أضاعت ليبيا فرصة الذهاب إلى الاستقرار، وإنهاء المراحل الانتقالية، عبر انتخابات كانت مقررة في 24 ديسمبر الجاري. واستقبلت عاما مجهول المصير، محملاً بالتخوفات السياسية والأمنية، التي تجعل البلد المنهك بفعل الصراعات عرضة لاستئناف الحرب في أي وقت.
الملف الليبي انتقل من حالة التفاؤل بإمكانية إجراء انتخابات حاسمة ومصيرية إلى حالة أقل أوصافها أنها مرتبكة. في المنتصف شهدت البلد حالة من الشد والجذب رافقها مغادرة المبعوث الأممي يان كوبيش مهمته التي سلمها للمبعوثة بالإنابة السابقة ستيفاني وليامز. التي كانت أشرفت على الاتفاق السياسي الأب الشرعي للعملية السياسية التي أنتجت حكومة الوحدة الوطنية.
لإلقاء نظرة فاحصة على مراحل العملية السياسية منذ الاتفاق السياسي حتى الإعلان عن تأجيل الانتخابات، تحدث محللون لـ”مصر 360″ عن الواقع الليبي:
من برلين إلى طبرق.. اختبار الحل السياسي
الملف الليبي تطور خلال هذا العام بعد مؤتمر برلين في نهاية العام السابق. ومن ثمّ بداية العام الجاري وعمل حكومة الوحدة الوطنية ومجلس رئاسي جديد. كان الأمل في ذلك الوقت أن يكون هناك موعد للانتخابات محدد بـ24 ديسمبر، مع توحيد المؤسسات وجعل الاستقرار جل اهتمامها. وهي بداية كانت مبشرة ببداية العام.
بدأت حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة بتقديم ميزانية للبرلمان، والتي اتضح أنها ميزانية متضخمة عن الميزانيات السابقة. ومن هنا بدأت الشكوك والتوجس بشأن استخدام المال العام للدعايا الانتخابية من قبل الدبيبة. ورغم حصوله على ثقة كبيرة من أعضاء البرلمان، لكن لاحقًا بدأت تتضاءل هذه الثقة ولم تعتمد الميزانية. ثم بدأ رئيس الحكومة في الإنفاق بدون اعتماد الميزانية.
أبرز مخرجات عملية برلين هو المسار الأمني، أو ما سمي بلجنة (5+5)، التي كانت لديها العديد من الجولات لخمسة عسكريين من القيادة العامة ومثلهم من القوات المسلحة التابعة لحكومة الوفاق آنذاك. وكانت هناك لقاءات مباشرة لحسب القوات الأجنبية، وحظيت بمباركة من المجتمع الدولي. لكنه لم تتم ترجمة ذلك بخطوات عملية وأصبح هذا الملف يتداول حتى يومنا هذا. ولا تزال القوات الأجنبية هي المسيطرة على الموقف الأمني، خاصة في غرب ليبيا.
محطات مربكة
أبرز المحطات الأمنية هو بقاء الميليشيات منتشرة في طرابلس. وبالتالي لم يكن لحكومة الوحدة الوطنية تحكم في قوة هذه القوات. وأصبحت تمثل تحديًا كبيرًا للحكومة، خاصة أنها لم تستطع تنفيذ العديد من القرارات بسبب معارضة المجموعات المسلحة لها. وهو السبب الرئيسي في عدم توحيد المؤسسة العسكرية.
في نوفمبر بعد أن أعلنت المفوضية العليا للانتخابات فتح باب الترشح للانتخابات الرئاسية والبرلمانية. كان المشهد يخيم عليه الرغبة في إجراء الانتخابات في الموعد الذي حدده الاتفاق السياسي. لكن الظهور المفاجئ لسيف الإسلام القذافي وإصرار الدبيبة على الترشح للانتخابات رغم تعهده في السابق بعدم الترشح. ومن هنا أصبح المشهد الانتخابي مرتبكًا.
وبعدها جاءت معركة الطعون الانتخابية التي كانت مرحلة ضيقة من ناحية الإطار الزمني، حيث استبعد البعض. لكن سرعان ما عادوا مرة أخرى بأحكام قضائية، ولم تصدر عن المفاوضية العليا للانتخابات القائمة النهائية، للانتخابات الرئاسية، بسبب تسييس هذه العملية الانتخابية بشكل كبير، والتحديات الأمنية. حتى انتهى الأمر بالعملية الانتخابية في ديسمبر بالتأجيل.
