حاولت تركيا تكرار التجربة الصينية في إضعاف قيمة الليرة من أجل منح صادراتها تنافسية أكبر. وجذب مزيد من السياح لكنها لم تحسب جيدا مشكلة الديون والفائدة وتفاقم التضخم.

الرئيس التركي أردوغان أوحى خيرا عن فلسفته حول تخفيض قيمة العملة في اجتماع لأحد لجان حزبه. بينما أكد أن صادرات بلاده بلغت 221 مليار دولار خلال 2021 لتصل إلى أعلى مستوى في تاريخ تركيا. فيما ضغوط أنقرة على البنك المركزي لخفض أسعار الفائدة جاءت بنتائج عكسية. وذلك مع ارتفاع تكاليف الاقتراض التي تؤثر على مناخ الاستثمار وتحول دون توسع الشركات. ما يعني أن طفرة التصدير ستفقد زخمها.

تسارع معدلات التضخم

ارتفع عائد السندات الحكومية لأجل 10 سنوات لمستوى بنهاية 2021. مع إحجام المستثمرين عن الدخول. مطالبين بعائد أعلى حقيقي. وذلك نتيجة تسارع معدلات التضخم.

مع تطبيق البنك المركزي التركي خفض أسعار الفائدة خلال سبتمبر الماضى ارتفع العائد على السندات الحكومية -استحقاق 2031- بأكثر من 7 نقاط مئوية. مسجلاً أعلى مستوى على الإطلاق عند 24.9%.

وأصبح الفارق يزيد على 10 نقاط مئوية فوق سعر الريبو القياسي للبنك. وهو أكبر معدل فائدة إضافي على الإطلاق. لكن المستثمرين قلقون من عجز السياسة النقدية عن احتواء التضخم. والذي يقترب من أعلى مستوياته منذ عقد.

اتفاقية إعادة الشراء “الريبو” تعتبر شكلا للاقتراض قصير الأجل. إذ يبيع الوكيل الضمان الأساسي للمستثمرين ويشتريه منهم مجددا بعد فترة وجيزة بسعر أعلى قليلاً.

الليرة والتضخم القياسي

تجاوز معدل التضخم السنوي بتركيا 21% في نوفمبر الماضي. فضلا عن أنه من المتوقع أن يتجاوز 30% في يناير مع قرار رفع أسعار الكهرباء بما يصل إلى 125% للمستهلكين التجاريين من أصحاب الطلب المرتفع. و50% للمنازل الأقل طلبا.

ارتفاع التضخم القياسي يتسبب في تآكل قيمة المدخرات بالعملة المحلية. بينما يقلل معدل الفائدة الحقيقي الذي يمثل الفارق بين الفائدة والتضخم.

أرقام التضخم أعلى كثيرا مما تعلنه حكومة أردوغان. فغرفة إسطنبول للتجارة قالت إن أسعار التجزئة بالمدينة سجلت زيادة سنوية للتضخم بنسبة 34.18%. وذلك بعدما ارتفعت أسعار الأدوات المنزلية بأكثر من 20% والأغذية بقرابة 15%.

نظرية أردوغان

بحسب وكالة بلومبيرج فإن التضخم من التحديات التي يواجهها أردوغان في وضع نظريته الاقتصادية غير التقليدية موضع التنفيذ. إذ هو يعتقد أن المعدلات المنخفضة للفائدة تحد من ارتفاع أسعار المستهلك.

لقد عمل “أردوغان” بقوة لخفض أسعار الفائدة بمقدار 500 نقطة أساس خلال الأشهر الأربعة الماضية إلى 14٪. وهو في هذا يعتقد بأن السياسات النقدية التيسيرية ستحفز النمو. لكن حتى إجراءاته الأخيرة لدعم الليرة لم تفعل شيئًا يذكر لكبح جماح العائدات -بحسب بلومبرج.

أوجداي توبكولار -مدير أصول نقدية في شركة رام كابيتال- يقول إن تركيا تخلت عن استخدام سلاح أسعار الفائدة وفقد البنك المركزي السيطرة على التضخم. بينما يرى أن زيادة تكاليف الاقتراض في السوق “نتيجة طبيعية”. وتابع: “مع ارتفاع معدل التضخم بالفعل لأكثر من 21% يستعد الأفراد والشركات للآثار التي قد يتسبب فيها إقرار مزيد من حزم التحفيز”.

ويطالب المودعون بفائدة أعلى على حسابات التوفير الخاصة بهم. فيما يحجم المستثمرون عن اتخاذ قرار. بينما ينتظرون حساب المخاطر. وهو ما يبدد أي منافع لسياسات البنك المركزي التيسيرية.

