بعد ثلاثة أشهر من تصاعد التوتر السياسي في السودان اضطر الدكتور عبدلله حمدوك للاستقالة من منصبه كرئيس لوزراء السودان. لأسباب فصلها الرجل في أمرين أساسيين. هما عدم وجود إرادة توافق عند الحد الأدنى لدى القوى السياسية السودانية. ووجود أجندة لدى المكوّن العسكري ليس لها علاقة بإرادة الشعب السوداني. والتي عبر عنها في ثورة ديسمبر، ومن عدم تعبيره عن الطموحات الشعبية في الانتقال الديمقراطي.

من هنا وطبقا لنص خطاب الاستقالة الذي بثه التليفزيون السوداني فإن البلاد في خطر داهم.

وطبقا لأطروحة “حمدوك” التي يودع بها مستقبله السياسي فإن السيناريوهات المتوقعة للتفاعلات السودانية تبدو في منتهى الخطورة في المرحلة القادمة. وربما تكون مرعبة. ذلك أنه وفي ضوء عدم التوافق الراهن والمتعدد المستويات بين المكونين المدني والعسكري أو في معسكر كل منهما فإن سيناريو المواجهة السياسية المفتوحة هي الأقرب للتوقعات تحت مظلة حالة التمترس الراهنة التي يمارسها الفرقاء السودانيون.

هذه المواجهة تعني تصاعد العنف في مواجهة التظاهرات السلمية من جانب الأجهزة الأمنية. والتي استعادت صلاحياتها القمعية كافة بموجب قرار صدر قبل نحو أسبوعين من جانب رئيس المجلس السيادي الفريق عبد الفتاح البرهان.

ويبدو المُشكل الأساسي في هذه المواجهة هي أن الطرف الشبابي المتظاهر يبدو غير قابل للقمع. ويضع روحه على كفه في هذه المواجهة، وهو ما يعني أن حجم الضحايا من المواجهة المفتوحة بين المكون العسكري والشعب مفتوحة أيضا. خصوصا في ضوء امتلاك لجان المقاومة آليات عمل تحت الأرض وشبكات تواصل اجتماعي واقعي. بغض النظر عن شبكات التواصل الافتراضية، وذلك في الأحياء، سواء بالعاصمة أو المدن المنتفضة في أنحاء السودان.

على الصعيد السياسي قد تتسبب هذه المواجهة في شرذمة معسكر المكون العسكري. والذي يضم قوات الدعم السريع بزعامة محمد حمدان دقلو. وهو الرجل الذي يمكن أن يغير ولاءه وانحيازه طبقا لمسار توازنات القوى وطبيعة الموقف الإقليمي. خصوصا الخليجي الذي يملك به علاقة عضوية. وعلى مستوى آخر فإن مؤسسة القوات المسلحة السودانية ينتابها تململ كبير قد يعبر عن نفسه في مراحل لاحقة بتمرد على القائد الأعلى. والذي قد يكون غير قابض بالشكل المناسب على مفاصل المؤسسة في ضوء إرهاقه السياسي من ناحية وإرهاقه الجسدي من ناحية أخرى. والذي بدا واضحا في أثناء إلقائه لخطاب تقليدي في عيد استقلال السودان الـ66.

الحاضنة السياسية التي يعتمد عليها المكون العسكري ضعيفة للغاية. ويشعر قادتها من الجبهة الثورية الموقعة على إتفاق سلام جوبا بالعبء الأخلاقي المترتب على وقوع شهداء في المظاهرات. كما أن تداعيات هذه المواجهة على مستقبلهم السياسي فادحة الخسارة في ضوء تاريخهم الذي كان مبرر تمردهم عن مركز الدولة هو الدعوة لدولة المواطنة المتساوية والديمقراطية.

أما على صعيد الحسابات السياسية فإن عدم وضوح مستقبل المكون العسكري نفسه الذي يتصدى لقيادة السودان راهنا يجعل قادة الجبهة الثورية لا يلقون كل بيضهم في سلة المكون العسكري.

بطبيعة الحال سوف يلجأ رئيس المجلس السيادي -الفريق البرهان- لإيجاد بديل لحمدوك كرئيس للوزراء. وهي مهمة قد فشل فيها على مدى شهر تقريبا قبل إعلان 21 نوفمبر بينه وبين “حمدوك”.

فمن غير المتوقع أن ينجح هذه المرة. وإن نجح فإن تسمية أى شخص من جانب الفريق “البرهان” سوف تكون مرفوضة من الشارع أيضا بعد أن أصبح رئيس المجلس السيادي الهدف المباشر للثوار في شعاراتهم وتحركاتهم بالشارع.

