حسم رئيس الوزراء السوداني، عبد الله حمدوك، قرار استقالته من رئاسة الوزراء ليلة أمس. أنهى أكثر من عشرة أيام من التكهنات والتسريبات، ليبدأ السودان عامه الجديد في حالة من الهيجان الثوري ضد الشراكة مع العسكر أو الإبقاء على المجلس السيادي العسكري على رأس السلطة السياسية. ذلك مع فشل كل مبادرات ومساعي التوافق السياسي.
كان التحذير من مخاطر المستقبل والانزلاق نحو الفوضى وعدم الاستقرار أبرز ما جاء في كلمة عبد الله حمدوك. قال الرجل في بيان استقالته عبر التليفزيون السوداني الرسمي: حاولت بقدر استطاعتي أن أجنب بلادنا خطر الانزلاق نحو الكارثة. والآن تمر بلادنا بمنعطف خطير قد يهدد بقاءها كليًا، إن لم يتم تداركه عاجلاً. في ظل هذا الشتات داخل القوى السياسية والصراعات العدمية بين كل مكونات الانتقال. ورغم ما بذلت كي يحدث التوافق المنشود والضروري للإيفاء بما وعدنا به المواطن من أمن وسلام وعدالة وحقن للدماء، لكن ذلك لم يحدث.
استقالة حمدوك.. من الإطاحة للعودة فالرحيل
تأتي استقالة حمدوك بعد شهر من الاتفاق السياسي بينه وبين رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق عبد الفتاح البرهان في 22 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. وهو الاتفاق الذي عاد بموجبه إلى منصبه في رئاسة الوزراء.
نص الاتفاق على إجراء حوار بين كافة القوى السياسية لتأسيس المؤتمر الدستوري. ومن ثم الإسراع في استكمال جميع مؤسسات الحكم الانتقالي. بما يضمن انتقال السلطة لحكومة مدنية في موعدها. وهو ما جاء عقب الإطاحة بقوى إعلان الحرية والتغيير من عضوية مجلس السيادة الانتقالي. وقد ألحقه أن بدأت القوى العسكرية في الإفراج التدريجي عن المعتقلين السياسين. ذلك في خطوة بدت في بدايتها أنها ساهمت في التهدئة النسبية للمشهد العام المحتقن في البلاد.
على الأرض، واصل المتظاهرون احتجاجاتهم ضد الحكم العسكري، تحت شعارات “لا تفاوض، لا شراكة، لا شرعية”. وقد دعمتهم القوى السياسية التي حسمت موقفها برفض الحوار والمبادرات التي تبناها حمدوك. فيما حملته جزءًا من مسؤولية قتل المتظاهرين، بتعاونه مع المكون العسكري. وكان ذلك بمثابة شرارة زادت من تعقيد الأمور خلال ديسمبر الماضي. وفشلت كل محاولات التهدئة للشارع السوداني الملتهب، خاصة مع وقوع وسقوط ضحايا نتيجة عنف قوات الأمن وتعاملها مع المتظاهرين بالقوة.
يرى مراقبون للمشهد الحالي أن استقالة حمدوك لن تضع أي حلول أو مسارات للتهدئة خلال الفترة المقبلة. بل تجعل البلاد أمام تحدٍ ومفترق طرق وعر. في وقت تزيد التخوفات من انزلاق السودان إلى صراع غير معروف عواقبه. بينما لا تزال القوى السياسة غير موحدة على هدف أو مطالب بعينها.
أولى ردود الفعل على هذه الاستقالة كانت دعوة عدد من المجموعات المدنية اليوم لاستمرار التظاهر في شوارع الخرطوم وغيرها من المدن. وقد أعلنت هدفًا وحيدًا؛ استعادة الحكم المدني كاملاً في البلاد، ومواصلة الضغط على السلطات العسكرية لإجبارها على التنازل لحكم مدني ديمقراطي.
انقسام المدنيين الذي سرّع خطوات الانقلاب
في 25 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، أعلن القائد العام للقوات المسلحة ورئيس مجلس السيادة الانتقالي، الانقلاب على المكون المدني الشريك في الحكم عقب ثورة ديسمبر 2019، حسب الوثيقة الدستورية التي أقرت الشراكة بينهما في إدارة المرحلة الانتقالية وإجراء الانتخابات.
انقلاب البرهان حينها كان مدعومًا بالقوى الأمنية والعسكرية الأخرى في السودان، ومنها كالدعم السريع وبعض الميليشيات العسكرية.
