقل الحكم بعد ذلك بالتوريث.
البداية كانت السياسة، وكان الحكم هو أول خلاف وأول شقاق في الإسلام، وفي هذا يقول الأشعري: إن أول خلاف بين المسلمين بعد وفاة نبيهم صلى الله عليه وسلم كان حول الإمامة”. كانت الإمامة (الحكم) هي أول منافذ الضعف في الأمة الإسلامية، تلك التي دخلت منها السياسة التي أورثت العرب والأمة العداوة والبغضاء، ودفعت بهم إلى أتون الحروب والتصفيات، ثم استقرت بهم على شواطئ حكم الاستبداد، وقد أجمع المؤرخون على أن تقاليد الإسلام في الحكم قد تحولت عن مجراها الرشيد على عهد معاوية وأسرته.
**
ونحن نلقي نظرة سريعة على ما جرى عبر خمسة عشر قرنًا من الزمان نجد أن أخطر ما يواجهه الإنسان المسلم اليوم هو الإرهاب السياسي الذي صادر إرادته وحريته، وباتت شعوب العالم الإسلامي لا تملك مصيرها السياسي، ولا تملك حق إبداء الرأي أو مناقشة السياسة القائمة، والمشاركة في التخطيط لشؤونها ومصالحها.
ولا يمكننا تصور أي تجديد أو إصلاح لا يبدأ بإخراج الدين من خدمة السياسة، فحيث فسدت السياسة أفسدت الدين، والمجتمعات العربية والإسلامية في حاجة ماسة إلى عملية مزدوجة تجمع بين تحرير الدين من قبضة السياسة، وتحريره من قبضة أي جماعة تحاول أن تمسك به أو تحتكره، وأن تستغله في تحقيق أهدافًا سياسية. فلا يجب أن يكون الدين مطية الحكومات المستبدة لتمكينها من استمرار حكمها، ولا يجوز في نفس الوقت أن يكون مطية لجماعة أو مجموعة تستهدف الوصول إلى السلطة، وكل من يطرح الدين باعتباره مشروعًا للسلطة، أو يتذرع بأن الوصول إلى السلطة ضروري لحراسة الدين ونشره، هو في حقيقة الأمر يتلاعب بالدين، ويوظفه في خدمة تطلعاته وأهدافه الدنيوية.
**
أسوأ ما جاء به توريث الحكم هو الزاوية التي ينظر من خلالها إلى الشعب، كأنهم متاع يورث، أو كأنهم عبيد لا يملكون من أمرهم شيئًا، يتم تداولهم بالتوريث أو بالسيف والغصب. جرى ذلك كله ليس لنقص في الإسلام، فالإسلام والاستبداد ضدان، والحرية مبدأ أصيل في الإسلام، ليس هذا فقط، بل هي واحدة من أهم مقاصد الشريعة، وفي رأينا أنها على الحقيقة أسمى مقاصد الشريعة، والإسلام أقام الحياة السياسية على أساس الحرية، أقامها على أساس الشورى ومشاركة الأمة ورقابتها للسلطة، وثبت هذا المبدأ في كتابه الكريم في وصف حال مجتمع المسلمين بقوله: “وأمرهم شورى بينهم” (الشورى 38).
وحين استبدت السياسة بالدين استبد الحكام بالمواطنين، هكذا في كل التاريخ البشري، وفي التاريخ العربي خصوصا، والغريب أن ما جرى على صفحات التاريخ الإسلامي من مصادرة للحرية باسم الدين تم رغم أن الحرية هي المقصود الأعظم للشريعة الإسلامية.
والحق أن بدء انتقال الحُكم من الشورى إلى المبايعة بالسيف كان بمنزلة خلع لواحد من أهم مقاصد الشريعة، وسُلبت أمة الإسلام حريتها، وسِيقت عبر تاريخ طويل من الاستبداد إلى حيث هي الآن، في ذيل الأمم تخلفا من بعد تخلف، تتقلب فيه منذ عقود من الدهر.