الاتجاه نحو عسكرة المشهد بالكامل هو أحد السيناريوهات المطروحة. ولكنه خيار سيكون باهظ التكاليف. لأنه في هذه الحالة سيأخذ المجتمع الدولي والاتحاد الأفريقي وربما الجامعة العربية موقفا سلبيا من الفريق “البرهان” سيكون له تكاليف سياسية واقتصادية على الرجل وعلى السودان معا. خصوصا أن تراجع الاحتياطي النقدي الأجنبي أصبح ملحوظا ومن غير المتوقع دعمه من أي جهة دولية تحت مظلة المشهد السياسي الراهن. وهو ما يجعل سعر الدولار مرشحا للصعود ومن ورائه أسعار السلع الأساسية. وهو ما يرفع بالتبعية حجم الغضب والاحتقان العام لدى معظم الفئات الاجتماعية السودانية.

أما على صعيد القوى السياسية السودانية فربما يكون ميثاق تجمع المهنيين والذي تم طرحه قبل استقالة حمدوك بساعات كاشفا عن حجم خبرة سياسية تحتاج إلى دعم كبير، وضرورة أن يلجأ تجمع المهنيين الى توسيع ماعون التشاور السياسي. ذلك أن طرح فكرة فترة انتقالية جديدة لمدة أربع سنوات يبدو طرحا مخاصما لمعطيات الواقع والمناخ السياسي الراهن وكذلك طبيعة توازناته الحرجة.

بالتوازي مع ذلك فإن مبادرة حزب “الأمة” التي تم طرحها للتوافق السياسي لم تجد استجابة من المكون العسكري رغم أن مَن طرحها هو اللواء فضل الله برمة رئيس الحزب الذي يملك علاقات مع المكون العسكري بحكم انتمائه المهني. حيث كانت نقطة ضعف هذه المبادرة هي الاعتماد على هيكل الشراكة بين المكونين المدني والعسكري. وهي الصيغة التي سقطت نهائيا في الشارع بعد انقلاب ٢٥ أكتوبر. حيث تعتبر القوى الثورية السودانية أن المكون العسكري قد ضرب صيغة الشراكة في مقتل. وأن هذه الصيغة لم تعد صالحة لتحقيق هدف التوافق السياسي السوداني. وأن المطلوب هو تسليم السلطة للمدنيين فقط وإنهاء كل علاقة بالمكون العسكري الذي مطلوب منه العودة لثكناته.

المطالب الثورية السودانية في تسليم السلطة للمدنيين لا تملك المصداقية الكافية لا على المستوى الإقليمي ولا الدولي. وذلك بسبب أن المدنيين أنفسهم لم يطرحوا برنامجا سياسيا متوافقا عليه ولا قيادة سياسية موحدة. وبالتالي في حالة الموافقة على تسليم السلطة للمدنيين فإن الجميع يتساءل: ”مع من نتحدث في السودان؟“.

إشكالية الصراع السياسي الراهن في السودان تتطلب تدخلا بحل. إما من الجانب الإقليمي أو الدولي للدفع نحو صيغة توافق سياسي سوداني. وهي خطوة سبق أن نجحت بمجهود من جانب الاتحاد الأفريقي عام 2019 وأنتجت صيغة الشراكة المدنية العسكرية.

ولكن الاتحاد الأفريقي لا يبدو حاليا قادرا على ممارسة أي نوع من الفاعلية في الأزمة السودانية. وذلك في ضوء الأوضاع في بلد مقره. إذ إن العاملين في مفوضية الاتحاد الأفريقي قد أغلقوا مكاتبها في أديس أبابا ورحل غير الإثيوبيين منهم.

على المستوى الخليجي فإن مبادرة من جانب المملكة العربية السعودية طرحت على الفريق عبد الفتاح البرهان مؤخرا طالبته باالتراجع عن سياسية غطرسة القوة التي يمارسها المكون العسكري ضد المتظاهرين.

وطبقا لتسريبات غير مؤكدة فإن هذه المبادرة تسعى لاستبدال الوجوه الصانعة للتوتر السياسي راهنا بوجوه جديدة مع توفير مخارج آمنة لبعض الرموز الفاعلة. وهو ما قد يلقى مقاومة وربما رفضا في هذه المرحلة بطبيعة الحال.

في هذا السياق تبدو العواصم العالمية قد فقدت شريكا فاعلا باستقالة “حمدوك”. وقد تكون في حاجة إلى خرائط طريق جديدة لتحديد جهة التفاعل مع دولة السودان بما لا يهدد بانفراط عقدها وانهيار مؤسساتها على النمط الصومالي.

إجمالا. معظم السيناريوهات المطروحة بعد استقالة “حمدوك” طبقا للمعطيات الراهنة لا تقود لا إلى هدوء ولا إلى استقرار في السودان. وهو ما سيضع على القاهرة أعباء إضافية لإدارة التفاعلات الناتجة عن غياب الاستقرار السياسي في البلدان المحيطة بمصر. فضلا عن تصاعد توتر مماثل في مناطق المصالح الحيوية بالقرن الأفريقي في كل من إثيوبيا والصومال وإريتريا.