هذه الشراكة التي انفضت في 25 أكتوبر كان واقعها العملي مجالاً واسعًا من التفاعلات والتجاذبات بين المكونين (المدني والعسكري). وقد شهدت فصولاً من التخوين وعدم الثقة ليس بين العسكر والمدنيين فقط. ولكن بين عناصر المكون المدني نفسه. وهو أمر ساهم وعجل بانقلاب العسكر وإزاحة المدنيين من المشهد السياسي.
شملت حركة الانقلاب وقتها حل حكومة حمدوك التي تكونت بالأساس وفق مبدأ المحاصصة وتمثيل القوى السياسية الممثلة في قوى إعلان الحرية والتغيير الذي كان الحاضنة السياسية للحكومة. وعقب شهر من وضع رئيس الوزراء السوداني قيد الإقامة الجبرية، وافق حمدوك على العودة للمشهد السياسي. وكان ذلك باتفاق سياسي مع الفريق عبد الفتاح البرهان. وقد شمل في مجمله التراجع عن بعض قرارات انقلاب أكتوبر، مع تشكيل حكومة تكنوقراط يكون هدفها الرئيسي إنقاذ الوضع الاقتصادي المتردي.
بين أهم بنود هذا الاتفاق أيضًا كان العمل على الدفع بمسارات الحوار من أجل التهدئة. وقد فشلت هذه الخطوة بامتياز، وأخفقت معها جميع مسارات الحوار والمحاولات التي بذلها حمدوك منذ عودته لمنصبه في نوفمبر الماضي. وهو ما ذكره في خطابه أمس: الوتيرة المتسارعة للتباعد والانقسام بين الشريكين، انعكس على مجمل مكونات الحكومة والمجتمع.. والأخطر من ذلك وصول تداعيات تلك الانقسامات إلى المجتمع ومكوناته المختلفة، فظهر خطاب الكراهية والتخوين وعدم الاعتراف بالآخر. وانسدّ أفق الحوار بين الجميع؛ كل ذلك جعل مسيرة الانتقال هشة ومليئة بالعقبات والتحديات.
الانقلاب باق.. المشهد السياسي بعد استقالة حمدوك
أكد حمدوك -في خطابه- أن جميع المبادرات التي تبدو في مجملها حلاً أمثل وسياق عام يمكن على إثره التفاهم والتفاوض ذهبت أدراج الرياح، ولم تجد طريقها للتوافق. بداية من مبادرة رئيس الوزراء “الأزمة الوطنية وقضايا الانتقال – الطريق إلى الأمام” في يونيو الماضي للتصدي للخلافات بين أطراف المكون المدني في قوى إعلان الحرية والتغيير. وما تلاها من خارطة الطريق في 15 أكتوبر 2021، والتي شملت أفكارًا ورجاءات لنبذ الفرقة والشتات والكف عن لغة التجريح والتخوين ووقف التصعيد بين مختلف الأطراف والجلوس للتحاور والنقاش وإعلاء مصلحة الوطن على كل مصلحة. ثم مبادرة خلية الأزمة (6+1) في 18 أكتوبر الماضي الداعية إلى إجراء حوار بين كافة مكونات الحكم وقوى الثورة. وفي الأخير بنود الاتفاق الإطاري مع المكون العسكري لإعادة مسار التحول المدني الديموقراطي، وحقن الدماء وإطلاق سراح المعتقلين والمحافظة على ما تحقق من إنجازات في العامين الماضيين، والتمسك بالوثيقة الدستورية الحاكمة للانتقال.
تبقى قرارات الطوارئ التي أعلنها البرهان في انقلاب أكتوبر هي العنصر الأبرز في تشكيل المشهد السياسي الحاكم في السودان الآن. وذلك في ظل استمرار إجراءات قطع الاتصالات والإنترنت بين حين وآخر، مع زيادة أعداد المتظاهرين في شوارع الخرطوم. وهو يتزامن مع إغلاق الجسور وانتشار كثيف لقوات الأمن على الطرقات والنقاط الرئيسية. فضلاً عن استمرار تعطيل بنود وثيقة الإعلان الدستوري. بينما تزيد الأزمات الاقتصادية والغلاء الطاحن، وسط ندرة في بعض السلع الاستراتيجية مع استمرار الأزمة في شرق السودان وإغلاق الموانئ الرئيسية والطرق التي تربطها ببعض أنحاء البلاد.
