بخطاب هادئ وشارح لأبعاد وتعقيدات المشهد السياسي، أعلن عبد الله حمدوك، استقالته من منصبه كأول رئيس وزراء للسودان بعد ثورة ديسمبر 2018.

استخدم حمدوك خطابا هادئا كرجل دولة، لكنه في غمرة الحديث عن الأزمة السياسية في بلاده كان حريصا على التأكيد على انتمائه لثورة ديسمبر، وعلى دفاعه عنها وعن كونها الطريق الوحيد الذي سيفضي إلى “سودان مدني ديمقراطي ناهض”.

رئيس الوزراء حمدوك كان قد تعرض لانقلاب عليه من قادة الجيش السوداني بعد أن قرروا عزله من منصبه قبل عدة أشهر، لكن هذا الانقلاب لم يستمر بعد تراجع العسكريين عن قرار عزله بفعل تحركات ومظاهرات شعبية غاضبة، وضغوط دولية كبيرة، أدت لهذا التراجع  عن الانقلاب الذي شمل حمدوك والوثيقة الدستورية التي تحكم الفترة الانتقالية في السودان..

قرار استقالة حمدوك فجر جدلا سياسيا كبيرا داخل السودان وخارجه، وانقسم المحللون إلى وجهتي نظر:

الأولى: ترى أن الاستقالة خسارة كبيرة للثورة السودانية وقواها، وأن حمدوك كان يمثل ضمانة بوجوده رئيسا للوزراء كأحد ممثلي الثورة بداخل السلطة وفي أحد مراكزها المهمة، وأن الاستقالة ستفتح الباب واسعا لانفراد القيادات العسكرية بالسلطة، وبالتبعية بكل القرارات والسياسات، وهو ما يمثل عمليا ضربة قوية للثورة السودانية التي لم ينفرد أحد أطراف المشهد السياسي بالسلطة منذ قيامها في ديسمبر من العام 2018، وتؤكد وجهة النظر هذه أن حمدوك كان عليه الاستمرار في السلطة والضغط من أجل فتح الباب للحوار بين قوى المجتمع السوداني لضمان انتقال سياسي سهل وآمن.

أما وجهة النظر الثانية، فترى أن قرار حمدوك بالاستقالة صائب، بل تؤكد أنه قرار تأخر كثيرا، وتبني وجهة نظرها على أن خروج حمدوك من السلطة يظهر القادة العسكريين باعتبارهم اختطفوا السلطة، وأن على الشعب أن يعاود ويستمر في ثورته ونضاله السلمي من أجل إسقاط الحكم العسكري بشكل كامل ونهائي، والبدء في انتقال السودان إلى الدولة المدنية الديمقراطية. وجهة النظر هذه تؤكد أن أي حديث عن حوار بين القوى السياسية السودانية وقادة الجيش هو مجرد وهم لن يقود لأي تقدم، وأن الحل الأمثل هو إسقاط الحكم العسكري بشكل كامل من أجل خروج السودان من طريق الحكم بالانقلابات العسكرية إلى الحكم الديمقراطي عن طريق المنافسة وصناديق الانتخابات.

تأني استقالة حمدوك في الوقت الذي تستمر فيه منذ أسابيع قوى الحرية والتغيير والقوى السياسية السودانية في مظاهراتها وضغوطها لتسليم السلطة بعد أن رفعوا شعار لا تفاوض ولا شراكة مع قيادات الجيش السوداني، وعلى رأسهم عبد الفتاح البرهان.

هذه الضغوط تؤكد أن قوى الثورة السودانية قد اختارت طريقا قد يكون هو الأصعب والأطول، لكنه في حال التخلص من الحكم العسكري في السودان سيكون النجاح الذي حققه هذا الطريق كبيرا ومدويا، وقد يكون البداية الحقيقية بالفعل لخلاص السودان من الحكم عن طريق الانقلابات العسكرية الذي استمر في السودان لعقود طويلة..

الأزمة السياسية في السودان معقدة بدرجة كبيرة، ففيها السياسي والاقتصادي والأمني، ومع ذلك فإن دلالات المشهد الآن تؤكد أن الشعب السوداني سيفرض كلمته في نهاية المطاف.