جرى كل ذلك بينما انهمك العلماء في التنظير والتقعيد لعلوم شتى، ولفقهٍ عظيم، ابتعدوا، أو أبعدوا، عن تقعيد «فقه الحرية» والتنظير له، وهو ـ في رأينا ـ الفقه الغائب، وهو الفقه المطلوب الآن أكثر من أي وقت مضى. وليس هناك خلاف مُعتَبر حول أننا بحاجة إلى أن نعيد التفكير ملياً فيما استقرت عليه أقوال العلماء حول مقاصد الشريعة، ليس بغرض نقضها أو الاختلاف معها، فكل ما ذكره العلماء من مقاصد للشريعة صحيحٌ ولا خلاف عليه، ولكن ما نريد أن نعيد النظر فيه، ونمعن التفكير حوله هو ما جرى إغفاله ونراه أجدر بأن يكون أهم مقاصد الشريعة.
**
مطلوبٌ أن نؤسس لفقه تحتاج إليه الأمة وتتطلع إليه، حاجةٌ يفرضها واقعها، وتطلعٌ إلى ما يسهم في نهضتها. وليس من شكٍ في أن نهضة هذه الأمة مرهونة أولاً بتحرير العقل من الإرهاب الفكري، وأن يفسح أمامه المجال واسعا لينطلق، وليفكر وليبدع وليمارس دوره الملتزم في مجال المعرفة وتشخيص المسار والبحث عن سبل تصحيحه، ومرهونة ثانيا بإطلاق حريات الفكر والعقيدة والعبادة وصيانة حرية الابداع وحريات السلوك والتملك والعمل وعلى رأسها جميعا الحرية السياسية.
لقد انطلق الإسلام مع الإنسان الحر المختار، وفهم المسلمون الأوائل، وهم أعظم أمة الإسلام، أن الإسلام دين الحرية، وكان ذلك أعظم فهم للدين الجديد، قدم هذا المفهوم واضحا لا لبس فيه واحد من أعظم الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يأخذ حق المصري من ابن عمرو بن العاص، لم يكن انتصافا لحق فرد من الأمة ضد جور وقع عليه وفقط، بل راح يثبت عقيدة الحرية وهو يطرح سؤاله الذي يحمل أروع الإجابات: «متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا».
**
ما أعظم عمر، وما أعظمها من مقولة بقيت على مدار الزمن حتى استقرت في صدر «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» بعد أربعة عشر قرنا، لأنها قانون الحياة الذي كشف عنه الإسلام، ووعيه المسلمون الأوائل على حقيقته، وعملوا على أساسه، بل وجاهدوا لكي يحققوه في الواقع، حتى أن بدويا عمَّر الإسلام قلبه هو الصحابي ربعي بن عامر رضي الله عنه يقول لقائد الفرس الذي سأله: ما جاء بكم إلى بلادنا؟، فتأتي إجابته واضحة عميقة مدوية عبر الأزمنة: «جئنا نخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام».
وأكد علي بن أبي طالب رضي الله عنه رابع الخلفاء الراشدين على مبدأ حرية المسلمين في اختيار حكامهم، فقد قيل له وهو على فراش الموت: نولي بعدك الحسن (ابنه)، فقال: لا آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصَر.
هؤلاء هم النبت الطيب لغرس رسولنا الكريم، هم الجيل الذي بناه رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، فأحسن تربيتهم ورسخ بناءهم وأعاد صياغتهم، هم جيل البناة العظام، لم يتحدثوا عن الحرية بل مارسوها، لم يتحدثوا عن الشورى بل كانت حياتهم، وكان أمرهم شورى بينهم فتحولوا إلى أمة العدل والحرية.
**
محنة الشعوب المسلمة تتجسد في مصادرة حرية «الإنسان»، وسحق إرادته، وتسليط الاستعباد، والكبت الفكري، والتسلط السياسي عليه، ومصادرة إرادته وحريته، وواجب علماء المسلمين أن يؤسسوا اليوم، وقبل الغد، الفقه الأعظم الذي يحتاجه المسلم أكثر من أي فقه، أن يأسسوا ويقعدوا «فقه الحرية»، وأن يجعلوا من الحرية المقصد الأعظم للشريعة، فالشريعة حيثما يصلح حال «الإنسان»، وحيثما تدفع فساده، و«الإنسان» هو المقصود من الشريعة، وصلاح حاله مقصدها الأعظم، مع درء فساد هذا الحال، ولما كان «الإنسان» هو المهيمن على هذا العالم، كان في صلاحه صلاح العالم وأحواله.
