إطلاق «الاستراتيجة الوطنية لحقوق الإنسان» يمثل اعترافا ضمنيا من السلطة بأن ملف الحقوق والحريات في مصر مصاب بخلل، لذا صار «من المحتم بل من الواجب الوطني والمسئولية أمام التاريخ مواصلة العمل الجاد لإعمال كافة الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية على نحو يكفل المساواة وتكافؤ الفرص للجميع» ما يعني أنها قررت العمل على إصلاح الشروخ التي تمددت في هذا الملف على مدار العقود الماضية.

الاستراتيجة التي أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي في سبتمبر الماضي، أشارت إلى ضرورة وجود إرادة سياسية للمضي قدما وبجدية في الارتقاء بأوضاع حقوق الإنسان، وشددت على ضرورة الالتزام باحترام الدستور والتأكيد على مبادئ المواطنة وسيادة القانون في إطار من المساواة وعدم التمييز.

ولفت واضعو تلك الوثيقة التي تعد «أول استراتيجية وطنية متكاملة لحقوق الإنسان في مصر» إلى أن المبادرة بإعدادها تمثل ترجمة لقناعة وطنية ذاتية بضرورة اعتماد مقاربة شاملة وجدية لتعزيز حقوق الإنسان والحريات الأساسية.

وبشرونا كما بشرنا الرئيس أن تلك الاستراتيجية تهدف إلى النهوض بكافة الحقوق المتضمنة في الدستور والتشريعات والاتفاقيات الدولية والإقليمية المنضمة إليها مصر، «تحقيقا للمساواة وتكافؤ الفرص دون أي تمييز»، وتعهدوا بأن تكون هذه الوثيقة «خارطة طريق وطنية طموحة في مجال حقوق الإنسان».

في كلمته التي صاحبت إطلاق الاسترايتجية أعلن الرئيس السيسي أن عام 2022 سيكون عام المجتمع المدني، داعيا إلى مواصلة العمل لتحقيق التنمية المستدامة ونشر الوعي بثقافة حقوق الإنسان والمساهمة في تحقيق آمال وطموحات الشعب المصري، مؤكدا احترام مصر لجميع التزاماتها التعاهدية ذات الصلة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية، «إن ما ننشده هو ضمان تمتع المجتمع المصري بحقوقه كاملة، بما يضمن للوطن أمنه واستقراره، الأمر الذي يستلزم بذل مزيد من الجهد الصادق والعمل الدؤوب من أجل تعزيز مسيرة حقوق الإنسان، فأبناء مصر يستحقون الأفضل دائمًا».

بذلك تكون السلطة أخذت على نفسها عهدا أمام شعبها بتنفيذ ما جاء في تلك الوثيقة والشروع في تحقيق «خارطة الطريق» التي طرحتها على الرأي العام بإرادتها الحرة ودون أي ضغوط، وعن قناعة تامة بأن «الشعب المصري الذي قام بثورتين في عامي 2011 و2013 مطالبا بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وبإعلاء قيم الحرية والكرامة والإنسانية والعدالة الاجتماعي»، يستحق أن نحقق له آماله وأحلامه.

كاتب هذه السطور سينحاز هذه المرة إلى فريق المتفائلين، ويتعامل مع هذه الوثيقة على أنها خط فاصل بين مرحلتين، الأولى مرحلة ما بعد 2013 وحتى نهاية 2021، والتي وضعت فيها مواد الدستور والمعاهدات والاتفاقات الدولية ذات الصلة بالحقوق والحريات المدنية والسياسية على «الرف» بدعوى أن الدولة كانت تمر بحالة اضطراب وتواجه حربا على الإرهاب، وفي أوقات الحروب يُعاد ترتيب الأولويات، هكذا بررت السلطة ومنابرها الإعلامية تجاهلها لمطالب الشعب المصري الذي خرج بالملايين للمطالبة بالحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة، فاستمر العصف بحقوقه وحرياته دون النظر إلى تضحياته وطموحاته.

المرحلة الثانية وهي التي من المفترض أن تبدأ مع بداية هذا العام «2022» والتي وضعت الاستراتيجة الوطنية لحقوق الإنسان خارطة طريقها وأسهبت في توصيف أعراضها وشرح تحدياتها ووضع أُطر زمنية لتنفيذ مستهدفاتها، حتى يتحول ما جاء في الوثيقة إلى واقع ملموس ويشعر الشعب الذي تم تهميشه وإخراجه من معادلة الحكم والسياسة أن الدولة أخيرا تذكرت حقوقه.

تناولت الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان العديد من المحاور، وسنقف في السطور القادمة عند الجزء الخاص بحرية التعبير والذي جاء في سياق تناول الوثيقة لـ«محور الحقوق المدنية والسياسية».

أعادت الاسترايتيجة التأكيد على ما جاء في مواد الدستور من حق المواطنين في التعبير عن رأيهم بكل الوسائل، وحقهم في الحصول على المعلومات ونشرها، وشددت على استقلالية الصحف ووسائل الإعلام، وحظر فرض الرقابة عليها إلا في زمن الحرب والتبعئة العامة، وحظر توقيع عقوبات سالبة للحرية في الجرائم التي تقع عن طريق النشر والعلانية.

وتحت عنوان «التحديات»، أشارت الاستراتيجية على استحياء إلى أنه رغم تنوع وسائل الإعلام إلا أنها لا تعكس بالقدر اللازم تعددية الرؤى والآراء. ووضعت الوثيقة عددا من النتائج المستهدفة على رأسها إصدار قانون لتنظيم حق الحصول على المعلومات، وتعزيز مناخ حرية التعبير والتعددية وتنوع الآراء إزاء مختلف القضايا العامة، ومراجعة القوانين القائمة لضمان كفالة ممارسة الحق في التعبير عن الرأي.

