طرح داوود عبد السيد عبر فيلمه “أرض الخوف” ملخصا لمأساة آدم. هنالك تم رميه في صحرائه ليواجه مصيره الجديد بشخصيته الجديدة بعيدا عن عالم الجنة.. هنا أرض خوفك يا آدمُ. فاصنع منها وجودك. عش صراعك. وإن اخترت أن تأمن على ذاتك فاعلم ألن يكون لك فيها إلا أن تجوع وتعرى. أو ربما يجبرك اختيارك على مصاحبة العدم. فلن يراك أحد حينئذ. ستكون أنت العدم إن لم تتماهَ مع الوجود العفِن.
اعتزلنا داوود أم عزلناه؟
مقدمة ضرورية تميل إلى التفلسف تليق بمزامير المخرج/الكاتب/ صانع السينما الفلسفية الكبير داوود عبد السيد. أو المخرج “المعتزل” داوود عبد السيد بحسب ما راج عنه منذ مساء أمس. تلك المزامير التي فضلت أن تصمت وسط ضجيج المهرجانات. ليست مهرجانات موسيقى حمو بيكا ورفاقه. بل مهرجانات التيه السينمائي الذي تعيشه مصر. فلا شيء واضح في التيه إلا عِجل السامري. ذلك الكيان اللامع المكدس ذهبا. ذلك الكيان الذي ليس إلها لكنهم يجبرونه على لعب دور الإله.
المتابع لمنتَج السينما المصرية منذ سنوات طويلة قد يراها تغص في بركة من طين ذهبي. طين نشهق فيه كلما عثرنا على جملة حوار تحمل فكرا. طين يسعدنا فيه أداء الأكشن الرديء. طين يسعدنا فيه إفيهات الاستهلاك لنضحك. نضحك تماما على تلك الخيبة التي بلغناها. طين عميق السطح والسطحية لا يمكن لمجداف مخرج مثل داوود عبد السيد أن يتحرك فيه.
لم يعتزل “داوود” بل اعتزلناه. اعتزله المُشاهد الذي لا يريد أن يفكر. يريد أن يضحك. اعتزله المُشاهد الذي قالوا عنه إنه “عايز كده” لكنه في الحقيقة لم يعوزه شيء.
مزمور أول.. داوود منذ 6 سنوات
في عام 2015. أتذكر أن داوود عبد السيد كان يعمل على اللمسة الأخيرة لفيلمه “قدرات غير عادية”. حينها جمعتني مصادفة بمسؤول في الشركة السينمائية المنتجة للفيلم. والذي دعاني إلى مشاهدة نسخة قبل أخيرة من فيلم “داوود” الذي تنتجه الشركة. تفرّجنا. صمت تام بعد المشاهدة. قال لي المسؤول بشركة الإنتاج وهو يرتدي ثوب العُجب: “إيه رأيك؟”. رددت له كرة السؤال. فقال: “بص بصراحة أنا مافهمتش الفيلم نهائي ولا قادر أفهم ايه الحلو في كدا. إحنا كان يهمنا ننتج لداوود وخلاص”.
إذا كان هذا تحليل ووعي منتج سينمائي فما بالنا بمن هم دون ذلك!
تلك المصادفة وهذه الحوارية المؤلمة بيني وبين رجل يمثل الإنتاج السينمائي في مصر هي الحد الفاصل الذي يوقفنا لنفهم لماذا يقرر واحد كداوود عبد السيد أن يتوقف عن الإخراج السينمائي –هذا إن صح من نقلته عنه الصحافة.
نحن في تجارة سينمائية لا تفهم منتَجَها ولا أبعاده ولا دورها. تجارة لا تريد أن ترتفع حتى إلى إجادة صناعة عجل السامري ليعبده الناس ولو بالتماهي مع الغش. لقد تعاملوا مع “داوود” كأنه سلعة مركونة على أرفف التاريخ فأرادوا أن يعيدوا إنتاجه لعل سمعة شركتهم تكتسب شيئا من علو داوود عبد السيد.
