تكشف تصريحات الفريق عبد الفتاح البرهان عن الاستعداد لعقد الانتخابات، ولكن بمدى زمني أكثر من عام، عن عمق الأزمة التي يجد فيها الرجل نفسه.. ويبدو أن أهم أسباب هذه الأزمة الممتدة هو قدرة الشارع السوداني على التحرك ضد المعادلة السياسية التي يحاول أن يفرضها بدعم مستتر من واشنطن.

وربما يكون أحد أسباب فاعلية الشارع السوداني -بعد عامين من ثورة لابد وأن تكون قد أنهكت الجميع- هي لجان المقاومة التي يقودها شباب استطاعوا أن ينظموا أنفسهم في أحياء العاصمة والمدن وبعض الأرياف، ويقودوا فاعلية شارع قد كفر ربما بالقوى السياسية السودانية، التي لم تستطع إنجاز حالة من توازن القوى مع المكون العسكري من شأنها أن تستطيع إنقاذ ثورة عظيمة أنجزها الشعب السوداني بكل فئاته.

وفضلا عن كل ذلك فقد شرعت لجان المقاومة في إجراء انتخابات في الأحياء السودانية استعدادا إما لتكوين المجلس التشريعي أو إجراء الانتخابات، وهي خطوة لم تشرع فيها حتى الآن أحزاب سياسية سودانية.

فما هي قصة لجان المقاومة؟ ولماذا تكونت؟ وهل من قوى سياسية وراءها؟ وهل تستطيع بالفعل إنقاذ الثورة السودانية بتحقيق أحد أهم أهدافها النهائية وهي الانتقال إلى حكم ديمقراطي؟ أم أن هذا المكون الشبابي يواجه تحديات وجودية قد لاتمكنه في النهاية من تحقيق أهدافه؟

قد يكون من أهم أسباب تكوين لجان المقاومة السودانية طبيعة الانتكاسات التي منيت بها الثورات السودانية الثلاث على مدى تاريخ استقلال السودان حيث أدمنت النخب السودانية فشلا متواليا كما يقول عنها منصور خالد، المفكر السوداني ووزير الخارجية الأسبق الذي كتب سفرا مهما من جزأين أسماه: النخبة السودانية وإدمان الفشل، وفيه شرح خالد حالة النخب السودانية تاريخيا بدرجة جعلت هذا السفر مطلوبا حاليا وبشدة في أوساط الشباب.

على أية حال، تبلور تقدير لجان المقاومة بشأن أسباب فشل الثورات السودانية في أنها تعود لعدم وجود بنية تحتية للثورة واقتصارها على النخب الحديثة هو أحد أهم أسباب فشل الثورات السودانية بطبيعة أداء القوى السياسية من ناحية، والضغوط التي تمت ممارستها ضدها من جانب المؤسسة العسكرية عليها من جانب آخر.

وقد تضاربت الرؤى الشبابية بشأن البداية الواقعية للجان المقاومة فهناك من ينسب فكرتها للحزب الشيوعي السوداني عام ١٩٩٠ كآلية لمقاومة انقلاب الإسلاميين، وهناك من يرى أنها بدأت مع عام ٢٠١٢ أي بداية الحراك الشعبي ضد البشير، وذلك نفيا لأي صلة لهذه اللجان بالأحزاب السياسية السودانية .

ويمكن القول إن الشباب قد عبرو عن أنفسهم في هذه المرحلة تحت أكثر من عنوان، كان أشهرها حركة “قرفنا” التي تم إعلانها في أكتوبر ٢٠٠٩ على خلفية بروز مؤشرات انفصال جنوب السودان، حيث نجحت “قرفنا” في خلق التواصل بين الشباب السوداني في الداخل والخارج عبر وسائل التواصل الاجتماعي وإيجاد التفاعل المطلوب في رفض نظام البشير .

وبطبيعة الحال لعبت هذه اللجان أدوارا محورية في ثورة ديسمبر ٢٠١٨، حيث إن نجاح هذه الثورة تم بفضل كبير منهم، كما أعطاهم مشروعية سياسية جعلت لجان المقاومة تقوم بأدوار السلطة التنفيذية أحيانا، من خلال توزيع المواد التموينية بعد أن تلاعب النظام المحلول بمقدرات الناس، وكانت حكومة الثورة قد عجزت عن مواجهة الحالة. أما على المستوى السياسي فربما يكون تجمع المهنيين هو الأقرب إلى لجان المقاومة إذ إن التحالف المؤقت بين الكيانين كان له أعظم الأثر في إزاحة نظام البشير، والنجاح في تدبير فاعلية الشارع السوداني حتى الآن ضد اتفاق البرهان وحمدوك .