لقد تعقد المشهد السياسي المحتقن أكثر، وبات أصعب من أي مسارات يمكن أن يتخذها عبد الله حمدوك للعمل. وبات الحديث عن فاعلية أي قرار يكون من شأنه الإنقاذ الجزئي للوضع الراهن أمرًا مشكوك فيه.
كيف ترى القوى السياسية استقالة حمدوك؟
رغم مرور أكثر من شهر دون إعلان أي نجاح لمبادرات رئيس الوزراء أو قبولها بين الأطراف المتصارعة في السودان. الأمر الذي أنبأ سابقًا بحتمية الاستقالة، اختلفت ردود الفعل بين القوى السياسية في السودان حول خطوة حمدوك الأخيرة، وما ورد في خطابه من تحذيرات بشأن خطورة الوضع والاحتقان السياسي في الداخل. إذ وصف مني اركو مناوي، حاكم إقليم دارفور، استقالة حمدوك بأنها واحدة من تجليات الأزمة السياسية والاجتماعية المتراكمة التي لم تفهمها القوى السياسية التي ورثت البلاد في زمن غفلة أغلب الشعب. وقال في تدوينه على موقع تويتر “مازال المشوار طويل لا بديل للحوار والاعتراف بالبعض”.
ويرى تجمع المهنيين السودانيين، أن استقالة حمدوك من منصبه لن تقدم أو تؤخر شيئًا في طريق الثورة. خاصة وأن السلطة الحقيقية بيد المجلس العسكري. فيما طالب التجمع بتنحي قادة المجلس برئاسة قائد القوات المسلّحة عبد الفتاح البرهان.
بينما ينظر الحزب الجمهوري إلى الاستقالة باعتبارها إنذارا بمستقبل غير محمود العواقب. فـ”التشرذم السياسي الذي دفع رئيس الحكومة للاستقالة سيتسارع مدخلاً البلاد في نفقٍ مجهولٍ”.
وقد قال المتحدث الرسمي لحزب المؤتمر السوداني، نور الدين بابكر، أن “عودة حمدوك إلى منصبه بعد اتفاق مع رئيس مجلس السيادة لم تغير في المشهد شيئًا. حيث استمرت المظاهرات والحراك المناهض. مؤكدًا أن الشيء نفسه سيحدث بعد استقالته. بل على العكس، الجبهة المدنية بعد مغادرة رئيس الوزراء ستكون موحدة أكثر من أي وقت مضى، على حد قوله.
وهنا، يشير الأمين العام لحزب الأمة، الواثق البرير، إلى أن استقالة حمدوك سيكون لها تداعيات سياسية ودستورية كبيرة خلال الساعات المقبلة. وهو يلفت إلى حالة الارتباك السائدة في المشهد السياسي، والتخوف من أن تعيد هذه الاستقالة السودان إلى الحكم العسكري مؤقتًا. لكنه أيضًا يعتقد بأن استمرار الضغط الشعبي المحتمل ربما يدفع بالقيادة الحالية إلى تعيين رئيس وزراء مدني.
هل يستطيع قائد مدني جديد تشكيل حكومة وطنية؟
تشير التوقعات إلى أن الخطوة المقبلة ستكون محاولة إيجاد رئيس وزراء بديل لحمدوك. وذلك لحين تنفيذ تعهدات رئيس مجلس السيادة بإجراء الانتخابات وتسليم السلطة.
كان قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان قد تعهد في خطاب له في 1 يناير/كانون الثاني بتنظيم انتخابات نزيهة. قال حينها ونقلت عنه وكالة الأنباء السودانية، إن البلاد تمر بوضع عصيب ومحاطة بتحديات وأزمات هي في الواقع مهددات وجودية لا يمكن التغافل عنها. بينما حذر من التنازع حول السلطة والانفراد بها، وما ترتب عليه من إزهاق للأرواح وإتلاف للممتلكات وتعطيل لحياة الناس. وكلها أمور توجب على الجميع تحكيم صوت العقل. ذلك لأن التوافق طريقه قبول الحوار الجاد، وهو مفتوح للجميع، والسبيل الوحيد للحكم هو التفويض الشعبي عن طريق الانتخابات، على حد قوله.
وقد أكد البرهان في خطابه الأخير على تعهد بالمحافظة على الفترة الانتقالية ونجاحها واستكمال مهامها ومواصلة مسيرة السلام. إلى جانب بناء كل مؤسسات الحكم الانتقالي وتنظيم انتخابات حرة ونزيهة وشفافة في وقتها المُحدد. على أن يفٌوض فيها الشعب السوداني من يختاره لحكم البلاد.