داوود والمزمور الثاني
قيل لنا ونحن صغار نمارس لعبة الجري في مضمار ألعاب القوى: لا تخرج بتفكيرك عن حارتك. لا تلتفت إلى حارة الآخرين. هنا فقط تكسب السباق.
انتهى درس الجري. لكن داوود يأبى أن يكون حصان سبق يجري وحده دون منافسين يكدسون أفكارا وتجارب سينمائية. وإلا صار هو نشاز النشاز السينمائي. ومن ثم لا يروج إنتاجه فيصير خيل حكومة وسط طوفان من الاستهلاك السينمائي الغث. ربما هناك قصدية في أن يسود الرديء أصلا. وذلك عملا بمبدأ التجارة: “البضاعة السيئة تطرد الجيدة من الأسواق”.
ما دامت البضاعة الرديئة ستطرد أمثال داوود عبد السيد وكل داوود. فلماذا يبقى في مضمار البيع والشراء أصلا؟
لقد اختار الرجل –مثلما اخترنا له من قبل- أن يبتعد. فجأة بعد تداول أنباء “اعتزاله” العمل السينمائي. وذلك رفضا للبيئة السينمائية وما تقدمه من رخص. تثور السوشيال وتنفجر حزنا على خسران مخرج قلما يظهر مثله في زمن كزمننا الفقير في المواهب. كم من هذا الجمهور يُقبل على شراء تذكرة سينما لأفلام “اليومين دول”؟. كم روّج هذا الجمهور لأفلام التسلية التي طردت داوود وأمثاله من جنة السينما. لتفسح طريقا لكل عديمي الموهبة والمتاجرين بأذواقنا بتصدر المشهد؟
سؤال: هل حقا الجمهور حزين لخسارة داوود عبد السيد؟.
الإجابة: أشك.
مزمور ثالث
حين أعلن نزار قباني قديما اعتزاله الشعر علق المثقف والمفكر المصري الكبير طه حسين بأن نزار لو كان شاعرا حقيقيا فسيعود.
وفي تصريح للناقد الفني طارق الشناوي عن “اعتزال داوود” قال إنه يظن أنها “استراحة محارب وسيعود”.
وما بين التصريحين كثير من المفارقة والحزن.
لقد كانت البيئة دائما تحض على عودة كل أهل الفنون إلى فنونهم بعد “استراحة محارب”. فيما كان أولى بداوود أن يختفي في صمت. مثلما أرغمته أوضاع صناعة السينما على ذلك بالفعل منذ سنوات. لكنه قد يكون اعتقد أن إعلان اعتزاله يمثل حالة تمرد وتنبيه لمجتمع سينمائي غافل في وحل تسالي اللب.
سيمر نبأ “اعتزال داوود” -إن صحَّ- في أغلب الظن كما تمر صدماتنا في هذه الأيام. بسهولة تامة ستمر. فلم نعد في وقت نقف أمام الصدمات ونندهش ونحلل. بل إننا نُصدم لحظيا فنمر كالمشدوهين نحو أخبار أخرى أكثر صدمات وحزنا. كل شيء فقد جلاله فيما يبدو.. إذ لم يعد هناك اكتراث بأي خسارة -حتى وإن كانت بحجم فقدان مفكر السينما المصرية -داوود عبد السيد.
يا داوود خذ تسابيحك ومزمارك إلى راحتك الأبدية. اترك لنا سينما “اخطف واجري”. أي تذكرة سينما تلك التي تنتظر أن يكون ربحك من ورائها؟! لقد جاع سكان العالم –وأولهم المصريون- فلا دخل هنا يسمح لأحد بدفع تذكرة سينما. إلا ليخرج من همومه وهدومه ليضحك أو يشعر بجنون العظمة كبطل لهذا الزمان القاتل.
اذهب فربما تجد هناك أي “يحيى أبو دبورة” لتُعيد إنتاج البشرية في أرض خوفك.