يصنف شباب المقاومة أنفسهم كمستقلين عن كافة القوى السياسية أو التنظيمات الشبابية، ويطرح رموزهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي أطروحات تدعو لإعطاء فرص للشباب لقيادة بلاد مأزومة بالانقسام .

هذه الفاعلية رشحت لجان المقاومة أن تكون محلا لاهتمام وانتباه دولي، ذلك أن المبعوث الفرنسي للقرن الأفريقي قد أتى على ذكرهم  بانبهار في لقائي معه حول أمور لها علاقة بأفريقيا أكثر مما لها علاقة بالسودان، كما طلب لقاءهم رئيس بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لمساعدة الانتقال في السودان (يونيتامس) فولكر بيرتس، مرتين في أعقاب اتفاق ٢١ نوفمبر بين البرهان وحمدوك، وهو الاتفاق الذي ترفضه لجان المقاومة، بل إنهم رفعوا مذكرة بهذا الشأن لرئيس البعثة الأممية الذي عجز عن الموافقة على أن يكون لقاؤه بهم معلنا للرأي العام الداخلي والخارجي  .

في هذا السياق استقبل وفد منهم د. عبدالله حمدوك رئيس الوزراء في أعقاب توقيعه اتفاق ١٢ نوفمبر، في محاولة لشرح دوافعه للموافقة على عودته لمنصبه والتوقيع على الإعلان السياسي .

هذه الأدوار التي مارستها وماتزال لجان المقاومة جعلتها في بؤرة اهتمام المكونات السياسية السودانية، من كافة الاتجاهات، منهم من هو مع الثورة، ومنهم من هو ضدها ويسعى لاختراق هذه اللجان، وهو ما يجعل تحديات استمرار هذه اللجان كبيرة، وقدرتها على القيام بالأدوار التي تراها لازمة لتحقيق شعارات الثورة كبيرة، والتحديات التي تواجهها وجودية.

وربما تكون أهم التحديات التي تواجهها لجان المقاومة السودانية حاليا هي القدرة على التواصل مع من هم خارجها، وخصوصا من الأجيال المختلفة، فغالبا ما يقع الشباب الثوري في خطأ محوري، وهو أنهم وحدهم من صنعوا الثورة متجاهلين قانون التراكم الطبيعي حيث ساهمت أجيال قبلهم في إحداث تراكم المعارضة للنظام بينما كان التغير الكيفي في جيلهم .

التحدي الثاني هو النمو الأفقي لهذه اللجان، وحالة الانقسام بينهم والمنتجة لعشرات الصفحات على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما يعكس حالة شرذمة من نوع ما، ويجعل القدرة على التوافق ضعيفة، وبطبيعة الحال، لن تنتج قيادة من داخلهم متفقا عليها، تقود أي عملية تفاوضية قد تكون مطلوبة بشدة في المراحل المختلفة للأزمة السياسية السودانية .

وبطبيعة الحال، التعرض لمخاطر الاختراق موجودة طوال الوقت ضد لجان المقاومة، خصوصا مع فاعليتها في التحريض السياسي ضد اتفاق حمدوك والبرهان، وقد تكون محاولات الاختراق ليست مسئولية الداخل السوداني فقط، ولكنها أيضا قد تكون أحد أهداف كل القوى الإقليمية والدولية الداعمة لاتفاق ٢١ نوفمبر .

وفي تقديرنا أن مستقبل لجان المقاومة هو على المحك، ذلك أن عدم التوافق على قيادة لها، وعدم بلورة بلورة برنامج سياسي شامل يأخذ بعين الاعتبار كافة تعقيدات المشهد السوداني داخليا وخارجيا، فقد تكون لجان المقاومة مرشحة للتراجع عن الفاعلية الراهنة خصوصا مع عدم واقعية خطابها السياسي أحيانا، واشتداد القبضة الأمنية للمكون العسكري، وكذلك عدم مناصرة العواصم العالمية لأي طرح سياسي يتجاوز المكون العسكري، وكلها إجمالا تحديات تتطلب مستوى عال من القدرة على إدارة العلاقات مع مختلف الأطراف وخبرات سياسية واقعية .