في السابعة صباحًا، وقف أمام سجن طرة كعادته، ينتظر قدوم أهالي النزلاء. مهمة أمثاله أن يسجل القادمين في كشوف الزيارة، وعنده يودعون متعلقاتهم الشخصية. كما أنه يؤمن لمن يرغب في شراء السجائر مطلبه. باختصار، هو يدير الحياة خارج السجن أو قل المسؤول -مقابل المال طبعًا- عن توفير كل شيء يجعل انتظار الأهالي غير مرهق. ولا يستثنى من قائمة مؤنه إلا كراسي الجلوس. فقد انخفض عدد الزائرين مع نقل عدد كبير من النزلاء إلى المنشآت العقابية المعلن عنها حديثًا في وادي النطرون وبدر. ذلك القرار الذي أعقب بدء تنفيذ إغلاق 12 سجنًا قديمًا، كانت الحياة خارجها مصدر رزق لعديدين، بينهم “محمد”، الذي يعمل بأحد المقاهي المقابلة لـ”طرة”.
إغلاق 12 سجنًا قديمًا.. لما تروج الدولة؟
الخميس، أعلن مساعد وزير الداخلية لقطاع الحماية المجتمعية، اللواء طارق مرزوق، أن السلطات قررت إخلاء 12 سجنًا (قرابة 25% من السجون المصرية)، بالتزامن مع تشغيل مركزي الإصلاح والتأهيل الجديدين بوادي النطرون وبدر. كان ذلك خلال جولة تفقدية لـ”مركز الإصلاح والتأهيل” في وادي النطرون (شمال البلاد)، صحبة دبلوماسيين وحقوقيين وإعلاميين.
تروج الدولة لمجمعات السجون الجديدة بأنها تمتاز بالتهوية والإنارة الطبيعية والمساحات المناسبة وأماكن إقامة الشعائر الدينية وممارسة الهوايات وساحات التريض. بينما لا ينفك الحديث في وسائل الإعلام المحسوبة على الحكومة عن قيمة الحياة التي يجب أن توفر حتى لنزيل المؤسسات العقابية؛ حتى لا يعاقب مرتين.
قدّرت الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان عدد السجون الرئيسية في مصر بـ78، بينها 35 تم إنشاؤها عقب ثورة يناير/كانون الثاني 2011. وعادة ما كانت تواجه الحكومة انتقادات محلية ودولية بشأن أوضاع السجناء. لا سيما في السجون شديدة الحراسة. فيما يشكك البعض في جدوى المؤسسات العقابية الجديدة ودورها في إتاحة حياة أفضل للنزلاء. وهؤلاء يشيرون إلى ما يثار من اتهامات حول سياسة التعامل داخل السجون، وهو أمر لا يتغير بتغير المنشأة العقابية وإنما بتغيير سلوكيات القائمين عليها.
كما رد البعض بناء مجمعات السجون الجديدة هذه في الصحراء إلى “نية الحكومة نقل المساجين من طرة لإخلاء المساحة الضخمة التي يحتلها على ضفاف النيل وسط العاصمة القاهرة”. وذلك في إطار الاستفادة منها في بناء مشاريع استثمارية توفر مواطن عمل جديدة. وقد أشارت وزارة الداخلية، في بيان صحفي، إلى إغلاق ثلاثة سجون عمومية إضافية عقب التشغيل الفعلى لمجمع بدر
وادي النطرون وبدر.. السجن على الطراز الأمريكي
يقع مجمع سجون وادي النطرون عند طريق مصر-الإسكندرية. وهو واحد من بين 7 أو 8 سجون في مصر ستصمم وفقًا للطراز الأمريكي، بحسب تصريحات سابقة للرئيس عبدالفتاح السيسي. وقد تم تشييده في مدة لا تتجاوز 10 أشهر. وتبلغ مساحته مليونا و700 ألف متر مربع، ما يجعله أكبر سجن تم بناؤه في مصر.
كما أن المجمع له مدخل ومخرج واحد، ويتكون من مبانٍ عدة. ويضم مركزًا للتأهيل والتدريب على الحرف، بالإضافة لمستشفى مركزي.
أما مجمع سجون بدر، فيضم 3 مراكز فرعية تم إعدادها لاستقبال النزلاء الذين يقضون مددا قصيرة. حيث يتم التركيز على تأهيلهم مهنيًا فى الأعمال اليدوية وتسويقها لصالحهم، وفق ما أعلن رسميًا. كما يضم مركزا طبيًا مجهزا بسعة 175 سريرًا وغرفتي عمليات وحجرة عمليات قسطرة، و18 غرفة عناية مركزة، و11 عيادة خارجية و4 وحدات للغسيل الكلوي. فضلاً عن فصول تعليمية وأربع قاعات حديثة لعقد جلسات المحاكمات، وأماكن خاصة للزيارة.
لا تغلقوا السجن.. لا نقلق على الرزق فقط
يعود “محمد” بالذاكرة إلى أن كان ابن 8 أعوام، وجد والدته تمارس نفس المهنة في إدارة مقهى الأسرة المقابل للسجن. هنا كبر وشاركها وجمعتهما علاقات وتواصل مع أهالي السجناء. “كان الأهالي يتصلون بوالدتي للاطمئنان عليها، ويسألونها عن أخبار الزيارة والممنوعات التي يرفض السجن إدخالها”. يقول واصفًا العلاقة التي ربطت أسرته بأهالي النزلاء.
