حرّك المغني الأردني أدهم النابلسي، قطار الاحتجاب عن الفن، بما يحمله من تناقضات وتباين في الرأي، دينيًا وفنيًا، مما جعله وجبة دسمة لأحاديث السوشيال ميديا التي لا تنتهي، عندما تتقاذف فيما بينها أسئلة من قبيل: هل الفن حرام؟ فيرد آخرون وهل مصادرة الإبداع حلال؟. ماذا عن الحجاب، والاختلاط، ثم المستوى الأعلى في الأعمال السينمائية التي تجسد العلاقات العاطفية. الكلمة وسيلة، حلالها حلال وحرامها حرام، وهل ثمة كلمات حرام؟ حلقات متصلة منفصلة من الخلاف والجدل.

وسط هذه المشاهد المتداخلة بضجيج مواقع التواصل، يصعد أحد الفنانين إلى قمة الترند، معلنًا الاحتجاب عن الفن. بالنسبة للفنانات يعني غطاء الرأس إشارة على “ركوب” القطار. أما الرجال يحتجبون بـ”التوبة”، تلك التي جاءت امتدادًا لتاريخ طويل من اعتزال الفن، كانت إحدى حلقاته دعاة إسلاميون قدموا فتاوى تلامس مشاعر العامة، لكن الفارق أن قديما لم يكن الترند موجودًا، ما كان يجعل الهمس على المقاهي والصالات، قبل أن تنتقل الحفلات إلى فضاء يسع الملايين.

إمام الدعاة.. والمحتَجِبات

في برنامج “نظرة”، الذي يقدمه الإعلامي حمدي رزق عبر فضائية صدى البلد. اتهم الإعلامي مفيد فوزي الداعية الراحل محمد متولي الشعراوي بأنه “مهّد الطريق أمام الفكر المتطرف لكي يظهر ويتفشى في المجتمع”. واصفًا الدور الذي قام به في حجاب الفنانات في الثمانينات وأوائل التسعينات بأنه “تحريض”.

ففي عصر سادت فيه أفكار الجماعات الإسلامية المسلحة، برز الشعراوي، الملقب بـ”إمام الدعاة”، بحديث تميز بالسهولة والوسطية في الفكر وعدم التشدد والتعصب قياسًا لمن كانوا على الساحة وقتها. ما جعل الكثير من الفنانين والفنانات في الوسط الفني يلجؤون إلية لطلب المشورة. وكان سببًا في ارتداء العديد من الفنانات للحجاب، ما أثّر في آلاف النساء الأخريات.

الآن، يعود “ترند” الاعتزال الفني مرة أخرى بنيّة إرضاء الله عز وجل. لكن هذه المرة فإن المعتزلين من الفنانين الرجال.

الاعتزال لإرضاء الخالق

قبل أيام، أعلن المغني الأردني أدهم النابلسي، نجم X Factor 2013 عن اعتزاله الغناء بهدف إرضاء الله. وقام بحذف أغنياته التي حققت ما يقرب من مليار مشاهدة طيلة الأعوام السابقة. تاركًا فيديو الاعتزال الذي قال فيه نصًا: حبيت أعمل الفيديو أحكي خبر سعيد بالنسبة لي ولكم. حابب أقول إن كل شخص فينا لديه أحلام وأهداف يسعى لتحقيقها. ولكن حينما تصل لها هل تسأل نفسك حين تحققها ماذا ستفعل بعد ذلك؟

وأضاف: الهدف الرئيسي في الحياة هو رضاء الله مثلما قال في كتابه ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. مش مشكلة يكون عندك أهداف وتحاول تشتغل، ولكن يكون الهدف متناسق مع هدفك في الحياة في عبادة رب العالمين، وإنك تحاول تعمل الأحسن. الهدف الذي سعيت له ما يرضى رب العالمين، والحمد لله اعتزلت الغناء وأشكركم على دعمكم.

وبعد الهجوم عليه واتهامه بـ”تحريم الفن”، عاد نابلسي ليؤكد: “أنا مش شيخ أو مفتي علشان أقول الفن حلال أو حرام، احترم كل الناس، ومن حق كل إنسان التعبير عن رأيه”.

رغم الجدل الذي أحدثه القرار عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن قنبلة أشد كانت في الطريق إلى الجمهور، وهي حديث الفنان المصري تامر حسني بدوره عن التفكير في الاعتزال. وذلك على هامش إحيائه حفلًا جماهيريًا كبير ضمن فعاليات إكسبو دبي 2020.