ويبقى الرهان على قدرة اختيار قائد مدني جديد يشكل حكومة كفاءات وطنية مستقلة لاستكمال مسيرة الانتقال الديمقراطي، وصولاً إلى انتخابات مقررًا لها نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2023، محل شك في ظل استمرار التناحر والانشقاق بين صفوف القوى السياسية. وكانت سببًا في تعثر محاولات ومبادرات حمدوك لتشكيل حكومته لأكثر من شهر منذ عودته في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
ويتوقع مراقبون للمشهد السوداني أن تزيد استقالة حمدوك من الاحتقان في الشارع السوداني. ومن الواضح أيضًا أن السودانيين سيواصلون تظاهراتهم في الشارع وحتى الوصول لحكم مدني ديمقراطي. مع رفض أي قرارات أو اختيارات يأتي بها قائد القوات المسلحة عبد الفتاح البرهان، في ظل تفسير أغلب قراراته وفق مبدأ التخوين وعدم الثقة.
هل تنجح المبادرات المطروحة من السياسيين؟
المتابع للشأن السوداني يجد أنه لا توافق كامل على أي من القوى السياسية الآن، في ظل تباعد المواقف بين أطراف نفس الكيان السياسي نفسه في تفسير أي من الأحداث أو القرارات. وهو ما يمثل عقبة أو مسار للشك في مدى فاعلية أي من المبادارات أو الأفكار التي قد تطرح من قبل أي من القوى السياسية لاحتواء المشهد السياسي المحتقن بعد استقالة حمدوك.
كان حزب الأمة قد طرح عدة محاور لمبادرة سياسية. وهي تركز في مجملها على ضرورة العودة لمسار الانتقال السياسي. كما حثت على اعتماد الحوار كمبدأ لتجاوز الخلافات بين القوى السياسية والقائمين على أمر السلطة. وذلك باعتبار أن استقالة رئيس الوزراء من منصبه ستترتب عليها نتائج كارثية محليًا وخارجيًا. خاصة مع استمرار الاحتجاجات السلمية ومواجهتها بالعنف.
ويرى القائمون على حزب الأمة ضرورة اعتماد مبادرة موحدة من قبل القوى السياسية إزاء الوضع المهدد لأمن ووحدة السودان. وهم يسعون للتواصل مع كافة الفئات السياسية والمجتمعية في سبيل الجلوس إلى مائدة مستديرة تُمهد لقيام مؤتمر تأسيسي يحدث التوافق الشامل المفقود ومن ثم يستعيد المدنيون الشرعية.
وتشمل أفكار حزب الأمة 26 محورًا، إلى جانب العقد الاجتماعي الذي وضعه الراحل الصادق المهدي لإصلاح الحرية والتغيير. فضلاً عن اتفاق جوبا للسلام وتوصيات لجنة حزبية، وتشكيل المجلس التشريعي، وتكوين المفوضيات بما فيها مفوضية الانتخابات. وأيضًا إصلاح الخدمة المدنية وتوحيد القوات المسلحة. ذلك إلى جانب ملف فض الاعتصام وانتقال رئاسة مجلس السيادة للمدنيين. ثم إعادة النظر في الوثيقة الدستورية وبناء تحالف الحرية والتغيير ليضم كل القوى السياسية حتى تكون حاضنة للحكومة السودانية.
وترى بعض القوى السياسية في السودان أن التعجيل بإجراء الانتخابات سيكون جزءًا من حل الأزمة السياسية في السودان. وذلك بإخراج السودان من التفويض الثوري إلى التفويض الانتخابي. إلا أن هذا المسار يرفضه آخرون باعتبار أن الشارع أو الوضع السياسي العام غير مؤهل لإجراء انتخابات نزيهة تقبل نتيجتها كل الأطراف السياسية. وهو ما كان سببًا للخلاف والأزمة السياسية منذ بدايتها، مع رفض الأحزاب الأربعة الرئيسية في الحرية والتغيير إجراء الانتخابات.
ويرى مراقبون أن أي دعوات لتأجيل الانتخابات وحسم المسار الثوري ستكون له عواقب قد تصل إلى مزيد من تمسك العسكر بالسلطة. وبالتالي العودة إلى المربع صفر، إذا ما استمرت الخلافات بين القوى السياسية والتباين الشديد في المواقف مسيطرًا على المشهد السياسي.