دخلنا في مرحلة انتقالية غامضة، خاصة في جلسات مجلس النواب الأخيرة. وبذلك يكون العام قد انتهى بدون انتخابات أو حتى خارطة طريق واضحة، رغم أن شهية الليبيين كانت منفحة على إجراء الانتخابات، بدليل تسجيل أكثر من 2.5 مليون ناخب في تسجلات الناخبين. اليوم نحن في عنق زجاجة خطير جدًا.
(الدكتور عاطف الحاسية)
أكاديمي ليبي ومستشار وفد تفاوض مجلس النواب سابقا، المرشح السابق لرئاسة حكومة الوحدة الوطنية عقب انتهاء اجتماعات ملتقى الحوار السياسي
————————–
المجتمع الدولي لم يحسم أمره تجاه ليبيا
بشكل عام أكد العام 2021 أن المجتمع الدولي لم يحسم أمره من الأزمة الليبية. وأن الخلافات الدولية بين القوى العظمى والصراع الإقليمي لايسمح لكل طرف بفقدان القوى المحلية المتحالفة معه للسلطة والنفوذ في مناطقهم. لذلك فشلت عملية إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والتي كانت مقرره في 24 ديسمبر نهاية العام.
هذا الأمر يصب في مصلحة الأطراف المحلية التي لازالت عمليا تفضل تقاسم السلطة وفق اتفاقات سياسية واستمرار مصالحها بدل خسارة هذا النفوذ والمكاسب السياسية والمالية عبر إجراء الانتخابات. ولعل المتابع للشأن الليبي سيكتشف أن أطراف النزاع اختلفت في كل شيء. ولم تتفق إلا على استمرار انتهاكات حقوق الإنسان والفساد المالي والإداري، وعدم توفير مناخ جيد لإجراء الانتخابات. خاصة ما يقوم به البرلمان ومجلس الدولة من تبادل أدوار لعرقلة إجراء الامنتخابات ليبقى كلاهما في السلطة.
(الحسين المسوري)
صحفي وباحث ليبي، متابع للشأن العام، ومشارك بالعديد من مقالات الرأي في صحف ليبية ولقاءات تلفزيونية
————————–
حدود التأثير المصري في الملف الليبي
الصراع في ليبيا تطور إلى قمته، وهي حافة التصادم بين قوى لها مصالح في ليبيا، كادت أن تتصارع بالسلاح. وليبيا تمثل جوارًا لمصر وبوابة للأمن القومي المصري. وبالتالي من يتمركز في شرق ليبيا يستطيع الاندفاع بسرعة وبسهولة إلى الحدود الغربية المصرية. وهذا كان خطًا لا يمكن قبول تجاوزه من أي قوى، وهو ما استنفر واستدعى تحديد مصر الخط الأحمر.
مصر عندما حددت خطًا أحمر، حددت بداية الصدام بالسلاح، وهو صدام لو حدث كان سيكون مروِّعًا بين قوتين إقليميتين كبار، مصر وتركيا. ولكنَّ متخذ القرار المصري على المستوى الاستراتيجي وهو يضع هذا الخط الأحمر كان يضع حدودًا للنزاع أو حدودًا لصدام المصالح وهو في إدارته للصراع كان يضع أمام عينيه الأمن القومي المصري والمصالح المصرية. مصالح جوار ومصالح تاريخ وجغرافية وقائمة كبيرة جدًا من المصالح المصرية. وهذا أوقف الصراع ووضع له حدودًا، وتحول الأمر إلى عملية تسوية سلمية جدية. وصلنا في هذه العملية برعاية قوى دولية ومؤتمرين في برلين وآخر في موسكو، وجهد دبلوماسي من قبل الأمم المتحدة وأطراف فاعلة متعددة ودول جوار ليبيا، ومؤتمرات في القاهرة وتدخل الأمم المتحدة ولجنة عسكرية 5+5 والتقاء الفرقاء الليبيين على مسودة أو مبادئ لوضع آلية حكم تعتمد على انتخابات شعبية. وجرى وضع نظام الحكم بمباركة دولية وتحذير من المساس به وإلا استدعى الأمر تدخلاً دوليًا.
مشكلات تكتيكية
لكن نشأت الكثير من المشكلات التكتيكية على الأرض. من قبيل وجود قوة أجنبية متمثلة في قوات تركيا أو مرتزقة يداروا من قبل تركيا أو روسيا. وفي الغرب الليبي أيضًا هناك تشكيلة واسعة من الانتماءات الجهوية والمذهبية، وميلشيات يمثلها قادة لهم مصالح فردية وذاتية. من ضمنها انتماءات دينية إسلامية متطرفة، منها بقايا لداعش ومجموعات لها علاقة بجماعة بوكو حرام ومجموعات لها انتماء سابق بالقاعدة.