وقال حسني في تصريحات لتلفزيون أبو ظبي على هامش الحفل: فكرة الاعتزال موجودة وأسبابها عديدة. وقلت من زمان إن فيه أحلام تانية عايز أحققها.

قبلهما بأعوام طويلة، أعلن المغني اللبناني فضل شاكر عن اعتزاله الغناء في الفترة من 2012 وحتى 2018. وقتها كان فضل داعمًا للثورة السورية، وتناثرت اتهامات حول انضمامه إلى جماعة الشيخ أحمد الأسير المتشددة.

توبة مُسلّحة

تكشف تصريحات فضل أن نية الاعتزال كانت موجودة لديه منذ فترة، ولكن كان ينقصه فقط توقيت اتخاذ القرار. ووصف مقربون منه وقت الاعتزال أنه عاش لسنوات صراعًا داخليًا مع نفسه، لشعوره بالتقصير تجاه دينه. وسط نزعة دينية واضحة في شخصيته عرفها عنه المقربون.

وقبيل إعلان القرار، اختفى فضل بشكل مفاجئ. ثم بدأ يظهر كثيرا في الجلسات الدينية، والتقطت له أكثر من صورة وهو يطلق لحيته، ويستمع للمحاضرات والخطب الدينية في المساجد. وقام بأداء فريضة الحج مرة والعمرة ثلاثة مرات، بعدها شعر بالراحة والسلام والطمأنينة الداخلية.

لكن علاقة فضل بالشيخ الأسير أدت إلى اتهامه بالإرهاب. حيث أصدرت المحكمة العسكرية الدائمة في لبنان، حكمين غيابيين في 16 ديسمبر/كانون الأول الماضي، بسجنه لمدة 22 عامًا مع الأشغال الشاقة. وفق ما ذكرت الوكالة الوطنية للأنباء.

قضى الحكم الأول بسجن فضل 15 عامًا بتهمة “التدخل في أعمال الإرهاب التي اقترفها إرهابيون مع علمه بالأمر عن طريق تقديم خدمات لوجستية لهم”. الثاني قضى بسجنه لمدة 7 أعوام، وتغريمه بخمسة ملايين ليرة لبنانية لـ “تمويل مجموعة أحمد الأسير المسلحة والإنفاق عليها وتأمين ثمن أسلحة وذخائر لها”.

الحكمان ليسا الأولين من نوعهما، ففي سبتمبر/أيلول 2017، قضت المحكمة ذاتها بسجن فضل 15 عامًا مع الأشغال الشاقة، تزامنًا مع إقرارها إعدام أحمد الأسير. بتهمة أن شاكر رافق الأسير، عام 2013، في المعارك التي دارت بين جماعة الأسير والجيش اللبناني، في قرية عبرا بمدينة صيدا، حيث أسفرت عن عشرات القتلى والجرحى من الطرفين.

وعلّق المغني العائد من الاعتزال: فليستدعوا الأسير، هو مسجون لديهم وليسألوه. وإذا ثبت أنني دفعت الأموال من أجل السلاح، فليحكموا عليَّ بالسجن 100 عام”.

الغناء ليس حرامًا

لم يكن الفنان الأردني الشاب مختلفًا كثيرًا عن نجم الجيل المصري أو اللبناني العائد من الاعتزال. ربما كان القرار مفاجئًا، لكنه جاء بعد فترة من التفكير. فخلال لقاء سابق مع برنامج ET بالعربي، قال نابلسي: “كنت أؤجل قرار الاعتزال دائمًا حتى جاء اليوم الذي استطعت أن أفعله. وأتمنى دائما ان أظل أصلح من أخطائي وأكون إنسانا أفضل”.

وعلى عكس مباركة الشعراوي للفنانات، واجه اعتزال نابلسي انتقادًا من دعاة غير معروفين بالتشدد. منهم الدكتور مبروك عطية، الذي أكد أن الغناء ليس محرمًا، بل المحرم هو “ما أثار فتنة ووصف عاطفة مزورة”.

