أخبرتني وهي تحمل بيدها سيجارة في مشهد روائي بحت، كانت تقف في مطبخي أصفف الأطباق في آلة غسل الأواني، وكانت هي شاردة في نقطة ما تراها وحدها وتخبرني، “لا أعرف كيف احتملت كل هذه السنوات.. ولا لأي سبب كنت أصبر.. ولكنني الآن بعد خلاصي بقطع العلاقة عرفت السبب.. فقد كان: الأمل اللعين هو الذي يلاعبني كل شوية.. كلما تعبت كان يُرسل بصيصه فأظن أن القادم أفضل.. وكلما كانت تزداد علامات الضرب الزرقاء على جسدي كلما زاد الأمل.. شفتي العبط؟”
(1)
يقول علم النفس: إن العلاقات السامة “التوكسيك باللغة السوشيالية” لها أسباب كثيرة منها الأمل الذي كانت تتعلق به صديقتي، فكانت ترى أن هناك دائمًا فرصة للتغيير. كانت تفكر: نحن جميعًا نتغير وتختلف أفكارنا بمرور الوقت والتجارب والسنوات تعطينا مساحة للتفكير بهدوء وإعادة النظر وحتمًا سيدرك الطرف الآخر أنه يؤذيني وسيتوقف”. ولكن هذا لم يحدث معها ومع كثيرين، رجالاً ونساءً، علم النفس يشير إلى أنه إلى جانب الأمل هناك دوافع كثيرة للاستمرار في علاقة مؤذية.
(2)
حين كنت أصغر سنًا وأخف تركيزًا وأكثر حذاقة/تسرع، كنت أصدق كلمات الأغاني، آخذها كما هي، هو يحب هي تحب، هو يخون هي تكره، هو يتعذب هي تبحث وبحر الهوى غدار وكل البنات حلوين، فكل البنات تحبك، ولا يجب أن يذهب أحدهم لبيع المية في حارة السقايين، لا يصح. كانت الأمور الغنائية تبدو هكذا: بدون تفكير وكما هي، أكون في حالة معينة فأبحث عما يعادلها من أغنية وأديرها، أو أنتظرها على الراديو أو في رحلات الميكروباص الطويلة على الطرق حين يجود عليا الحظ بسائق سميّع.
فيما بعد ثقلت خطواتي وهدأت روحي وانتظمت أفكاري فصرت أقف كثيرًا عند الكلمات وأبحث عن الشاعر الذي أعجبتني كلماته واقرأ له وعنه، وأصبحت مع الوقت خبيرة نوعًا ما بطريقة الشعراء، فأعرف دون أن أبحث أن هذه كلمات فلان وأن هذه ألحان فلان، فأكسب دائما الرهان.. أو للصدق أحيانًا كثيرة، وحين اقتربت من الأربعينات صرت أكثر رصانة وصبرًا في سماع الأغاني القديمة، وربط حالات الكتابة عند الشعراء بحالته العاطفية. وهنا صرت أيضًا أكثر سخرية من الكلمات ليس تقليلاً منها -حاشا لله- ولا للحالة العاطفية، ولكنها سخرية مريرة، فصرت مشهورة بين الأصدقاء بصنع إيفيهات متعلقة بالأغاني، وصارت أكثر جملة تثير حفيظتي وألمي هي: “الحب كله نعيم”. صرت أصنع منها قوالب مختلفة اُخفي بها رثاء ذاتي وكل الأحباء، فمن ذا الذي ينعم يا سيدي رامي؟ هل أنت نعمت في حبك؟ أنت من كتب “هجرتك يمكن أنسى جفاك؟” أو “سهران لوحدي.. كان عهد جميل حاسد وعزول” عن أي نعيم كتبت؟ هل نلته يوما؟ لقد كنت يا سيدي في علاقة توكسيك أعزك الله.