ما يؤرق “محمد” حاليًا ليس البحث عن مصدر رزق جديد بديلاً لمقهاه الذي تضرر بإغلاق السجن. وإنما يبدو أنه سيكون بحاجة أيضًا إلى البحث عن مأوى. فكما يروي كانت تلك المنازل المواجهة للسجن التي يقطنونها استراحات للضباط قديمًا، وتحولت إلى مساكن للسجانين. ثم انتقلت ملكيتها إلى الأهالي ومنهم أسرته التي توارثت هذا المنزل الصغير المكون من طابقين. بينما مع إحلال السجن بمشروع استثماري جديد، قد تؤول المنطقة كلها إلى الإحلال، بغرض استثمار هذه المساحة الشاسعة.
سجن طرة سيتم غلقه بالكامل لاستثمار موقعه لأنه يطل على النيل وتبلغ قيمته بالمليارات. ومعه سيتم نقل المنطقة المقابلة له، والسكان إلى مناطق أخرى. وهو أمر اتبع في مناطق عدة سابقًا. مثل منطقة بشاير الخير في الإسكندرية، ونزلة السمان في الهرم.
تقع مجموعة سجون طرة أمام محطة مترو طرة البلد في منطقة طرة جنوب غرب حلوان. ويقع جزء كبير من السجن على النيل مباشرة. وهو محاط بمجموعة أبراج خاصة بضباط الشرطة تم إنشاؤها عام 1997، بحيث تكون أعلى البنايات المواجهة للسجن.
يضم المنزل المكون من طابقين أسرة محمد المكونة من 8 أشخاص، وهم يتوزعون على شقتين. يقول: “عند إحلال المنطقة ونقل أهلها سيمنحونا شقة واحدة فقط، لن تكفينا. ذلك ما حدث في حالات مماثلة.. الدولة لن تسعى لتوفير أعمال بديلة لنا. وفي حالة توفير مساكن عند نقلنا ستكون شقة لكل أسرة. وهناك أسر لن تحصل على شقق لأنها لا تملك عقود ملكية للأرض التي يقيمون عليها”.
“مشنّة الليمون” في رحلة جبرية.. ربما إلى سجن آخر
ارتبطت “مروة” مع أهالي السجناء بخفة دمها. كانوا يشترون منها الخبز والليمون، بينما تردد عليهم عبارة “الليمون بيطلع المسجون”، دعابةً. وهي على عكس “محمد” لا تملك شيئًا في محيط طرة سوى “مشنةً” تحوي بضاعتها، ستحملها حينما يحين الرحيل بحثًا عن تكوين صداقات جديدة. ربما في محيط سجن آخر، أو في مكان جديد لا يعرف الجدران العالية.
ومثل “مروة” لن يضار “علي” كثيرًا في عمله كـ”ركّين” يساعد أصحاب السيارات على صف مركباتهم. يقول: “الأزمة ليست في فرصة العمل فقط، ولكن أيضًا في تغير شكل الحياة، الذي سيحل بالمنطقة أجلاً أم عاجلاً”.
“علي” كان يستيقظ عقب صلاة الفجر، يخرج من منزله الذي يبعد بضع أمتار عن السجن، يستقبل الزائرين، منهم من تعود عليه وعرف موعد زيارته، وآخرون جدد يساعدهم في صف سياراتهم، ويعلمهم كذلك بشروط الزيارة وقواعدها وما عليهم فعله وما عليهم تجنبه.
رحلتان.. من الداخل إلى النطرون ومن الخارج نحو فرصة جديدة
مر سجن طرة بمراحل عديدة عبر العقود الماضية، وارتبط دائمًا بتيارات الاعتراض والمعارضة، والأحداث المؤثرة فى تاريخ مصر، بداية من العهد الملكي الذي أنشئ فيه السجن، مرورًا بالحكم الجمهوري الذي شهد تطورًا هائلاً في مرافق ومنهج الاحتجاز في مصر.
وينتظر هذا السجن حاليًا أن تطغى عليه البنايات والمشاريع الاستثمارية المقرر أن تحل محله فتخفي آثار تلك المراحل التي مر بها، وتزيل الأيام التي شهدت خروج السجناء منه، في لقطات وصفها من يعيشون أمام السجن، بأنها لحظات الرعب والتوتر، فسيارات الترحيلات المغادرة خلف بعضها، تبتلع داخلها سجناء من تيارات مختلفة، يحملون أمتعتهم التي وضعوها داخل بطانية لفوا حولها رباطًا يحكمها، كانوا يرددون من خلف النوافذ الصغيرة التي يغزلها السلك فيبعدها عن الشارع: “ادعوا لنا.. ادعو لنا”.
رحلتان تلخصان حكاية السجن المنسوب لطرة؛ رحلة جديدة للأهالي بحثًا عن ذويهم، والسجون التي تم توزيعهم عليها، وأخرى بحثًا عن فرصة يبدأها “محمد” و”مروة” و”علي” وغيرهم ممن كانت الحياة خارج أسوار السجن مصدرًا لأرزاقهم.