وأوضح: الغناء ليس كله حراما. بدليل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في أسفاره يقول من ينشد من الليل، ليهونوا على الجيوش عناء السفر. والكلمة الطيبة تغني وتنشد ويحفظها الناس وجزى الله المغنى والملحن خيرًا. ولفت إلى أن الغناء المحرم “كل من دعا إلى ضلالة وقبلة ونحوها مما شاع بين الناس”. وشدد “ده حرام.. حرام”.

يأتي حديث عطية مناقضًا لتسونامي الاعتزال الذي اكتسح الوسط الفني المصري على يد الشعراوي. والذي عُرِف بأنه من أشهر مفسري القرآن الكريم في العالم، لما حققه أسلوبه المبسط وشرحه الممتع الجذّاب. واشتهر بحلقات خواطره الإيمانية حول القرآن الكريم.

وظهرت موجة ارتداء الحجاب التي باركها الشيخ الراحل منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وتضخمت في منتصف التسعينيات. ثم عادت مرة أخرى مع عام 2000. إلا أن المئات ممن ارتدين الحجاب في الألفية الجديدة قمن بخلعه بعد فترات متفاوتة، وأخريات توصلن إلى حل وسيط، يقضي بظهورهن مرة أخرى بـ”حجاب مودرن” إن صح التعبير.

حكايات الحجاب

شهدت فترة بداية التسعينات حجاب فنانات عِدة، منهن سهير رمزي وشهيرة ومديحة حمدي وعفاف شعيب، وأيضًا سوسن بدر التي خلعته سريعًا. وأيضا الراحلتين مديحة كامل وهالة فؤاد اللتان رحلتا دون التخلي عن الحجاب.

وتمتلئ صفحات الانترنت وأرشيف الصحف والكتب عن الشعراوي بقصصه مع اعتزال الفنانات. مثلما ذكر الدكتور محمود جامع في كتابه “عرفت الشعراوي” عن لقاء الشيخ بالفنانة الراحلة شادية بمحض الصدفة في مصعد كهربائي بأحد فنادق مكة المكرمة. حينها لم يتعرف عليها الشيخ، فبادرته هي بالتحية. رحب بها، وقالت له: “ربنا يغفر لنا”، فردّ: “إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ”.

تلك الكلمات التي خرجت من الشيخ عام 1984 علقت بذهن شادية. وبعد عودتها لمصر، سألت عن منزل الشيخ الشعراوي في الحسين، وذهبت إليه، وبعد مقابلة طويلة خرجت مقررة اعتزال الفن إلى الأبد، وارتداء الحجاب.

أمّا الفنانة سهير رمزي، فتركت الحياة الفنية التي اشتهرت فيها بأدوار الإغراء في عام 1993، قررت فجأة ارتداء الحجاب واعتزال الفن. موضحة أن الشعراوي كان السبب في حجابها، ووصفته بـ”أقرب داعية إسلامية لقلبها”، وأنها دائمًا ما كانت تتعلم منه أصول الدين الإسلامي بعيدًا عن التشدد والتعصب. وكانت تستشيره في أمور دينها ودنياها، مثل حكم الأموال التي كسبتها من الفن.

حجاب الألفية

أمّا حجاب الألفية الثالثة، فقد وقف وراءه عدد من الدعاة الجدد، مثل عمرو خالد ومعز مسعود. وشملت عدد كبير من الفنانات اللاتي كنّ في أوج شهرتهن. بينهن حنان ترك، وعبير صبري، ومنى عبد الغني، وشاهيناز، وحلا شيحة، وبسمة وهبة، وموناليزا، وإيمان العاصي. وكانت غادة عادل قد سبقتهن بعدة سنوات، ولحقتهن فيما بعد الفنانة هالة فاخر وصابرين اللتان ظهرتا بشعر مستعار في أعمال كثيرة حتى عادت صابرين وخلعته. فيما لا تزال تظهر الفنانات عبلة كامل ومنى عبد الغني وعفاف شعيب بالحجاب دومًا.

ورغم أن موجة خلع الحجاب في الأعوام السابقة، سواء في الوسط الفني أو على المستوى العام، تزامنت مع انتشار مقاطع غائبة لفتاوى أشهر الدعاة. والتي جعلت المتأثرين بهم يعيدون النظر في بعض قراراتهم التي اتخذوها بناء على ثقتهم فيما يقولون. لكن تأثير هؤلاء الدعاة -باختلاف أشكالهم وتطور العصر- لا زال يفتح الباب لاعتزال الفنانين الرجال وتحجب النساء.