إذن وكما اعترفت الوثيقة ولو بشكل ضمني بأن هناك خلل في ملف الحقوق والحريات في مصر، أشارت أيضا إلى أن حال الصحافة والإعلام هو انعكاس مباشر لهذا الخلل، لكن الوثيقة لم تذكر من الذي تسبب في صناعة هذا الخلل وكيف وصلنا إليه.

ترى السلطة أن حالة «الانفلات الإعلامي» التي أعقبت ثورة 25 يناير هي السبب الرئيسي الذي دفعها لاتخاذ خطوات لم تكن لتأخذها لو كانت الصحف والفضائيات التزمت بقواعد العمل الصحفي المهني المتعارف عليها، وترى أيضا أن بارونات الإعلام الذين طفوا على السطح خلال تلك الفترة وضخوا المليارات في شرايين الإعلام المصري، لم تكن أهدافهم صناعة محتوى إعلامي من «أجل الله والوطن والمواطن»، فكل منصة من تلك المنصات التي ضخ مُلاكها المليارات وتحملوا خسائرها لسنوات كان لها أهداف أخرى ليس لها علاقة بقواعد الربح والخسارة ولا حتى بدعم «بيزنس» هؤلاء المُلاك الذين اتضح لاحقا أن بعضهم لم يكن سوى قائم بالأعمال لصالح جهات أخرى.

بدعوى أن المنصات الإعلامية التي يملكها أشخاص مشكوك في مصادر أموالهم شهدت حالة من الانفلات غير المسبوق، وأن الدولة تخوض حربا ضد الإرهاب، قررت السلطة إحكام سيطرتها على كامل المنصات الإعلامية، وفرضت عليها حصارا لا يسمح لها بصناعة محتوى يقنع الجمهور المتلقي، فهجر هذا الجمهور وسائل الإعلام المصرية تباعا وبحث عن غايته في المعرفة أو حتى التسلية على منصات بديلة تقدم محتوى مختلفا، لكن المصيبة أن بعض تلك المنصات تمول بشكل أو بآخر من دول وأجهزة أو حتى أشخاص لا تختلف أهدافهم كثيرا عن الملاك السابقين لوسائل الإعلام التي تم تأميمها وحصارها، ومن الوارد بل بالتأكيد لهم فيها مآرب آخرى ليس من بينها الربح أو إرضاء الجمهور بصناعة محتوى إعلامي احترافي.

كان الأولى بالسلطة أن تعمل على تنظيم عمل وسائل الإعلام عبر إصدار تشريعات ولوائح تضبط وتسهل عملية صناعة المحتوى الإعلامي، كان عليها أن تبادر بمساءلة ملاك الصحف والفضائيات عن مصادر الأموال التي يتم ضخها في شرايين تلك المنصات وعن المكاسب والخسائر، ولدينا من القوانين ما يسمح بذلك، بدلا من عمليات السيطرة والإخضاع التي ثبت مع الوقت أنها سلمت الجمهور المصري إلى منصات توجيه أخرى لها أهداف ورسائل تمررها عبر المحتوى المختلف الذي تقدمه.

الآن وبعد نحو 6 سنوات من التدهور التدريجي في صناعة الإعلام، ونحن على أبواب «عام المجتمع المدني»، آن الأوان لأن ترفع السلطة يدها عن المنصات الإعلامية وأن تبادر بمنح صُناع الإعلام هامشا يمكنهم من إنتاج محتوى تنافسي تعود فيه الانفرادات و”الخبطات” وتتنوع فيه الآراء وتتعدد وجهات النظر المؤيدة والمعارضة، هامش يسمح بنقد ومراجعة أي مسئول في الدولة، لتصبح الصحافة صوت الناس لا صوت الحكام، حينها ستستعيد وسائل إعلامنا الجمهور الذي تركها احتجاجا على ما تقدمه من جرعات توجيه وإرشاد ووصلات تجميل وتأييف.

إصلاح المنظومة الإعلامية واستعادة الجمهور لن يكون بطرح جزء من أسهم الشركة المالكة لمعظم المنصات الإعلامية في البورصة، لكن بتحرير الإعلام من القيود ومراجعة وتنقية التشريعات القائمة من المواد التي قننت الحصار، وهذا لن يتم إلا بوجود إرادة سياسية حقيقية تؤمن بحق المواطن في المعرفة حتى يشكل رأيا يساعده على الاختيار.

الشروع في إنفاذ نصوص باب الحقوق والحريات بالدستور، ومواد الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان والتي اعتبرتها السلطة «خارطة طريق طموحة» وتعهدت بتنفيذ ما جاء فيها، هو أول الطريق لإصلاح شروخ المنظومة الإعلامية.

وبحسب ما جاء في مقدمة الاستراتيجية، فإن «تحقيق الاستقرار والتنمية والتقدم يرتكز بالأساس على تعزيز احترام حقوق الإنسان». فالإعلام الحر والصحافة المستقلة من الحقوق التي كفلتها الدساتير والمواثيق الدولية، والدول التي سبقتنا على مضمار التقدم احترمت هذا الحق إلى حد التقديس، أما الدول التي ننافسها على التخلف والفقر فلا تزال تنتهك تلك الحقوق أو تتعامل معها باعتبارها ترفا لم يحن الوقت بعد لتحقيقه.