رفعت أوغلو -رئيس اتحاد الغرف والتبادلات السلعية- قال لـ”بلومبيرج” إن بعض أسعار الفائدة على القروض المصرفية قفزت إلى 35% مقابل مستوى متوقع عند 21%. وذلك قبل بدء دورة التيسير النقدي.

وصلت العملة التركية إلى 13.23 للدولار. لكنها لا تزال فوق أدنى مستوياتها على الإطلاق التي حققتها في 20 ديسمبر عند 18.36 دولار.

الليرة والتجربة الصينية

الخبيرة المصرفية المصرية بسنت فهمي ترى أن هناك مقاصد خفية من تعمد تركيا خفض قيمة عملتها يتعدى الإعلان الرسمى الخاص بجذب السياح والحد من أسعار المستهلك.

بحسب “بسنت” فإن أنقرة أرادت تكرار التجربة الصينية بخفض قيمة العملة التي كانت سببا في الحرب التجارية مع الولايات المتحدة. ما يفتح لصادراتها تنافسية أعلى عالميا.

وفقدت الليرة التركية ما يقرب من ثلث قيمتها خلال الربع الحالي مع اندفاع المستثمرين لشراء الدولار لحماية مدخراتهم.

تقول بسنت فهمي لـ”مصر٣٦٠” إن تركيا تريد جذب المزيد من السائحين في 2022. ومع عائدها بجانب الصادرات يمكنها إعادة تعزيز الاحتياطي النقدي.

انخفاض قيمة العملة يؤدي لارتفاع تكلفة الواردات. الأمر الذي يهدد بالدفع بمزيد من زيادات الأسعار على المستوى الداخلي. لكن أردوغان تركيزه أكبر على التصدير وتعزيز الاحتياطي.

يشير متوسط التقديرات في استطلاع بلومبيرج إلى ارتفاع تضخم أسعار المستهلك ست نقاط مئوية إلى 27.3% بقياس سنوي في ديسمبر.

إجراءات استثنائية لإنقاذ الليرة

هنا أعلن أردوغان عن مجموعة إجراءات استثنائية للمساعدة على وقف الاندفاع نحو العملات الأجنبية. إذ شملت الإجراءات استحداث نوع جديد من الحسابات المصرفية بالليرة التركية.

وتقوم الحكومة بالتعويض عن أي خسائر في العملة تتجاوز سعر الفائدة على الوديعة. كما تدخل البنك المركزي والبنوك الحكومية في سوق العملات هذا الشهر عبر بيع الدولار.

تقول “فهمي” إن سياسة أردوغان كان لها تأثير كبير على تصدير العقار. فمبيعات الشقق الفاخرة قفزت في تركيا مع انخفاض أسعارها عند تقييمها بالدولار. وهو ما يمثل موردا آخر للعملة الصعبة.

الليرة.. تجارب الصواب والخطأ

يخالف غالبية الاقتصاديين آراء الخبيرة المصرية. مؤكدين أن إجراءات أنقرة أدت لتخفيف الضغط قليلا على العملة. لكنها مخاطرة بالإثقال على الميزانية والدفع بمزيد من التضخم.

وقال أوجداي توبكولار -مدير أصول نقدية في شركة رام كابيتال: “بدلاً من رفع أسعار الفائدة أدخلت الحكومة الودائع المرتبطة بالعملات الأجنبية. وهذه طريقة تعتمد على تجارب الصواب والخطأ.. وقد تكون باهظة الثمن”.

وغير البنك المركزي التركي طريقة تحديد ما يسمى بـ”سعر التحويل”. والذي يتم استخدامه لقياس مستوى الليرة التركية مقابل العملات الرئيسية في تاريخ فتح الحسابات الجديدة.

مأساة دافعي الضرائب

واعتمد البنك طريقة استخدام أسعار شراء العملات الأجنبية المعلنة في ست أوقات مختلفة يومياً. وذلك بدلاً من مرة واحدة في اليوم واستخدام المعدل لقياس مستوى الليرة مقابل العملات الرئيسية في تاريخ فتح الحسابات الجديدة.

كان الرئيس التركي أعلن طرح ودائع آجلة بالليرة التركية لآجال 3 و6 و9 أشهر. وكذلك منح المودعين الفرق في سعر الصرف بين يوم الإيداع ويوم تسلم الوديعة. فيما كان أصحاب الودائع بالليرة هم من تحملوا خطورة التقلب الحاد في أسعار الصرف حتى الآن. لكن مع دقات دقائق العام الجديد سيتولى دافعو الضرائب -أي المواطنين- الخطورة الكاملة.