هل نظرَت حبيبتك يومًا في عينيك حين قلت “يا قاسي بص ف عينيا وشوف إيه أنكتب فيها؟” هل صدقت حقًا أنها لم تنظر ولم تفقه؟ حسنا سأخبرك الحقيقة، فهي كانت تعلم تمامًا وكانت تشوف الحيرة في عينيك لما بتسلم وترى الشوق في عينيك راح يتكلم بس كانت بتستهبل، لم تكن تملك القدرة على حبك، ولكنها لم ترد أن تقطع أملك بها، فظللت هكذا خمسون عامًا ورضيت.
(3)
إلى جانب الأمل هناك دوافع كثيرة للاستمرار في علاقة مؤذية، يقول علم النفس إن من أهمها:
الخوف من الوحدة:
هذا الإحساس يدفع الطرف الذي يتعرض للأذى للاستمرار. فهو يتساءل دائمًا: ماذا لو فارقته؟ هل سأجد آخر يُحبني؟ هل سأظل بمفردي كثيرًا حتى أجد شخصًا ما؟ ماذا لو لم أجد أحدًا ما؟ ماذا لو لم يقبل بي أحد؟ وهذا السؤال الأخير ينقلنا للسبب التالي للاستمرار.
انعدام الثقة بالنفس:
دائمًا الطرف المؤذي ما يزرع بشكل تراكمي داخل الشخص الذي يؤذيه كم كبير من انعدام الثقة، أنه يمن عليه بوجوده.. وأنه لن يقبل بعيوبه أحدًا سواه، دائمًا ما يبروز أخطاءه بل ويخترع عيوبًا غير موجودة، ويحاول جاهدًا قطع علاقاته ببقية أصدقاؤه ومعارفه لسببين: الأول حتى لا يجد ملاذًا غيره فيظل معه يمارس عليه ألاعيبه النفسية وثانيًا حتى لا يجد دعمًا من أحد إذا فكر يومًا الشخص المُعنف أن يلجأ للمساعدة، وكذلك حتى لا يسمع عكس ما يقال له عن صورته عن نفسه، فتظل صورته كما يخبره بها الطرف الأول: غير محبوب وفاشل وغبي وشكله مش حلو فتتدنى نظرته لنفسه، فيقبل بأي معاملة يجود بها، وليحمد الله إذن على حب الشخص المؤذي له.. أليس كذلك؟
ليس لديه غيري:
بالرغم من أن الشخص المؤذي في العلاقة شخص يبدو للطرف الآخر قوي، عارف ومدرك لكل أمر، أذكى منه، يستطيع حل المشاكل جميعًا، الوحيد الذي يقدر على اتخاذ القرارات في العلاقة بل وفي حياة الطرف ال’خر الأضعف، فهو أدرى منه بالناسب له، بالرغم من كل هذا إلا أنه أيضًا يُسرسب له إحساس دائم بأنه سيضيع من دونه إذا رحل، أن هذا الشخص المؤذي القوي الكامل لن يصمد في الحياة من دونه، فهو يحتاجه بشدة وسوف يضيع إذا قرر وابتعد.. فيجد نفسه مُحاصرًا بين أمرين: أن يستمر معه ويستمر الأذى أم يرحل ويتحمل “ذنب” غير حقيقي تجاهه، معضلة حقًا.
(4)
على مدار 48 سنة، كان الشاعر الكبير أحمد رامي في علاقة حب من طرف واحد، وقد أزيد بنفسي وأقول إنها كانت علاقة سامة، يستغل فيها طرف حب طرف آخر في صنع تاريخه ومساعدته في وضع قدمه الهشة على أول الطريق. في عام 1942 عندما تغنت أم كلثوم بكلماته ” الصب تفضحه عيونه”، وكأن بها علامة على أولى خطوات الحب نحوها: نظرات العيون المفضوحة والتي لم تبال بها أم كلثوم، فاستمر يدعمها مؤلفًا وصديقًا ومستشارًا وحبيبًا وسميّعًا بين صفوف الجماهير.. فهل لم يكن يُدرك ما طبيعة العلاقة بينهما؟ أم كان يُدرك ويرضى وينشد النعيم؟
النعيم، أكثر كلمة كتبها أحمد رامي وتغنت بها السيدة التي لم تنعم عليه أبدًا يومًا، كتب: “الحب كله نعيم” و”قربك نعيم الروح” و”ألقى نعيم قلبي يوم ما ألتقيك جنبي” في أغنية واحدة، وهي عودت عيني على رؤياك، “صعبان عليه أنه اتمنى جنة قربك ونال مراده واتهنى في نعي م حبك” من أغنية هجرتك، “ما بين نعيمي و أنس الروح” في أغنية سهران لوحدي، “أنت اللي فات بنعيمه وراح” من أغنية جددت حبك ليه؟ حتى أنه كتب أغاني عديدة لمحمد عبد الوهاب كرر فيها كلمة النعيم مثل “ضحيت غرامي عشان هناكي وكان نعيمي كله هواكي” وأيضًا “ما كنش يخطر ببالي تشوف عيني النعيم” في عام 1933، و”يادي النعيم اللي أنت فيه يا قلبي” عام 1938.