انتقلت العملية السلمية إلى تحديد موعد محدد للانتخابات. وهذا استغرق وقتًا طويلاً واستغرقت اللجنة العسكرية أيضًا وقتًا طويلاً لدمج القوتين العسكريتين في شرق ليبيا وغربها. وجرى وضع شروط ومحددات للمرشحين وإطار لنظام الحكم في ليبيا، ولكن حدثت مشكلات على الأرض. فمازالت ليبيا تعاني وجود مرتزقة، وما زال التنافس على أشده بين قادة ميليشيات ومجموعات سياسية مؤثرة لها انتماء بالإخوان المسلمين. وظهور روافد للمؤيدين لنظام القذافي ونجله، وهو ما أدى لتعطل العملية السياسية الآن. لكن هناك أمل كبير على الحث الذاتي للوصول إلى بر الأمان بعقد الانتخابات.
مستقبل الدور المصري
مصر دورها جوهري وأساسي ولا غنى عنه، ولديها أوراق تأثير كبيرة جدًا. ولا يمكن إخراجها من معاهدة الاستقرار في ليبيا على الإطلاق. وبحكم ما بعد الاستقرار، تظل قوة العمل الرئيسية التي ستبنى ليبيا هي قوة مصرية، وخبرات مصرية، بوابة التجارة الرئيسية المفتوحة على ليبيا هي بوابة مصرية. فالجذب المصري جذب رئيسي وأساسي، والدور المصري فاعل واستراتيجي. لكن يتبقى توافق الليبيين على مصالحهم، والمصالح المتبادلة مع مصر.
وفي حال نجاح الحوار الجاري بين مصر وتركيا، سيتم تيسير وتسهيل عملية التسوية السلمية. ولكن يبقى السؤال: هل ستأخذ هذه الخطوة؟ تركيا تمر حاليًا بأزمة على المستوى السياسي، وهي أزمة توجهات في سياستها الخارجية.
تاريخيًا رأت تركيا أنّ لها مصالح مع الاتحاد الأوروبي، واتجهت غربًا بحكم أنها عضو في حلف الناتو. ثم أدركت أن الغرب لا يقبلها، فأعادت توجيه بوصلتها للاتجاه شرقًا، ناحية سوريا والعراق وإيران والخليج. ومع تقاطع المصالح الاستراتيجية في شرق المتوسط ما بين مخزونات كبيرة جدًا من الطاقة لإسرائيل ومصر واليونان وقبرص من دون تركيا. هذا أعادها مرة أخرى للبحث في دفاترها عن مبررات تاريخية عن استدعاء الأحلام العثمانية بأن ليبيا جوارها وادعت قسرًا بأنّ ثمة ليبيين من أصول تركيا. وأنها كانت تحكم منذ سنوات قليلة هذا الشاطئ الممتد، ولها في هذه الثروة. كما ادعوا أن مسؤوليهم لا يحتاجون إذنًا لزيارة طرابلس.
مصر وتركيا وبينهما ليبيا
مصر تتفهم كل هذه الأشياء، وإذا استطاعت تركيا أن تعبر أحلامها العثمانية واداعاءاتها الإقليمية وتنافسها مع مصر إقليميًا. وهو ليس أمرًا سهلاً، ستكون قد أحدثت تغيرًا رئيسًا ومحوريًا في السياسة الخارجية التركية. وستكون قد التقت مع مصر في إعادة تعريف المصالح المتبادلة ونطاقها الجغرافي. علمًا بأن إدارة مصر للتنافس مع الذي سعت إليه تركيا كانت إدارة رشيدة وعلى أعلى مستوى. حيث حددت مصر الصلات على مستوى العلاقات السياسية والدبلوماسية. وإن تُركت العلاقات التجارية تسير سيرًا طبيعيًا، والسوق المصرية ظل مفتوحة للسلع التركية.
وبالتالي إذا استطاعت تركيا التخلي عن هذه الأحلام، فستعود إلى علاقات متبادلة، وربما تتطور إلى ما هو أبعد من هذا. ولكن هناك أسباب ومبررات ودواعي ومحددات في ملف العلاقات المصرية التركية تُوقف التنسيق والتعاون بين بشأن ليبيا، كالدور التركي في سوريا والعراق وليبيا ودعم الإخوان المسلمين. وكلها إضرارًا بالمصالح المصرية.
السفير أحمد القويسني
مساعد وزير الخارجية للشؤون العربية السابق، الخبير في الشؤون العربية