ربما كان الملل من التكرار هو ما يكمن وراء انخفاض صوت الترند السنوي المعروف بـ”هل يجوز تهنئة غير المسلمين بأعيادهم؟” هذا العام، وربما اتخذ هذا السؤال -الذي مظهره الاستفهام وجوهره الكراهية- أشكالاً أخرى تركزت في “التبرؤ” من احتفالات رأس السنة/الكريسماس/عيد الميلاد المجيد. وهو تبرؤ يحاول أحيانًا اتخاذ أشكال ثقافية، بأن يصف تلك الأعياد بأن لها طابعًا غربيًا/أمريكيا في أغلب الأحيان، أو يتحدث بشكل أكثر صراحة، معتبرًا أنه لا يجوز للمسلم الاحتفال بأعياد غير المسلمين، ويزداد بالطبع سخط أولئك -من رافضي الفرحة والآخر معًا- عندما يكرر نجم بقيمة لاعب كرة القدم محمد صلاح احتفاله مع أسرته بشجرة عيد الميلاد في مقر إقامته بإنجلترا.
هو سخط بدأ يلفت انتباه المجتمع الغربي ويدفعه إلى نقاش أسبابه، خصوصًا أن احتفالات نهاية وبداية العام الميلادي هي احتفالات ذات صبغة عالمية، لا ترتبط شرطًا بالالتزام العقائدي، بل إن اتساع نطاق اللادينية في الغرب يجعل من معظم المحتفلين بالكريسماس في واقع الحال غير متدينيين من الأصل، وإنما يحتفظون ببهجة هذا الاحتفال ذي الطابع العائلي، الذي يجمع الأسرة ويفرح الأطفال بالهدايا، والكبار بالزيارات والاستبشار باستقبال العام الجديد، وهي أمور تسعد كل البشر بغض النظر عن طبيعة إيمانهم، إن شئت يمكن أن تشبهه “بالمسيحي الذي ينتظر شهر رمضان” أو “يشتري حلاوة المولد”، إنها طبيعة الإنسان ككائن اجتماعي يبحث عن الأمان بين الجموع وعن عدوى الفرح.
إن غضب قطاعات من المسلمين من الاحتفال بأعياد الميلاد حتى أن بعض البلدان المسلمة تمنع تلك الاحتفالات تمامًا، يجعل بعض غير المسلمين في غاية الدهشة حين يعلمون إن للمسيح والسيدة مريم العذراء مكانة بالغة الأهمية والاحترام في الدين الإسلامي ونصّه الأقدس القرآن الكريم. يصف القرآن عيسى المسيح في الآية 171 من سورة النساء (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ)، هكذا يبدو غريبًا للغاية، أن يغضب البعض كل هذا الغضب من الاحتفال بذكرى مولد “كلمة الله” المسيح بن مريم، ويجد البعض الآخر نفسه أمام تساؤل منطقي؛ ماذا لو لم يكن المسلمون يؤمنون بالمسيح ويصلون ويسلّمون على أمه مريم التي لها بدورها اسم واحدة من أعذب سور القرآن؟ إذا كانوا يرفضون الاحتفال بذكرى من لهما عندهم كل تلك القداسة، فماذا لو يكونوا يؤمنون بهما؟ ماذا لو كان “العنصر الآخر” في مصر من دين لا يعترف به الإسلام؟ لنكتفِ بالقول أنه لحسن الحظ أن الأمر ليس كذلك.
غير أنه لا وجود للوغاريتمات في تلك المسألة، فالمسلمون في انقسامهم المرير إلى سنة وشيعة، هم أشد عداوة، تؤمن كل طائفة منهما بأن الأخرى “أخطر على الأمة من إسرائيل”، وبالطبع، ليس المسلمون نموذجًا فريدًا في هذا السياق، فلطالما شهد العالم الصراعات المذهبية بين أصحاب الدين الواحد، غير أنها صراعات أبتعدت حين أبعدت المؤسسة الدينية عن الحكم، وأبعد الحكم عن الدين، وصار الجميع سواسية أمام الدولة، بينما هنا، كما نعرف، لا تزال علاقة الدين بالدولة تنتمي إلى أنماط العصور الوسطى، والأفدح أن ثمة من يريدها أن تغوص في الماضي أكثر.