(5)
هل كنت تبحث عن النعيم بتوقف المعاناة والاطمئنان إلى جانب الحبيب؟ أم كنت تكتفي أن تنعم فقط بالرؤية والوجود في حضرتها كصديق بين جمع الأصدقاء؟ كيف كنت تهنأ بهذه المعاناة وأرجوحة المعاملة بين الجود والمنع وبين الابتسام والأعراض؟ كيف واصلت الحديث لنا عن نعيم الحب كذبًا وأنت لم تذقه؟ كيف تخبرنا بأنك خلاص “هجرتك” ثم تقول في نفس الأبيات: “أطاوع في هواك قلبي وانسى الكل علشانك”، ثم يتجلى لي المثال الكامل على أنها كانت علاقة سامة بحتة رضيتها أنت عن طيب خاطر حين تقول: “ولما أشكي تخاصمني وتغضب لما أقولك يوم يا ظالمني”، ثم تستكمل كتابة الأشعار لها وتظل في “الفريندزون” تارة وتبقى حبًا من طرف واحد أحيانًا كثيرة، فلتخبرني الآن: أي نعيم يمتليء الحب به سيدي؟
(6)
ماذا كان يجب عليك أن تفعل يا سيدي؟ أن تحب نفسك أكثر، أن تبتعد وتدرك أنك تُضيع طاقتك في علاقة مؤذية، لن أقولك لك توكسيك لأنك لم تعرف السوشيال ميديا بعد ولا الهواتف المحمولة، ولكنك ألم تكن في حالة من الصراع النفسي والعاطفي، بالتأكيد لم تكن مرتاحًا، كنت ترتضي الفتات، وتوهم نفسك بأن الحب من طرف واحد ليس شيئًا سيئًا ويكفي منها نظرة أو لفتة تقدير حتى تُكمل وجودك جوارها، بينما هي تستغلك.
كان يجب أن تبتعد وتضع حدودًا للتعامل في الشغل والدعم في العمل لا أكثر، أنا لا ألومك ولكنني آمل ألا يصبح كثيرين مثلك، يبحثون عن النعيم ويتحدثون عنه بينما في الحقيقة هم كما كتبت أنت:
“ياللي تشكي م الهوى هوّن عليك واشتري قلب الحبيب بدموع عينيك إنت سلمته فؤادك قبل ماتعرف هواه وإنت هنيته ف ودادك وارتضيت منه جفاه”.
لا يجب أن نرتضي الجفاء.. لماذا؟ يجب أن نُحسن إلى أنفسنا.. أليس كذلك؟
يقول علم النفس إنه لا يجب أن نحزن حين ندرك أننا في علاقة سامة. فربما تكون من الدروس التي سنمر بها، وقد تكون فرصة جيدة للتعامل مع الأشخاص المختلفين، ويجب كذلك أن نعلم أن الألم أمر طبيعي لا يجب أن نخجل منه. ولكن الاستمرار في المعاناة قرار اختياري بحت وليس مفروضًا علينا، لا بأس أن نتألم، ولكن يجب أن نتقبل أنفسنا ونثق في ذواتنا وندرك قيمتها وحين نقرر الابتعاد لا يجب أن نخشى الوحدة.