يعالج الإسلام صلاح «الإنسان»، الفرد، والنوع، وأول صلاح الفرد إصلاح اعتقاده، وأول صلاح النوع الإنساني في إصلاح معاملاته، والمسلمون بحاجة الآن إلى تقعيد جديد لأسس نظرية جديدة لمقاصد الشريعة تعلي من تأثيرها في المحيط الإنساني كله، وفي رأينا المتواضع يجب أن تقوم هذه النظرية على مفاهيم وأسس متفق عليها.
**
أول هذه الأسس ونقطة البداية فيها أن نعترف بأن التوقف عند القول بالمقاصد الخمس التي أوردها الإمام الشاطبي في «الموافقات»، هو في الحقيقة تقصير في أداء واجب التدبر، وتعطيل لفريضة التفكير. ولابد أن ندرك أن التشريعات الوضعية تكاد تكون ألزمت نفسها بالعديد من المقاصد التي تضم مقاصد الشاطبي، وأجازف بالقول بأنها تكاد تكون تجاوزتها، ولذلك يتلعثم الكثير من المسلمين الآن أمام محاولات إثبات أن شريعة الإسلام تتضمن ما وصل إليه الغرب من تشريعات.
إن الدوران حول ما أورده الشاطبي من مقاصد للشريعة الإسلامية، يوقف حركة الاجتهاد حول «المقاصد»، وهي الحركة التي لا يجب أن تتوقف ما دام هناك إنسان قادر على التدبر في كتاب الله، والتفكير في خلق الله، ومفروض عليه إسلاميا أن يعمل فكره، كما أعمل السابقون فكرهم، وأن يقدم إسهامه، كما قدم السابقون إسهاماتهم، لم يوقفهم عن تقديم هذه الإسهامات حديث عن التمسك بما قدمه السلف الصالح.
**
معلوم أن الشريعة تستهدف «الإنسان»، وتحافظ على دينه، ونفسه، وعقله، وماله، ونسله، وهي نزلت للإنسان، وهو المخاطب بها، المطلوب منه إقامتها، المستخلف لإقامة دين الله في الأرض، والشريعة يطبقها «الإنسان» على «الإنسان»، و«الإنسان» لا يكون إنسانا إلا إذا كان حرا، و«الإنسان» لا يكون مسلما إلا إذا كان حرا، فلا إسلام بدون حرية، لأن اعتناق الإسلام يجب أن يجيء نتيجة اختيار حر «لا إكراه في الدين»، والمكره على الإسلام لا يقبل منه إسلامه، يعني لا دين بلا حرية، فالحرية هي مدخل اعتناق الدين، وهي مناط التكليف الشرعي، ومن لا حرية لديه، لا دين له، ولا تكليف عليه.
مقصد الشريعة الأهم هو إبطال العبودية، وإطلاق الحرية، وتعميقها، ذلك لأن إبطال عبودية «الإنسان» لغير الله، فيه استرداد لحريته، وحفاظ على أمانته، التي أودعت لديه من خالقه، والراسخون في العلم يعرفون -يقينا- أن غاية الشرع الإلهي هي: كرامة «الإنسان»، وتحريره، وتحقيق السعادة له في الدارين: الأولى والآخرة.
**
ويجب أن يرسخ في التصور الاعتقادي للمسلم أن الحرية ليست مجرد مدخل إلى تحقيق الشريعة، بل هي قبل ذلك مدخل لتحقيق إنسانية البشر موضوع الشريعة وهدفها، وأن رسالة الدين هي: إخراج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد القهار، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان، إلى عدالة الإسلام.
باختصار: رسالة الإسلام هي الحرية، والحرية صنو الإسلام وكلاهما فطرة. وهي مقصد الشريعة الأسمى، وهي أصل من الأصول، بل هي أصل كل الأصول، وإلا تحول الدين من رسالته الأصلية بتخليص الناس من كل عبودية، إلى التخديم على الاستعباد والاستبداد، الذي هو أصل كل داء أصاب أمتنا الإسلامية على مر العصور.